ذكرى 200 عام على ولادة فلوبير.. الالتزام بالمبادئ الجمالية
“وقوف فلوبير على حافة الجنون جعل منه أول الكتّاب المعاصرين. جنون فلوبير ليس واقعية، ولم يأت نتيجة محاكاة الواقع، أو إعادة إنتاجه، بل جاء رسالةً يؤديها ولغة يحكيها”. بهذه الكلمات، وصف المنظّر الأدبي والفيلسوف الفرنسي، رولان بارت، شاعرية غوستاف فلوبير.
بالنسبة لغالبية القراء، اشتهر فلوبير قبل كلّ شيءٍ برواية “مدام بوفاري”. أمّا في شأن مصير مؤلفاته، وخصائص أسلوب الكاتب، وعما جعل مؤلفاته معاصرة حتى في أيامنا، فهو حديثٌ آخر.
وُلِد غوستاف فلوبير/ Gustave Flaubert في 12 كانون الأول/ ديسمبر 1821. التحق بكليّة الحقوق في باريس عام 1840، وعاش خلال دراسته حياةً بوهيمية. في نهاية العام نفسه، طاف فلوبير مناطق جبال البيرينيه، وجزيرة كورسيكا.
بعد فشله في اجتياز الامتحانات الجامعية، وتعرضه لنوبة من الصرع، ترك الدراسة عام 1843. اتسمت حياة فلوبير بالغموض والميل إلى العزلة، مكرِّسًا وقته وقوته بالكامل للإبداع الأدبي. توفي والده عام 1846 مخلِّفًا له ثروةً طائلة، وبعد وقتٍ قصير لحقت أخته بأبيها. في الفترة بين عامي 1846 و1854، ارتبط عاطفيًا بالفنانة لويز كوليه، التي كانت العلاقة الوحيدة الرومانسية الجادّة في حياته، ولكنّه لم يتزوج، ولم ينجب، انطلاقًا من التزامه بمبدأ آمن به “عدم توريث أحد عارَ الوجود!”.
شارك فلوبير في ثورة 1848. بعد فشلها، زار خلال الفترة (1848 ـ 1854) مصر، والقدس، مرورًا بإيطاليا والقسطنطينية. في عام 1855، كثّف فلوبير لقاءاته بكثير من الكتّاب، من ضمنهم الأخوة غونكور/ Goncourt، شارل بودلير/ Charles Baudelaire، وكذلك إيفان تورغينيف/ Turgenev. بعد احتلال بروسيا لفرنسا، اضطرّ إلى التواري عن الأنظار. بعد وفاة والدته عام 1872، بدأت مشاكل فلوبير المالية، مما اضطرّه إلى بيع ممتلكاته وشقته الباريسية، وبدأ بنشر كتبه الواحد تلو الآخر.
في سنواته الأخيرة، تفاقمت مصاعبه المالية، وشهدت صحته تراجعًا مأساويًا، كما عانى كثيرًا من غدر الأصدقاء والمقربين. توفي فلوبير في 12 كانون الأول عام 1881، وحضر مراسم دفنه كثير من الأدباء، على رأسهم إميل زولا/ mile Zola/، ألفونس دوديه/ Alphonse Daudet، وإدمون غونكور/ Edmond de Goncourt.
- إبداعه
بدأ مشوار فلوبير الأدبي بكتابه “November”، الذي انتهى من تأليفه عام 1842. وفي عام 1849، أنهى قصته إغواء القديس أنتوني/ The Temptation of Saint Anthony .
ومن الطريف أنّ فلوبير طلب من أصدقائه الاستماع إلى القصّة بالكامل من دون مقاطعته، ومن دون إبداء أيّ رأيّ، الأمر الذي استغرق أربعة أيام، نصحه في نهايتها أصدقاؤه: “عليك إلقاء المسودة في النار، والتركيز على حياتك اليومية، بدلًا من هذه الفانتازيا”.
في عام 1850، وبعد عودته من رحلته من مصر، بدأ فلوبير العمل على روايته “مدام بوفاري”، التي ستصبح أهمّ أعماله. استغرق العمل في كتابة الرواية خمس سنوات كاملة، ونشرت عام 1856 على شكل سلسلةٍ في مجلة Revue de Paris.
في ما بعد، نشرت الرواية في كتابٍ يحمل العنوان نفسه، ولاقى أصداء حارة. في عام 1858، سافر فلوبير إلى قرطاج، بهدف جمع مواد لروايته التالية سالامبو، التي أنهاها عام 1862، بعد خمسة أعوامٍ من العمل. استنادًا إلى فترة شبابه، كتب فلوبير قصة تعليم المشاعر (Sentimental Education)، التي عدت واحدةً من أكثر الأعمال الأدبية تأثيرًا في القرن التاسع عشر، ونشرت في عام 1869.
كرّس فلوبير كثيرًا من وقته لتنفيذ مشروعه “بوفار وبيكوشيه/ Bouvard et Pécuchet”، الذي لم ينجز كاملًا، ولم يتوقف عن محاولاته إتمامه إلا ليكتب قصة “Three Tales” عام 1877 المكونة من ثلاث قصص قصيرة: “القديس جوليان المضياف”/ Saint Julian the Hospitalier، “قلبٌ بسيط/ A Simple Heart”، “هيرودياس”/ Hérodias.
بعد نشر القصص الثلاث، أمضى فلوبير بقية حياته يكدح ليكمل كتاب Bouvard et Pécuchet، محاولًا أن يجعله تحفة أعماله. طبع الكتاب فقط بعد وفاته عام 1881.
كان فلوبير ساخرًا هجائيًا، يتناول عبث المعرفة الإنسانية، وانتشار الرداءة، في كلّ مكانٍ. لم يتوقف عن العطاء، حتى في الفترة التي سبقت وفاته، فقد كان يعمل على روايةٍ تاريخية أُخرى بالاستناد إلى معركة البوابات الساخنة/ Thermopylae بين اليونانيين والفرس التي وقعت عام 480 قبل الميلاد.
- تراث فلوبير
ترك فلوبير أعمالًا عديدة أهمّها: “مذكرات مجنون/ Mémoires d’un fou” عام 1838، و”نوفمبر/ Novembre” عام 1842، و”مدام بوفاري/ Madame Bovary” عام 1857، و”سالامبو/ Salammbô” عام 1862، و”التعليم العاطفي/ L’ducation sentimentale” عام 1869، و”إغواء القديس أنطوان/ La Tentation de saint Antoine” عام 1874، و”ثلاث حكايات/ Trois contes” عام 1877، و”بوفار وبيكوشيه” عام 1881، و”قاموس الأفكار الحقيقية” عام 1913.
حظيت روايات فلوبير باهتمامٍ واضح من قبل صناعة السينما، والمسارح، فقد جرى خلال القرنين العشرين والواحد والعشرين تحويل كثير من رواياته وقصصه إلى أفلام وأعمالٍ موسيقية. نالت رواية “مدام بوفاري” حصة الأسد من اهتمام المخرجين السينمائيين الذين أخرجوها مراتٍ عديدة إلى أفلام، وكذلك الموسيقيين الذين أخرجوها أوبرا مرتين.
كذلك حولت روايتا “روحٌ بسيطة”، و”سالامبو” إلى فيليمين، وحوّلت رواية “يورديادا” إلى أوبرا تحمل العنوان نفسه.
يقول الناقد الإنكليزي جيمس وود/ James Wood: “يدين الروائيون بالشكر لفلوبير، كما يدين الشعراء للربيع، ففي كلّ شيءٍ تكون البداية معه كلّ مرّة. لقد أسّس فلوبير تأسيسًا حاسمًا ما يعده معظم القراء والكتاب سردًا واقعيًا، ويكاد يكون تأثيره مألوفًا لدرجةٍ يكاد لا يلاحظ معها. ونحن بالكاد نلحظ أنّ: النثر الجيد يفاضل بين السرد، أو التفاصيل الدقيقة، يفضل الملاحظة العينية، يحافظ على تركيب بعيد عن العاطفة، ويعرف كيف يبتعد عن التعليقات الزائدة عن اللزوم، هو محايدٌ في حكمه على الخير والشرّ، ويبحث عن الحقيقة حتى لو كان الثمن نفور القرّاء، وإنّ بصمة المؤلَّف في النثر الجيد يمكن تلمّسها، ولكنها غير مرئية في الوقت نفسه. في الإمكان أن يجد القارئ شيئًا من هذا (وليس كلّه) عند دانييل ديفو/ Daniel Defoe، بلزاك، وأوستن”.
ككاتبٍ، كان فلوبير رومانسيًا وواقعيًا بشكلٍ متساوٍ تقريبًا، وبهذا فإنّ أعضاء مختلف المدارس، وخصوصًا أعضاء المدرسة الواقعية والشكلية، يرون أنفسهم منتسبين إلى أعماله. يمكن أن نرى في جميع أعماله مدى الدقّة التي يكيّف بها تعابيره مع أهدافه، لا سيما في الصور التي يرسمها لشخصيات رواياته الرومانسية الرئيسية.
إنّ الشهرة التي بلغها فلوبير، والتي توسّعت منذ وفاته، تمثِّل بحدّ ذاتها “فصلًا مثيرًا في تاريخ الأدب”. وإليه ينسب الفضل في انتشار وتعاظم شعبية Tuscany Cypress، وهو اللون السائد في أهمّ أعماله “مدام بوفاري”.
كان لأسلوب فلوبير الموجز والدقيق تأثيرٌ كبير على كتاب القرن العشرين، مثل فرانز كافكا، وجي.إم. كويتزي/ J. M. Coetzee. من جانبه، قال فلاديمير نابوكوف/Vladimir Nabokov في سلسلة محاضراته الشهيرة إنّ التأثير الأدبي الأكبر على كافكا جاء من فلوبير، الذي كان يحبّ أن يستمد مصطلحاته من لغة القانون والعلوم، مانحًا إياها نوعًا من الدقة الساخرة من دون تطفلٍ على مشاعر المؤلف الخاصة.
بعد نشر “مدام بوفاري” عام 1856، تبيّن أنّها لم تكن مفهومة في البداية، لأنّها كانت بداية شيءٍ ما جديد، تصوّر الحياة بشكلٍ صادقٍ دقيق. بالتدريج، بدأ هذا الجانب من عبقرية فلوبير يلقى القبول، ومن ثمّ بدأ بمزاحمة الآخرين. في الفترة السابقة لوفاته، أصبح ينظر إليه على أنّه الأكثر تأثيرًا بين الكتاب الواقعيين الفرنسيين.
ترك فلوبير تأثيرًا استثنائيًا على كتّابٍ كبار، مثل موباسان، إدموند جونكور، ألفونس دوديت، وكذلك إميل زولا. وحتى بعد تداعي المدرسة الواقعية، بقي تأثير فلوبير حقيقيًا في الوسط الأدبي، إذ استمرّ باستقطاب الكتاب بسبب التزامه العميق بالمبادئ الجمالية، ونتيجة تفانيه الذي لا يعرف الكلل للوصول إلى التعبير المثاليّ.
كتب عنه، أو أبدى إعجابه به، كثير من شخصيات القرن العشرين الأدبية المرموقة، وكذلك الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، مثل ميشيل فوكو، رولان بارت، بيير بورديو، وجان بول سارتر.