سرديات

هل ينجو القارئ من حضور المؤلف ؟

حين كتب رولان بارت مقالته الشهيرة عن موت المؤلف كان يقصد أن العمل الأدبي يمتلئ بالدلالات والإشارات والاستعارات، وأن النص ليس تجربة فنية أو أدبية شخصية بل هو حصيلة تراكم معرفي وثقافي طويل أنتجه مؤلفون كثر عبر التاريخ، وسيكون مؤلف النص الحالي واحدًا من هؤلاء الكثر بالنسبة لمؤلف قادم بعد حين، وهكذا.


ما يعني أن هوية المؤلف المفردة سوف تختفي وتتماهى مع هويات متعددة لمؤلفين مختلفين ساهموا بتكوين النص وبظهوره. ما يعني أيضًا أن قراءة النص يجب أن تنحي جانبًا شخصية المؤلف وظروف حياته ووضعه الاجتماعي وانحيازاته السياسية لصالح الحضور الكامل للنص بوصفه أثرًا مشتبكًا مع ما سبقه، لا بوصفه ابنا شرعيا لمؤلفه، وخاليًا من أي جينة أخرى.

والحال إن نظرية موت المؤلف تصلح مع القراءة العربية لأي عمل فني، حيث يوجد في العربية ما يمكن تسميته بالقارئ المتلصص، وهو القارئ الذي يبحث في النص عن الحياة الشخصية للمؤلف، أو يسقط حياة المؤلف الشخصية ومواقفه، إن كان المؤلف معاصرًا للقارئ أو قريبًا منه، على النص الذي يقرأه، ويحاول البحث عن نقاط تلاق بين النص وحياة المؤلف الشخصية، فيصدر أحكامه على النص بناء على تلك القراءة التلصصية.


وإن كان القارئ المتلصص ناقدًا فسيتخلى عن المنهج العلمي في تحليله للنص لصالح المنهج التلصصي، إن صح الاصطلاح طبعًا. فقد قرأنا، في النقد الانطباعي العربي، كثيرًا من المقالات (النقدية) التي تشرح النص الأدبي مقحمة الحياة الشخصية للمؤلف في المنتج المعتمد، مثلما رأينا انطباعات وآراء تطلق على مؤلف بعد قراءة عمل ما له، باعتبار ذلك العمل سيرة شخصية للمؤلف أو مذكرات أو يوميات.


ما يجعل من كتابة اليوميات والسير الشخصية الخاصة أمرًا بالغ الندرة في المنتج الأدبي العربي، إذ أن التعامل مع عمل أدبي بحت يتم من منظور قراءة تلصصية فما بالكم لو أن العمل الأدبي يحمل عنوان: “سيرة ذاتية أو يوميات”، لكم أن تتخيلوا ماذا ستكون النتيجة!

وإن كان قلم من خط هذه السيرة يعود لكاتبة أنثى جريئة وأمينة في نقل يومياتها أو سيرتها الشخصية على طريقة أناييس نن مثلًا في يومياتها أو على طريقة سيلفيا بلاث، فأدعوكم لانتظار ذلك لمعرفة ما سيطلق على هذه الكاتبة من أوصاف اجتماعية لا تمت للأدب والإبداع بأي صلة.

حين كتب رولان بارت مقالته الشهيرة عن موت المؤلف كان يقصد أن النص ليس تجربة فنية أو أدبية شخصية بل هو حصيلة تراكم معرفي وثقافي طويل أنتجه مؤلفون كثر عبر التاريخ

تصح أيضًا نظرية موت المؤلف مع الانحيازات في الأحداث السياسية أو الأخلاقية الكبيرة، حيث يشكل موقف سياسي لمبدع ما نقطة رئيسية في نقد منتجه الأدبي أو الفني، ففجأة يتم تناسي أو تجاهل تاريخ مبدع ما بالنظر إلى موقف سياسي آني لا يتناسب مع رؤية سياسية لناقد أو لقارئ أو لمجموعة من القراء يتعاملون مع المنتج الإبداعي من منطق أيديولوجي محض، بعيدًا عن القيمة الفنية أو الإبداعية له.


وقد يمكن تبرير هذا أحيانًا، فالانحياز السياسي للطاغية أو للمحتل أو للاستبداد بكل أنواعه مضاد لفكرة الحرية التي يجب أن تكون الشرط الأول وراء كل منتج فني أو أدبي إبداعي. لكن التاريخ عادة ما ينحي تلك المواقف جانبًا لصالح الإبداع، وإلا لكان مبدع عظيم كخوان ميرو دعم الديكتاتور فرانكو ضد الثورة الإسبانية مثلًا في مزبلة تاريخ الفن الآن، لكن الزمن يجري لصالح الإبداع لا لصالح السياسة.

ومثل ميرو يمكن الحديث عن هايدغر الذي دعم النازية، وعن كانط العنصري كاره الزنوج، وعن مارك توين المطالب بإبادة الهنود الحمر، وعن كثر جدًا غيرهم من عظماء التاريخ الأدبي والفكري في العالم ممن انحازوا في مواقفهم للطغاة أو للفكر العنصري، لكن الزمن انحاز لما تركوه من أثر أغنى البشرية في تطورها العلمي والأدبي المستمر.

ثمة مثال آخر معاكس يمكن معه تطبيق نظرية موت المؤلف، وهو بابلو نيرودا، الشاعر والمثقف الثوري المنحاز لحرية الشعوب ولتحررها. يحكي التاريخ أن لنيرودا ابنة معاقة من علاقة طويلة مع امرأة رفض الزواج بها ورفض لاحقًا الاعتراف بالابنة بعد أن ظهرت إعاقتها، ولم ينفق عليها ولم يساعد والدتها في علاجها، هذا الموقف الخالي من الإنسانية لا يختلف أبدا عن موقف خوان ميرو من الثورة الإسبانية.

ففي الموقفين هناك تخل عن القيم الكبيرة التي يفترض بالمبدع أن يحملها، ومع ذلك يتم التعامل اليوم مع نيرودا بوصفه أحد أهم شعراء الحرية في العالم، ذلك أن ما كتبه في هذا الخصوص وضع جانبًا مواقفه الشخصية التي باتت تذكر كمعلومة فقط لا أثر لها على منتجه الإبداعي.

يحكي التاريخ أن لنيرودا ابنة معاقة من علاقة مع امرأة رفض الزواج بها ورفض لاحقًا الاعتراف بالابنة بعد أن ظهرت إعاقتها، ولم ينفق عليها ولم يساعد والدتها في علاجها !

لكن في المقابل لنظرية موت المؤلف، يمكن أن القول إن معرفة المبدع عن قرب ومعرفة شخصيته قد تساعد في فهم جديد لنصه، بعيدًا طبعًا عن القراءات التلصصية الشخصانية، فأحيانًا قربنا من المبدع أو تقاربنا معه يضفي انطباعات ستكون بمثابة قراءة جديدة لنصه، أو بمثابة إضافات جديدة تمنح القارئ مفاتيح جديدة تساعد في الكشف عما يختزنه النص أو تخبئه اللغة.

وهنا يجب التحلي بالموضوعية إلى حد ما، مع صعوبة ذلك، فعواطفنا ومشاعرنا تجاه كاتب ما سوف تكون المفتاح الأول في عملية تلقينا لنصه، سيكون المؤلف هنا حاضرًا بقوة، حاضرًا وموجودًا وحيًا، قبل أن نبدأ بإماتته بعد قليل، على طريقة بارت، حين نستكشف بقية الانزياحات والانطباعات والتأثيرات المختلفة وتلاقح نصوص متعددة مع النص الذي بين أيدينا.

إذ ما من نص على الإطلاق يمكن القول عنه إنه نص فريد لا يشبه أي نص آخر أو أنه معدوم التأثر، فالنص غير المتأثر هو نص فقير ثقافيًا، أو نص ساذج لا يصلح لأن يشكل قيمة ما، ولا أن يساهم في تراكم معرفي ما، فما من تراكم فني أو أدبي إلا وكان حصيلة تأثيرات متبادلة عبر التاريخ والزمن في حاضره وماضيه مثلما سيكون ذلك في مستقبله القادم.


ضفة ثالثة

رشا عمران

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى