اقتصاد

المساءلة المالية ومحاربة الفساد في ليبيا – “ديوان المحاسبة” نموذجاً

  • مقدمة:

تشهد ليبيا منذ عام 2011، مرحلة انتقالية صعبة ومعقدة بعد الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي. تلك الفترة الانتقالية شهدت انقسامًا سياسيًا وعسكريًا وحتى اجتماعيا، مما أثر سلباً على استقرار البلاد وتنميتها. لكن إحدى أهم التحديات التي واجهت ليبيا خلال هذه الفترة؛ هي مسألة “المساءلة المالية ومحاربة الفساد“.


  • المساءلة المالية:

المساءلة المالية؛ عملية تقديم الحكومة أو الجهات الرسمية لتفسير دقيق لكيفية إنفاق الأموال العامة وموارد البلاد المالية، واستخدامها في مصلحة المواطنين عبر مشاريع وسياسيات مالية واقتصادية واضحة وشفافة ومُعلن عنها.


في الوضع الليبي الحالي حيث توجد حكومتيْن متنافستين في الشرق والغرب، تصبح المسألة أكثر تعقيدًا وأكثر غموضا وأكثر شبهة كذلك، ويُمكننا تعرية هذا الواقع من خلال النقاط التالية:


  1. تقسيم السلطة وتداخل الصلاحيات:

 تقسيم البلاد إلى حكومتين متنافستين، تسبب في تداخل الصلاحيات وتقاطُع المسؤوليات المالية. هذا الوضع يُصعِّب كثيرا عملية مراقبة ومساءلة الجهات المسؤولة عن إدارة الموارد المالية العامة، وتتبع عمليات الصرف والتحويلات وإنفاق هذه الأموال.


  • نقص الشفافية:

نقص الشفافية في إدارة الموارد المالية الليبية، يجعل من الصعب تتبع عمليات الإنفاق، ومعرفة ما إذا كان هناك انتهاكات أو فساد في التعامل مع الأموال العامة، والجهات التي تتلقاها، والحسابات المصرفية التي تُحوَّل لها، والفواتير التي تُحرر عنها.


عموما، تُعتبر قضية “محاربة الفساد” من أبرز التحديات التي تواجه ليبيا، بسبب تأثيرِه الكبير جدا على الاقتصاد والمجتمع، ويمنع تحقيق التنمية والتنمية المستدامة. كما أن هناك موانع كثيرة تحول دون محاربة هذا الفساد، إلا أن أهمّ هذه الموانع نجد:


  1. ضعف الهياكل القانونية: تُعاني ليبيا من ضعف في هياكلها القانونية والقضائية، مما يُصعب عملية محاسبة المسؤولين عن الفساد، وذلك لأن أغلب هؤلاء المسؤولين هم من يترأس أو يُشرف على كل الهيئات الرقابية والقضائية.
  2. الاقتصاد غير الرسمي: يعزز الاقتصاد غير الرسمي انتشار الفساد من خلال تسهيل الصفقات غير المشروعة والتهرب الضريبي، والمحسوبية والزبونية وتقديم الولاءات القبلية والمصالح العشائرية على مصالح البلاد. ما جعل الاقتصاد الليبي اقتصادَ ريعٍ، لا يتركز في يد الدولة وإنما في يد أشخاص وعائلات ولوبيات كبيرة مُتحكمة في نسب مهمة من مقدرات البلاد الاقتصادية
  1. ثقافة الفساد: أصبح الفساد جزءًا من الثقافة المجتمعية في ليبيا، وذلك بسبب سلاسل الفساد الممتدة من على طول العملية التجارية أو الاقتصادية، وبالتالي يزدادُ منسوب تدعيم ثقافة الفساد في ليبيا، ليس فقط بين اللوبيات والشركات، وإنما حتى بين المواطنين. وهذا يتطلب جهودًا مكثفة لتغيير هذه الثقافة ورفع مستوى الوعي حول أخطار الفساد.

ومن أجل تحقيق “المساءلة المالية” و”محاربة الفساد” في ليبيا، هناك العديد من التحديات التي يجب التغلب عليها نوردُ منها على سبيل المثال لا الحصر:


  1. الوحدة الوطنية:

يجب أن تعمل الحكومتين المتنافستين على تحقيق وحدة وطنية حقيقية، وإيجاد حلٍّ سياسيٍّ لإنهاء الانقسام الحالي، وإحلال الدولة المدنية، وتركيز السلاح في يد الجيش، وإنهاء الفصائل المسلحة، وإحياء العملية الديمقراطية وانتخاب الساسة والمؤسسات وتفعيل بنود الدستور الليبي. وتحريك المساطر الزجرية لقوانين مكافحة الفساد.


  1. بناء الهياكل القانونية:

يجب تعزيز النصوص والهياكل القانونية والقضائية في ليبيا، لضمان تقديم المسؤولين عن الفساد للعدالة وتحقيق المساءلة، وتفعيل المساطر لاستعادة الثروات المنهوبة خارج البلاد أو مصادرة الأموال المختلسة داخل ليبيا، مهما كانت الجهات التي استولت عليها.


  1. تعزيز الشفافية:

ينبغي زيادة مستوى الشفافية في إدارة الموارد المالية، ونشر المعلومات بشكل مفتوح لضمان تتبع الأموال العامة، وذلك من خلال رقمنة كل البيانات والمعطيات المالية والاقتصادية والاستثمارية، وإتاحتِها للعموم على موقع الحكومة الرسمي. ما يجعل التلاعب بالصفقات والميزانية محط متابعة وافتحاص من طرف الجميع.


  1. التعاون الدولي:

لمكافحة الفساد بنجاح وبفعالية كبرى في ليبيا، يجب تعزيز التعاون القضائي الدولي مع منظمات دولية وجهات داعمة حكومية وغير حكومية، لتعقب الأموال المنهوبة إلى خارج ليبيا، وتوكيل خبراء ماليين واقتصاديين ومحامين كبارا في هذا الباب.


هذا التعاون يمكن أن يساعد في استرجاع الكثير من السيولة المالية للخزينة الليبية، وكذا تقديم الخبرات والموارد اللازمة لبناء هياكل مؤسساتية قضائية وقانونية قوية، قادرة على تعزيز الجهود في مجال المساءلة ومكافحة الفساد وتفعيل المتابعة القانونية للمتورطين.


  1. إصلاح القطاع المالي والمصرفي:

يجب مباشرة العمل على إصلاح القطاع المالي والمصرفي في ليبيا، بما في ذلك تطوير نظام الضرائب، وتعزيز إدارة الموارد المالية، وتفعيل نُظم المراقبة والتتبع.


بالإضافة إلى ضخ المزيد من الكفاءات في الإدارات المالية الليبية، وتوسيع صلاحيات الإدارة في اتخاذ القرارات عبر مجالس إدارية وليس عبر شخص المدير.


لكن أهم خطوة هي توحيد الإجراءات والقوانين المنظمة للقطاع المالي والمصرفي الليبي بين حكومتيْ الشرق والغرب. كل هذا سيساعد في تقديم المزيد من الموارد للبنية التحتية والخدمات العامة المالية والمصرفية في عموم ليبيا.


  1. تعزيز مشاركة المجتمع المدني:

يجب تشجيع مشاركة المجتمع المدني في مراقبة السلطة ومراقبة الأنشطة المالية الحكومية. ويتم هذا عبر الهيئات والجمعيات والمنظمات غير الحكومية والتنسيقيات المدنية، التي تواكب وتراقب عن كثب كل الأنشطة المالية من مشاريع وتمويل وصفقات اقتصادية.


والتعريف بها في الصحافة والندوات ونشر التقارير بشكل واسع على الشبكة العالمية لتكون متاحة للشعب الليبي ولتتبُّعِها. كل هذه الإجراءات يُمكن أن تساهم بفعالية في زيادة الشفافية ومراقبة الأنشطة المالية للحكومتيْن.


  1. التعليم ورفع الوعي:

يجب توجيه جهود توعية وتثقيف المجتمع حول أخطار الفساد وكيفية التصدي له، وذلك من خلال برامج ونُظم تعليمية ممتدة في جميع المستويات الدراسية في ليبيا، لخلق وعي جمعي بخطورة الفساد، وتخريج أجيال واعية تتمتع بثقافة الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتقديم مصالح البلاد والأمة على المصالح الشخصية.


ومن أجل تحقيق كل هذه التحديات وصولا للتنمية المستدامة، وانتهاءً بتحقيق استقرار سياسي واقتصادي وأمني للبلاد، يجب أن تكون المساءلة المالية ومحاربة الفساد في قلب الجهود الوطنية وما تتطلبُهُ من صبر والتزام ونُكران الذات.


  • ديوان المحاسبة: دوره وأهميته في محاربة الفساد

ديوان المحاسبة؛ مؤسسة حكومية مهمة في ليبيا، مكلفة بالمسائلة المالية ومحاربة الفساد والتحقيق في العمليات والصفقات المشبوهة. ويلعب هذا الجهاز دورًا حيويًا في مراقبة الأموال العامة وتقديم التقارير والتوصيات بشأن الإصلاحات اللازمة.


وقد تأسس هذا الديوان بموجب القرار الرئاسي رقم 127 لعام 1972م، وتم تعديل نظامه وإصدار القانون رقم 8 لعام 2009م ليواكب التطورات الحديثة. الهدف الرئيسي للديوان هو مراقبة الإنفاق الحكومي وضمان استخدام الأموال العامة بشكل فعال ونزيه وبحسب الأولويات.


  • دور ومهام ديوان المحاسبة في محاربة الفساد

يأتي ديوان المحاسبة في سياق برامج مكافحة الفساد التي سنّتها الحكومات الليبية السابقة، والديوان هو الجهاز الرئيسي في هذه المنظومة، حيث تنحصر مهامُه في مراقبة الأموال العامة والإنفاق الحكومي وميزانية البلديات بشكل عام، أما أدوارُه التفصيلية فتتجلى في التالي:


  1. التدقيق والرصد:

يقوم ديوان المحاسبة بتنفيذ عمليات التدقيق والرصد لحسابات الجهات الحكومية والهيئات العامة وميزانيات البلديات، ويتم هذا عبر الفحص الدقيق للسجلات المالية، والتحقق من مدى تطابقها مع اللوائح والقوانين المالية الرسمية.


  1. تقديم التقارير:

بناءً على نتائج التدقيق والرصد، يقوم ديوان المحاسبة بإعداد تقارير مفصلة، تحتوي على الاستنتاجات والتوصيات التي خلصت إليها لجنة الفحص. تلك التقارير تُقدم إلى الجهات المعنية الأمنية والقضائية لاتخاذ الإجراءات اللازمة.


3. الرصد المالي:

يقوم الديوان بمتابعة الإيرادات والمصروفات الحكومية والمشروعات الممولة بالأموال العامة لضمان استخدامها بكفاءة ونزاهة، سواءً الإرادات الداخلية الناجمة عن الضرائب وعائدات الشركات الوطنية، أو عائدات الدولة من الصادرات النفطية والفلاحية.


  1. التحقيق في الشكاوى:

يُقدم ديوان المحاسبة؛ الدعم في التحقيقات حول الشكاوى المتعلقة بالفساد المالي وإساءة استخدام الأموال العامة، بغض النظر عن المتقدمين بهذه الشكاوى سواءً كانوا أفرادا أو مؤسسات.


  1. توعية الجمهور:

يلعب ديوان المحاسبة كذلك؛ دورًا أساسيا في توعية الجمهور حول أهمية المساءلة المالية ومحاربة الفساد، وتكريس ثقافة المال والأعمال موازاة مع الحكامة والمحاسبة والتدقيق.


وذلك من خلال إصدار تقاريره بشكل دوري، والمشاركة في حملات توعية في المؤسسات التعليمية وفي الفعاليات الوطنية.


عموما؛ وعلى الرغم من دور ديوان المحاسبة المهم في إقامة الشفافية المالية في البلاد، إلا أن هناك تحديات كثيرة تواجهه في محاربة الفساد في ليبيا ومن هذه التحديات نورد:


  1. التحديات الأمنية:

   بسبب الظروف الأمنية غير المستقرة في البلاد، فإنه من الصعب على ديوان المحاسبة الوصول إلى كافة المناطق، وتغطية البلديات الليبية كاملة، لتنفيذ عمليات التدقيق والرصد والتتبع بشكل فعال.


7. نقص البنية القانونية:

  يُعاني ديوان المحاسبة الليبي من ضعف بعض القوانين وغياب البعض الآخر، بما يُواكب التطورات المتسارعة في البلاد، في ظل الانقسام السياسي ووجود حكومتيْن.


ما يتطلب تعزيز البنية القانونية وتطوير التشريعات ذات الصلة لضمان تنفيذ التوصيات والقرارات وتعميمها بقوة القانون في كل البلاد.


  1. توجيه الموارد:

   يجب تخصيص المزيد من الموارد المالية والبشرية، لتمكين ديوان المحاسبة من أداء دوره بكفاءة عالية، وتغطية كافة الترابي الليبي بالوسائل البشرية والفنية واللوجستية اللازمة لسهولة وسرعة التنقل والمعاينة والتتبع والرصد.


  1. تعزيز التعاون الداخلي والخارجي:

   تعزيز التعاون مع الجهات المعنية والمجتمع المدني، سيعزز من دور ديوان المحاسبة في مكافحة الفساد، وكذلك ربط خطوط اتصال مع التجارب الدولية الرائدة في مجال العدالة المالية ومكافحة الفساد من أجل تطوير أداء الديوان والرفع من فاعليتِه.


خلاصة القول؛ فإن مؤسسة “ديوان المحاسبة” في ليبيا، يُعتبر حجر الزاوية في مكافحة الفساد بكل أنواعِه وخاصة الفساد المالي. إذ يلعب دورًا أساسيًا في تعزيز المساءلة المالية والنزاهة الاقتصادية وأداةً أساسية لتحقيق التنمية المستدامة في ليبيا.


  • المراجع:

 

Financial Accountability and Public Financial Management in Libya” – )World Bank).

Transparency and Accountability in Public Financial Administration: The Case of Libya” – Mohsen M. Al-Mahjoub.

Corruption and Transparency in Post-Gaddafi Libya” – Karim Mezran.

Libya’s Economic Predicament: Privileges and the Old Corruption” – Libya Institute for Advanced Studies.

Public Financial Management: An Essential Ingredient of Good Governance” – United Nations Development Programme (UNDP).

The Role of Civil Society Organizations in Promoting Fiscal Transparency and Accountability in Libya” – American University in Cairo.

Public Financial Management and the Challenges of Fiduciary Accountability: The Case of Libya” – Governance and Social Development Resource Centre (GSDRC).

أشرف السعداوي

باحث ليبي، متخصص في الاقتصاد السياسي والحوكمة المالية، حاصل على شهادة الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس الرباط - المغرب. عضو مختبر "الحكامة في إفريقيا والشرق الأوسط"، ناشر في عدد من المجلات والدوريات العلمية العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى