اقتصادالتنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر

“الحكامة” .. المفهوم، الأبعاد والتوظيف

أصبح مفهوم “الحكامة” اليوم، من أكثر المفاهيم تداولا وإشعاعا في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والتنموية في العالم. وفي الوقت الذي لا يزال فيه هذا المفهوم قليل الاستعمال والتوظيف في بلدان العالم الثالث والدول النامية. أصبح نمط حياة ومنهج عملٍ في دول العالم الأول والدول المتقدمة.


وعند إلقاء نظرة سريعة على نسبة وُرود كلمة “الحكامة” في الدراسات والأبحاث الأكاديمية العربية، خصوصا المتعلقة بعلوم الاقتصاد والمال والأعمال ومراقبة أداء فعالية المؤسسات. فإن النسبة متواضعة جدا. وتَعرف فروقاتٍ وتبايُناتٍ كبيرة بين هذه الدول.


حيث تحضُر بشكل كبير في بلدان بِعيْنها مثل (الإمارات، قطر، السعودية، الكويت، المغرب، تونس، مصر..)، فيما يقل حضورُها بشكل كبير في الدول العربية التي تعيش أزماتٍ سياسية وصراعات داخلية من قبيل (اليمن، السودان، سوريا، ليبيا، العراق، فلسطين، موريتانيا…).


على العكس من ذلك، تكتسح مُفردات ومفاهيم “الحكامة” كلَّ المجالات والتخصصات في الدول المتقدمة والدول الغربية على وجه الخصوص، إذ بِبَحثٍ بسيط على مُحركات البحث (غوغل، غوغل سكولار) عن لفظة (governance) بالإنجليزية أو (gouvernance) بالفرنسية، فإن كمَّ الدراسات والأبحاث والمقالات التي تحصلُ عليها كبير جدا ويكادُ لا يُحصى.


والمثير في هذه النتائج، هي امتدادُها في الزمن، حيث تجدُ دراساتٍ قديمة ودراسات جديدة، بل وحديثة، وبالتالي؛ فإن تحيين المعطيات والمعلومات مُتوفر دائما في هذه الدراسات.


بل أكثر من ذلك؛ نجد أن ثقافة “الحكامة” مُتجذرة في بعض الأنظمة السياسية المتقدمة مثل كندا، حيث نجد شعار البلاد السياسي الرسمي هو: “السلام، النظام، الحكومة الجيدة”.


أما على مستوى الإنتاج العلمي العربي في هذا الباب، فهو متواضع جدا، بحُكم تواضع تجربة الحكامة في البلدان العربية، وأغلب هذه الإنتاجات إما ترجمات للمُنجز الغربي، أو تحليلات ومقترحات لا تتجاوز المستوى النظري ولا يلتفت إليها أحد، وأغلبُها يعود لتجارب القرن الماضي.


  • الحكامة نماذج عربية مهمة

لقد ظهرت محاولات منظمة في ربوع الوطن العربي عبر مؤسسات ومراكز ومعاهد بحثية  للتعريف بمبدأ الحكامة وإشاعتِه كمنهج عمل للمؤسسات والمرافق في القطاعين العام والخاص، لتعزيز دور الجامعات والمعاهد البحثية في تخريج الأطر والنخب المتخصصة والخبيرة في الحكامة المالية والسياسية والاستراتيجية.


فظهرت بذلك عدد من المؤسسات والمعاهد والمختبرات الرائدة في هذا المجال، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كلا من: “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات“، و”معهد الدوحة“، و”الجمعية الدولية لبحوث القطاع الثالث (International Society for Third Sector)، و”منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا“.


لكننا سنقف عند تجربة مهمة تستحق التعريف بها، وهي “مختبر الحكامة في إفريقيا والشرق الأوسط“، الذي أسسَه الدكتور؛ “محمد حركات”، أستاذ الاقتصاد السياسي والحكامة الاستراتيجية والمالية العامة بجامعة محمد الخامس بالعاصمة المغربية، الرباط.

منصة بالعربية للدراسات والأبجاث الأكاديمية

وينضوي تحت هذا المختبر فريق بحثي مكون من طلبة الدكتوراه وهم خليط متنوع من طلبة المغرب وإفريقيا والشرق الأوسط، الذين يستفيدون من تكوينات مهمة في هذا المجال.


ونظرا لما لإفريقيا والشرق الأوسط من أهمية اقتصادية وسياسية وجغرافية واستراتيجية، إلا أنها لا تستفيد بالشكل الأمثل من مقدراتها الطبيعية والبشرية الهائلة، لسوء التسيير وغياب الحكامة والتدبير الجيد لهذه الموارد والطاقات.


وبالتالي؛ يسعى المختبر إلى تخريج طلبة أكفاء في مجال الحكامة والدراسات الاستراتيجية، قادرين على طرح نظريات ورؤى وأفكار مبتكرة في هذا الباب، وكذا إنجاز دراسات وبحوث جامعية متخصصة في الحكامة والتدبير.


يستفيد منها المسؤولون، على مستوى تحسين النمو الاقتصادي وإقامة هياكل وبنيات حقيقية وسليمة للحكامة الجيدة والتدبير المُعقلن، وإقرار مبدأ النزاهة وتفعيل بنود وقوانين المحاسبة وتحريك مسطرة المتابعة القضائية وإنزال العقوبات بمن يثبت تورطه في الفساد.


وتقوم استراتيجية هذا المختبر بشكل أساسي، على فتح حوار بحثي وعلمي ومعرفي وأكاديمي مع المؤسسات والأفراد، لإشاعة فكر ومنهجية الحكامة والعمل على بناء القدرات.


من خلال بناء إدارة أو مجموعة عمل متكاملة ومنسجمة ومتسقة ومتماسكة، لها من الخبرة والتكوين والأهلية ما يُمكنها من اتخاذ القرارات الصحيحة، وسنِّ السياسيات المناسبة لذلك.


  • دور الحكامة في تدبير الأزمات

يعتقد البعض أن سياسة الحكامة، تقتصر فقط على رفع جودة المؤسسات المالية والخدمية ورفع مردوديتها الربحية أو كفاءتِها التسييرية، لكن الحكامة تتعدى هذا الفهم إلى مستويات أكبر.


ولعل أهم أدوار الحكامة، هو ما يتجلى في الحاجة الماسة إليها في الكوارث وإدارة الأزمات وترشيد الموارد والإمكانيات. وسرعة التدخل للاستجابة لحاجات الفئات الأشد تضررًا.


خصوصا عندما تنهار مرافق الدولة أو تقف مؤسساتُها عاجزة أما الكوارث والهزات الكبرى. وبالتالي؛ فإن الحكامة هنا؛ تتجلى على نوعيْن، إما على شكل مجموعات عمل وتسيير وتَدَخُّل، تُمسك بزمام الأمور وتعيد إدارة وتشغيل المرافق وفق نموذجها المُعد مسبقا.


أو من خلال شركات ومؤسسات خاصة وطنية أو دولية، لها خبرة وباع طويل في مثل هذه الأزمات. وتُجيد حكامة الموارد والإمكانيات وتقدير الحاجيات والمتطلبات.


وهذا ما نلمسُه بشكل جلي في المؤسسات والمنظمات الدولية، وبعض الشركات العالمية التي تعرضُ خدماتِها في وقت الأزمات والكوارث والحروب. وقدّم بعضها خبرات للعمل من أجل إدارة المجتمع في ظروف غياب الدولة وفشلها.


أما التحدي الأبرز الذي بات يستدعي منطق الحكامة، ويُلح في ضرورة التعجيل بتبنيها وتعميمِها على كافة الإدارات والمؤسسات والأنظمة السياسية والاقتصادية في الوطن العربي وفي دول إفريقيا، هو تحدي الجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية.


وبالتالي؛ وجب توسيع نطاق المعاهد والمختبرات البحثية العربية التي تُعنى بدراسة القضايا المتصلة بالصراعات والإرهاب والجماعات المسلحة، وتأثيراتُها على البلاد والمجتمع حاضرا ومستقبلا. وطرحِ حلولٍ علمية ممكنة لما يجب القيام به لإعادة بناء الدولة واستعادة السيادة.


  • الحكامة في إفريقيا من منظور الأمم المتحدة

طرحت الأمم المتحدة أهدافا تسعى لتحقيقِها على مستوى التنمية المستدامة بحلول سنة 2030، عن طريق الحث على تفعيل مبدأ الحكامة لتعزيز السلم في المجتمعات، والدفع نحو الوصول إلى العدالة الشاملة، عن طريق تفعيل دور المؤسسات المنوط بها ذلك. وذلك في 51 دولة عبر العالم، منها 18 دولة في إفريقيا وحدها.


ويُمكن تعليل هذا العدد الكبير من الدول الإفريقية المنخرطة في هذا البرنامج الأممي، إلى سمعة إفريقيا السلبية كمنطقة تعاني من تحديات كبيرة في الحكامة، بسبب الفساد المالي والاقتصادي والسياسي، والحروب والمجاعات وضعف البنية الصحية، وغياب الديمقراطية..،


وغالبا ما تتزايد هذه التحديات بسبب الأزمات والكوارث، بخلاف العديد القليل من الدول الغربية التي لم تنخرط في هذا البرنامج، لأنها شرعت فيه فعليا منذ عقود كثيرة، وبعضُها انخرط فيه منذ عشرينيات القرن الماضي. وتجني الآن نتائجَه على كافة المستويات والصُّعد.


 ويسعى مشروع الأمم المتحدة إلى إشراك 38 دولة إفريقية في هذا المشروع، بهدف جعل القارة الإفريقية، قارةً رائدة على مستوى العالم في مجال الحكامة، وذلك من خلال مراقبة المؤشرات والبيانات التالية.


  • الوصول إلى العدالة النزيهة.
  • التمثيل في المؤسسات العامة.
  • المشاركة السياسية وتداول السلطة.

ويتم رصد وتتبع هذه البيانات من طرف هيئات ومكاتب خاصة تابعة للأمم المتحدة من خلال بيانات المسح في مكاتب الإحصاء الوطنية الإفريقية، التي تضطلع بها وحدة الاستقصاء، التي تقوم بالإبلاغ عن أي خروقات أو انتهاكات مقصودة لهذه المؤشرات.


لكن النقطة الخلافية بين صناع السياسات في الدول الإفريقية تحديدا والخبراء الدوليين، تتمثل حول الأرقام والإحصائيات التي ترصُدها كل جهة حول مؤشر الحكامة، والتي غالبا ما تَعرف تبايُنا كبيرا.


ما يدفع البلدان إلى تعزيز “سيادة البيانات” لإحصاءات الحكامة، ما يتطلب المزيد من الإنفاق الحكومي لتطوير البنية التحتية الرقمية والإحصائية لهذه البلدان، وذلك بإنشاء مكاتب إحصاء وطنية على درجة عالية من الجودة.


وإنشاء مجموعات مخصصة في التقصي وجمع البيانات وتحليلها، وذلك بالتشاور مع جميع أطياف ومكونات المجتمع المدني، والباحثين والجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية.


طبعا؛ بالتعاون الوثيق مع مكاتب الإحصاء الوطنية في كل دولة. وإتاحتِها للعموم باعتبارِها منفعة عامة يجب أن تكون في متناول الجميع.


  • نبذة تعريفية عن الدكتور: محمد حركات

يعد الدكتور: محمد حركات؛ واحدًا من أبرز الأسماء الأكاديمية في عالم الاقتصاد الحكامة الاستراتيجية والمالية العامة، فهو ليس فقط أستاذًا مرموقًا في مجال تخصصِه، وإنما كذلك مفكرا ذو بُعد نظر وتوقُّع.


إذ تميزت كتبه ومؤلفاته بالعمق والتحليل النقدي الفريد، ما جعلهُ يحظى باحترام وتقدير الباحثين والقراء العرب والناطقين بالفرنسية في ربوع الوطن العربي.

مقابلة مع الأستاذ محمد حركات، رئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والحكامة الشاملة، المغرب - YouTube


وتعتبر مؤلفات الدكتور حركات مراجع تأسيسية مهمة للغاية في فهم مفاهيم الاقتصاد، والاقتصاد السياسي، والحكامة الاستراتيجية، والحكامة المالية العامة، بشكل أعمق وأكثر دقة وأكاديمية.


حيث تُناقش كتبه ومؤلفاته قضايا حيوية تتعلق بالسياسة الاقتصادية والتنمية المستدامة، ويسلط الضوء على تأثيرها على الاقتصاد العربي والإفريقي والعالمي، وانعكاسات ذلك على المجتمع.


كما تعالج مؤلفات الدكتور محمد حركات على توجيه الانتباه إلى مسائل مهمة مثل؛ العدالة الاقتصادية وتوزيع الثروة، ويقدم تحليلات مبتكرة حول كيفية تحسين النمو الاقتصادي وتعزيز الاستدامة.


عموما تُساهم أبحاث ومؤلفات الدكتور حركات، في تحفيز الحوار والتفكير حول قضايا هامة تؤثر في السلم والأمن الاقتصادي والمجتمعي العالمي.


ولا يقتصر إنتاج الدكتور حركات على الكتب والمراجع فقط، بل يمتد إلى مقالاته وأبحاثه المنشورة في المجلات العلمية والدوريات المرموقة. ما يعكس التنوع والثراء في الأفكار والمفاهيم والتحليلات التي يقدمها، أو التي يبني عليها أطروحاتِه.


ومن الجدير بالذكر؛ أن الدكتور محمد حركات، يحظى بشعبية كبيرة كأستاذ جامعي ومتحدث رئيسي في الفعاليات الأكاديمية والاقتصادية الدولية، كما يُعتبر ضيفا ذو لمسة خاصة في البرامج التلفزية من خلال طريقتِه الفريدة في التحليل بشكل منهجي شيق.


مراجع الدراسة:


  • معهد جنوب إفريقيا للشؤون الدولية (SAIIA)
  • برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)،
  • مكاتب الإحصاء الوطنية (NSO)
  • مكتب بناء السلام في ليبيريا
  • محمد حركات، الرقابة المالية في الأقطار العربية (كتاب جماعي)، المنظمة العربية لمكافحة الفساد، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، طبعة 2009.
  • محمد حركات، المساءلة والمحاسبة: تشريعاتها وآلياتها في الأقطار العربية (كتاب جماعي)، المنظمة العربية لمكافحة الفساد، لبنان، طبعة 2007.
  • محمد حركات، نظام النزاهة العربي في مواجهة الفساد، كتاب المرجعية، منظمة الشفافية الدولية، المركز اللبناني للدراسات، طبعة 2006.
  • محمد حركات،    مناهج وتقنيات الرقابة على المال العام (مترجم)، المحكمة الأوروبية للحسابات، الرباط، طبعة 2001.

أشرف السعداوي

باحث ليبي، متخصص في الاقتصاد السياسي والحوكمة المالية، حاصل على شهادة الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس الرباط - المغرب. عضو مختبر "الحكامة في إفريقيا والشرق الأوسط"، ناشر في عدد من المجلات والدوريات العلمية العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى