تقديم كتاب: “سيميائيات الأهواء”
- تقديـــم
شغلت الأهواء([1]) الفلاسفة وعلماء الأخلاق والأدباء بما لها دور في إثارة المباهج أو الأحزان، وحدوث أزمات أو تفاديها، و شحذ إرادة الإنسان أو تعطيلها. ومن خلال المسار التاريخي للنظرية السيميائية يتضح أن السيميائيين، بدورهم وإن من منظور مختلف، اهتموا بدور الإحساس في تحقيق البرامج الحكائية، والانتقال من حال إلى آخر، وتوطيد تفاعل الإنسان ، أكان إيجابيا أم سلبيا، مع محيطه.
يعد الهوى، بحكم تشبث السيميائيين ب” النظرة الجامعة والمتسقة”عنصرا أساسيا في إحداث الفعل ( على نحو حفز اللاعبين على الانتصار في المباراة) أو استرجاع تفاصيله (الندامة على الهزيمة)، ومده بالطاقة الانفعالية اللازمة حتى يكون في مستوى الآمال المعلقة عليه ( ما يرتبط بما سيحدث ) أو يخضع للتقويم الأخلاقي لتبين نقائصه ( ما يتعلق بما حدث).
ويؤدي الجسد، في الحالات الانفعالية جميعها، دورا كبيرا في تحقق المعنى ( جسد يحس بما يكتنفه ويدركه)، وتجسيد ما هو مؤلم للذات أو ما هو سار لها.
إن حرص ألجيرداس كريماص وجاك فونتاني، في كتابهما المشترك([2])، على صياغة مشروع سيميائية الهوى أو الإحساس على نحو مستقل بذاته ( أي يتوفر على عدة مفاهية خاصة به ومنسجمة تقر- أساسا- باستقلالية البعد لانفعالي للخطاب، وبالتشييد النسقي للتدلال الاستهوائي la sémiosis du phorique، وبإنجاز نحو يفضي إلى الخطاطة الاستهوائية المعيارية)([3]) ، لم يحل دون تأكيد مدى تفاعله وتكامله مع النظرية السيميائية للعمل في إطار ما يصطلحان عليه ب” الوجود السيميائي المتجانس”.
لقد كانت نظرية الأهواء، عموما، ثمرة سنين من العمل المتواصل اضطلعت به الجماعة السميائية-اللسانية ( المعروفة بمدرسة باريس) لمراجعة النظرية السميائية ” المعيارية” بالتركيز على ثلاث مجالات تستأثر بالاهتمام أكثر، وهي: الابستمولوجية والنظرية والتطبيق.
أ-تكمن أهمية كتاب ” سيميائيات الأهواء”فيما يلي:
– أن مؤلفاه انتبها إلى العلاقة المحسوسة والانفعالية التي تقيمها الذات مع نفسها ومع العالم الخارجي. وانبرا إلى دراسة الأهواء ، بعدة مفاهيمية سيميائية، لاستيعاب تنظيمها التركيبي والدلالي من جهة، وبيان شحنتها الانفعالية ودرجة كثافتها إبان تجسدها في شكل برامج مفترضة أو محققة من جهة ثانية.
وعندما تتحقق في الخطاب، تصبح حمالة لدلالات معينة. ولا تكون لها دلالة إلا عندما تضطلع بها ذات تشعر بهوى ما. ويمكن، في هذا الصدد، أن يكون فردا ( تتمثل في لغة فردية) أو جماعة ( تتشخص في لغة جماعية).
– إن إعادة بناء الأهواء من المنظور السيميائي أفضت إلى صياغة نظرية دلالية منسجمة ، تتميز باستقلالية البعد الانفعالي(يُضاف إلى البعدين النفعي والتداولي)، وبصوغ خطاطة استهوائية معيارية ( أسوة بالخطاطة السردية المعيارية). ومع ذلك حرص كريماص وفونتاني على ” الوجود السيميائي المتجانس” حتى تندمج نظرية الأهواء داخل النظرية السيميائية العامة، ويحصل التفاعل و التكامل فيما بينهما.
– إن كان الكتاب، في عمومه، محافظا على المكاسب البنيوية، فهو يفتح آفاقا واعدة نحو الانفتاح على الإيحاءات الثقافية والاجتماعية للأهواء ( ما يصطلح عليه بالممارسة التلفظية). وهذا ما جعل المؤلفان يعتبران القواميس استعمالات ثقافية تجسد موقف جماعة ما من الوجود، وتعلل تباين الأهواء واختلافها بالنظر إلى طبيعة الثقافات التي تؤطرها، وتصدر أحكاما أخلاقيها عليها.
وفي هذا الصدد اعتمدا على مدونة استهوائية ( تعريفات بمختلف تجليات الهوى في القاموس الفرنسي. وهي، في مجملها، تحدد الأقسام الكبرى للحياة العاطفية ) لبيان المفاصل الكبرى لصنافة ممتدة في ثقافة برمتها ( المدونة الثقافية الفرنسية)، وتمييز الكون الاستهوائي الخاص بها ( الخطابات الاجتماعية).
– استند صاحبا الكتاب إلى مرجعيات مختلفة ( الظاهراتية، الكيمياء، الفيزياء، الرياضيات..) لفهم الإحساس بصفته طاقة ( الفضاء التوتري) تدفع إلى العمل، فإما تؤدي إلى ما هو إيجابي في الوجود البشري ( ما هو صالح) أو على العكس قد تفضي إلى ما هو سلبي ( ما هو طالح).
إن صهر المرجعيات المختلفة في بوتقة واحدة جعل الكتاب ذا حدين متباينين: يكمن أحدهما في صعوبة الغوص في يمِّ الكتاب، الذي يتطلب إلماما بالسباحة، وجهدا لتحمل الأمواج المتلاطمة، ووقتا كافيا لسبر أغواره سعيا إلى الانتفاع من درره ولآلئه. ويتمثل ثانيهما في الاستمتاع بما يستعرضه الكتاب عن معلومات ثرّة ودقيقة تهم الحالة النفسية التي شغلت الكتاب والأدباء وعلماء النفس والأخلاق قرونا مضت. وحان الوقت لينكب عليها السيميائيون قصد الإلمام بحالة الذات المؤهلة لإنجاز فعل ما ( ما يقابله في سيميائية العمل : حالة العالم الذي تضطلع الذات بتغييره)، وبيان المعادلة الصورية بين حالتي الأشياء والنفس (خلق نوع من الانسجام بين الإحساسيْن الداخلي والخارجي).
ب-ملاءمة ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية([4]):
-أدرك صاحبا الكتاب أن الموضوع المطروق (سيميائية الأهواء) يهم الثقافة الفرنسية وتمثلاتها، ولكنه قابل للتعميم على ثقافات أخرى شريطة احترام خصوصياتها. وهذا ما يحفز الباحثين العرب على استيعاب محتويات الكتاب، وإيجاد ما يعللها في الثقافة العربية، واستكناه الأهواء من خلال أبعادها الاجتماعية ( كيف تتصرف جماعة إزاء أهواء معينة؟) والفردية ( كيف يجسد المبدع هوى معين في عالمه التخييلي؟).
-رغم صعوبة الكتاب استطاع د. سعيد بنكراد أن يبذل مجهودا محمودا لإيصال محتوياته إلى القارئ العربي. ومن علامات هذا المجهود الحرص على شعرية الترجمة (وفق ما يقصده دانييل-هنري باجو) التي تتمثل أساسا في إثبات مرفقات النصوص حتى تيسير القراءة وتضمن تفاعلها الإيجابي مع النص المترجم.
ومن بين هذه المرفقات، التي تؤشر على تدخل المترجم في النص بهدف كتابة نص ثان أملته شروط التداول والتلقي( نقل النص الأصلي من سياق ثقافي إلى آخر)، نذكر أساسا: إعداد مقدمة مستفيضة للكتاب حول سيميائيات الأهواء، تخصيص ملحق للمصطلحات الأساسية، وضع حواش لتفسير عينة من المفاهيم وتعليل ما يقابلها في اللغة العربية، والإشارة إلى بعض المفاهيم التي يتعذر ترجمتها أو تدجينها في القالب العربي. فضلا عن ذلك حرص المترجم . سعيد بنكراد أيما حرص على سلامة اللغة العربية تفاديا لأي تشويش قد يؤثر سلبا في تلقي الكتاب واستيعاب حمولته النظرية التي تشي بالعمق والدقة والرصانة والاعتياص.
– سعى المترجم والناشر إلى نقل الخطاطات والترسيمات بعناية فائقة حرصا على إثبات كل عنصر في موضعه المناسب، وسعيا إلى إحكام توزيعها بصريا ومراعاة خصوصية اللغة العربية. وهو ما جعل الخطاطة أو الترسيمة تؤدي وظيفتها المعرفية والبيداغوجية، وتسعف القارئ على معاينة كثير من الأفكار المجردة على نحو تكون فيه مجسدة بالعيان وميسرة بالمثال.
1-وساطة الجسد في الدخول إلى عالم المعنى:
كانت الأهواء، باستمرار، محط اهتمام النقاد والأدباء والفلاسفة لكونها تمس جانبا معقدا في دواخل الإنسان وفي علاقته مع العالم والأشياء. ولم يخرج السيميائيون عن هذا الركب سعيا إلى فهم الحالة النفسية بعدة مفاهيمية ملائمة ( ما يهم عوالم الكينونة). وإن كرسوا معظم جهدهم النظري والتطبيقي لإرساء الأهلية الجهية للذات السردية وضمنها جهة الفعل لما لهما من دور في تحريك البرامج الحكائية وتغيير العالم بهدف تحقيق غايات وأهداف محددة.
وإن لم تتبلور سيميائيات الأهواء إلا في العقود الأخيرة، فبوادرها الأولية كانت تطفو، بين الفينة والأخرى، في المسار السيميائي. ويمكن أن نمثل ، على وجه الخصوص، بدراسة كريماص ل” هوى” الغضب([5]) وبدراسة تخص ” التكوين الجهي للكينونة”([6]).
يعيد السيميائيون النظر في تنظيم المسار التوليدي الذي يمثل حالة افتراضية ونشاطا قيد الانجاز. ويعملون، بهذا الصنيع، على تصحيح مكامن الخلل وتعزيز مواطن القوة، حتى تغدو النظرية خطابا منسجما وشاملا. إن المنطقة الأكثر فاعلية في المسار التوليدي هي الفضاء الوسطي الذي يتموضع بين البنيتين السطحية(المكون الابستمولوجي) والعميقة (المكون الخطابي)، ويهم أساسا النمذجة السردية وتنظيمها العاملي أي ما يميز العامل بفعله وحده (وليس برواسبه النفسية)، وهو الشرط الأساس لتطوير سيميائية العمل.
يؤدي الجسد محفلا توسطيا بين الإحساسيْن الداخلي والخارجي، ويضمن تفاعل الإنسان مع محيطه، ويجسد حركيا مجموع الأهواء التي تنتاب الإنسان أكانت مفرحة أم محزنة ” جسد حاس، مدرك فاعل؛ جسد يعبئ كل الأدوار المتفرقة للذات، في تصلب وقفزة ونقل. جسد باعتباره سدا وتوقفا يقود إلى تجسيد مؤلم أو سعيد للذات” ص368.
وتتشخص حركة الجسد خطابيا في شكل آثار تلفظية (ما تجسده التجليات الثقافية وإيحاءاتها إن على المستوى الجماعي (اللغة الجماعية) أو الفردي (اللغة الشخصية)) يمكن أن تخضع لتقويم أخلاقي لتثمينها ( هوى الشجاعة) أو بخسها ( هو البخل). تخص الأهواء كينونة الذات لا فعلها. وحتى عندما تعمل الذات الهوية ( أي عندما تنتقل من ذات الحالة إلى ذات فاعلة)، فهي تكون موجهة وفق جهة الكينونة. ولما يضطلع الجسد بالتوسط بين الحالتين(حالة الأشياء وحالة النفس)، فهو يسهم في إحداث نوع من الانسجام بينهما.
2-الكتلة الاستهوائية ( الأريج المبهم):
إن عطر الأهواء ينبعث من تنظيم خطابي للبنيات الجهية. وهي، في هذا الصدد، لا تخص الذوات وحدها، وإنما تسم الخطاب برمته. ويمكن أن تسقط ( بوصفها آثارا سيميائية) سواء على الذوات أو على الموضوعات. تعيش الذات أفقا توتريا قبل أن إدراك مرادها أو عدم الحصول عليه. فقبل أن يتوله الأمير ( في رواية أميرة كليف) بالآنسة دوشارتر، إبان لقائهما عند بائع المجوهرات) لم يكف عن التعبير عن مدى اندهاشه بما يحيط بها، أي أنه كان يعاني من حالة متوترة مستشرفا إمكانات حبه لها.
إن ما يحدد قيمة المضامين الدلالية هو، دوما، من طبيعة أخرى ( قيمة القيمة أو ظلها: عدد الذرات المضافة إلى تركيبة جسم آخر)، ويحتمل أن ينقل إلى ذات أخرى. ويتجسد هذا التكافؤ كما لو كان ظلا للقيمة أو انطباعا عنها. تقدم رواية ” السقوط لألبير كامو” صورة عن عالم دون قيم ( عالم تنعدم فيه الثقة). إن القاضي/ الثائب ، كما صوره ألبير كامو، هو عامل توليفي يمارس، على الطريقة الكلبية القديمة، التحقير المنظم والاستفزاز التهكمي.
إن المكافئ ( الذي يشكل مجموعة الاستيثاق) يمنح عالم الأشياء صلابته. وبدون هذه الصلابة لن تكون للأشياء أية قيمة. إن الشخص نفسه يصادف في طريقه امرأة يائسة تلقي بنفسها في نهر السين، ولم يبادر بإنقاذها. يوحي هذا المشهد بانهيار عالم القيم الذي يعد صورة محتملة ومقلوبة للحادثة التي قوضت دعامات ضرورة الوجود الراهن، و يجسد ، في المرحة الأولى، التكافؤ أما في المرحلة الثاني فيشخص القيمة.
3-الهوى والفعل:
الهوى شعور يدفع أو ينزع إلى الفعل. ويعد بمثابة أهلية تمكن من الفعل أي ما يسعف على الانتقال من إرادة الفعل إلى القدرة على الفعل. وهكذا يعتبر الكون الاستهوائي امتدادا للكون الجهي. وفي هذا الصدد يبدو من الضروري الاستعانة بتنظيم جهي للكينونة. وإن كان مستقلا عن الفعل المحتمل فهو يعتبر عدة جهية محددة للهوى بصفته أثرا معنويا. فهوى الاندفاع يعتبر طريقة في الفعل، ويشمل على ” فائض جهي” (يجمع بين إرادة الفعل والقدرة على الفعل) يمكن من توقع الإرادة والقدرة والمرور إلى الفعل.
يعد العناد ” حالة استعداد للفعل” دون الخوف من المعوقات. وفي هذه الحالة تكون الذات منفصلة عن موضوعها (جهة : معرفة عدم الكينونة)، ومتشككة من النجاح في مهمتها( القدرة على عدم الكينونة) ومصرة، في الآن نفسه، على إدراك مبتغاها(إرادة الكينونة). ورغم غياب إرادة الفعل بسبب المعوقات فإن العنيد لا يتخلى عن برنامجه ( مشروع الفعل المحتمل).
إن الأمر يتعلق إذن بفائض جهي هو الضامن لمواصلة الإنجاز. ” وحضور هذا الفائض هو ما يفرض علينا صياغة عدة هووية من خلال حدود ” تنظيم جهي للكينونة” لا من خلال حدود ” أهلية في أفق الفعل” ص115.
من خلال هذا المثال تتضح بعض المفارقات: تخرج ” إرادة الفعل” عن ” عدم القدرة على الفعل”، وتزداد قوة داخل تنظيم جهي للكينونة.
وهو ما يقتضي الافتراض بوجود تركيبين يهم أحدهما التركيب الجهي للفعل، ويخص ثانيهما التركيب الجهي الهووي. وفي حال هوى ” العناد” تكون ” أهلية الفعل” مجرد صورة افتراضية أو تصاورا ” إن العنيد يريد أن يكون، داخل ما سميناه التصاور الهووي للعناد، ” ذاك الذي يفعل”، وهو ما لا يعادل “يريد أن يفعل” ص116.
إن رغبة العنيد في أن ينتصر ( إرادة الكينونة) تقتضي منه معرفة الكينونة من الناحية التركيبية. وهو، في هذه الحال، يدخل في صراع من الآخرين. في حال هوى اليأس يتعذر حل الصراع، في حين أنه في حال العناد يُحل من خلال انتصار الذات. وما يميز بين الهويين أن ” مقاومة الحاضر” ، في العناد، تعمل لصالح انتشار المآل، في حين تكون غير حاضرة في هوى اليأس.
4-الهوى بين الاستعمالين الفردي والجماعي:
إن الكون الهووي للفرد يعبر عن خصوصيته، ويجلي ” أسطورته الشخصية” ( وفق شارل موران) فيما يخص تثمين أهواء أو بخسها. تعلم كي دي موباصان من مدرسة شوبنهاور أن الإرادة هي أساس مأساة الإنسان. فعندما تكون الرغبة غير مشبعة ينتج عنها الضجر والازدراء، فيتولد الإحباط والعذاب.
وهكذا فعادة ما ترتبط الإرادة عند موباصان باللامعنى والعبث والتناحر.يستفيد موابصان من شوبنهاور، وينضاف إلى جيل من الكتاب الذين تأثروا به. ويطبق لويس أراغون على اليأس نسقا فكريا أكثر عمومية . فهو يأس تاريخي ورمزي وسياسي يفضي إلى تذمر اليائسين من الحكام، وإن ظلوا أوفياء للتعاقد الذي يربطهم بالقيم الملكية.. ونعاين ، من المثال الأول، أن صنافة فردية ( نسق فسلفي) تتحول إلى صنافة اجتماعية محايثة.
ونلاحظ من خلال المثال الثاني أن صنافة اجتماعية ( وهي إيديولوجية تيار فكري بأكمله) تتحول إلى صنافة اجتماعية محايثة. ” إن هذه التغييرات في المواقع تقتضي منهجا ممكنا لدراسة العلاقات بين النص والنص المحيط والسياق: فعندما تتم عملية تحديد الثوابت والمعايير التي تشتغل بها الصنافات الإيحائية، وبعد أن يتم تمييز مختلف الفصائل ومختلف المستويات التي تتحرك ضمنها، سيكون بإمكاننا، من هذه الزاوية، تصور الدراسة ” التكوينية” للنصوص من خلال التحولات بين مختلف الصنافات” ص149.
5-مدونة الغيرة:
درس كريماص وفونتاني الفصل الثاني من الكتاب نفسه “البخل” باعتباره هوى/ موضوعا (علاقة البخيل بما يملكه)، وأكّبا ، في الفصل الثالث، على دراسة الغيرة بصفتها هوى بيِْذاتيا( تنفاس الغيور والغريم على المحبوبة). نستعرض مدونة الغيرة لبيان، على نحو مجمل وشامل، الغاية من دراسته سيميائيا.
أ-التمظهر المعحمي:
لما يكون الغيور في علاقة مع المحبوبة يتوطد هوى الخشية ( مراقبة الغريم والسعي إلى إبعاده). وفي حال حدوت الأزمة الاستهوائية بينهما تتنامى لديه مشاعر الانتقام من خصمه. يفيد المعجم أن الغيور متعلق كثيرا بموضوعه القيمي ويكد من أجل الحفاظ عليه.
وهكذا تقترن الغيرة لديه بالرغبة والحماس والحسد. إن وجود الغيور في فرجة أو مواجهة يوحي بأنه يتألم وهو يرى غيره يستمتع بالموضوع أو أنه يخاف ويرتاب من فقدانه. وتهم الفرجة الرباط الذي يلحم الغريم أو الذات بالموضوع المتنازع عليه. إن استمتع به أحدهما أضاعه الآخر.
ومن أجل تكوين فكرة عن “الغيرة” ينبغي أن نضعها في حضن جملة من التمظهرات التي تبين مختلف العلائق والأبعاد الدلالية الاستهوائية التي تحتملها العدة العاملية المشخصة في الثالوث ( الغيور والغريم و المحبوبة). ومن ضمن هذه التمظهرات الغرام الذي يشمل الغُرم والتنافس والتباري،ثم تمظهر التعلق الذي يستوعب أهواء من قبيل التعلق الشديد والحماس والامتلاك والحصر.
ومن خلال السمات التوليدية للغيرة في القاموس يتبين ما يعتري الغيور من أهواء (على نحو الريبة والقلق والخشية) تحدث تشويشا استيثاقيا ( ما يهم الثقة المتبادلة بين الحبيبين). وهذا ما ينعكس سلبا على المعطيات الأصلية للتعلق. إن التعلق يفترض الثقة التي تعطي معنى للحياة. ولما تتصدع هذه الثقة يفقد الغيور السيطرة على الموضوع والاستمتاع به، ويخفق في خوض المعارك مع غريمه.
ب-البناء التركيبي للغيرة:
يعد القلق مكونا من المكونات التركيبية للغيرة. ويُعبر عنه، وفق ما يشغله من مواقع تركيبية، إما بالريبة لما يظهر الغريم على حلبة المنافسة، وإما من خلال الخشية عندما يكون الحدث المؤلم متوقعا. إن القلق ليس انفعالا عابرا وإنما هو حالة مترددة. وقد يفضي إلى أزمة استهوائية عندما يقترن بالشك.
و لا تنتمي الغيرة إلى نسق مصغر([7]) قابل لاستيعابها في كليتها وشموليتها، وإنما تنتسب إلى عدة تمظهرات بسبب تنظيمها المعقد.” هناك نسق التعلق ونسق الحصر ونسق البنيات السجالية التعاقدية ونسق الأهواء الاستثاقية وغيرها.
فالغيرة ليس بالهوى المعزول فحسب، ذلك أنها تنتمي إلى أنساق مصغرة حيث لا تشكل سوى موقع من بين مواقع أخرى” ص267. وهذا يبين أنه ينبغي تجنب دراسة الأهواء على نحو منعزل، وبالتالي يجب أن يتعامل مها بوصفها ” منظومة استهوائة”.
استعان صاحبا الكتاب بخطاب الأخلاقيين من أجل استكشاف معاني الغيرة، وبيان تصاور المحبوبة ( مختلف المواقع المفترضة التي تشغلها من خلال الصراع المحتدم بين التنافسين)، والانتقال من الجمال ( ما يتوفر عليه النص من سمات جمالية وتخيلات) إلى الأخلاق ( إصدار أحكام أخلاقية واجتماعية حول الأهواء). ويمكن أن نمثل بملفوظ مقتطف من كتاب لابرويير ” ألأمزجة” : ” الغيرة اعتراف مكره بالاستحقاق”.
يحصل الانهيار الاستيثقاقي (فقدان الثقة) لما يدخل المنافس إلى حلبة المنافسة والصراع للظفر بالموضوع. ومن خلال موقع الغيرة في الملفوظ يتضح أن الغريم يتكافأ مع الغيور في قدرته على استحقاق الموضوع المتنازع عليه وامتلاكه.
وبقدر ما يخشى الغيور استيلاء الآخر على ما يعتبره في عداد ملكيته بقدر ما يعتقد أن منافسه يستحق الموضوع. ” يضع ” الخوف من الفقد” إرسالية صريحة، و” البوح بالاستحقاق” إرسالية ضمنية مفترضة. ولكن البوح مفروض، بمعنى آخر، لأنه يسير في الاتجاه المضاد لمصالح الغيور: فالاعتراف بأحقية الغريم معناه مضاعفة حظوظ الآخر بالاعتراف له بالحق في موضوع القيمة” ص 277. وبموازاة مع ذلك يفيد البوح اعتراف الغيور بوجود خلل ما في علاقته بالمحبوبة، ويفترض الإقرار بدونيته في آخر المطاف.
ج- التقويم الأخلاقي:
نعاين آثار الضغط الاجتماعي على الموقع الذي يشغله الغيور. يمكن أن نتصور حكما إيجابيا يبين مدى استعداد الغيور على الدفاع عن تعلقه بالمحبوبة رغم أنف خصمه. وبالمقابل ينصب الحكم السلبي على تراجع الغيور عن المنافسة وعدم قدرته على ركوب غواربها. وفي هذا الحالة يحتمي الغيور بالأزمة الاستهوائية أو الاستيثاقية ( الشك). وهكذا يتضح أن شفرات أخلاقية تتقاطع فيما بينها داخل تمظهر الغيرة، ومن ضمنها نذكر:
– تُحشر أخلاق الاستحقاق في شؤون العشاق ، وهذا يقتضي البرهنة على وجود نسق قيمي يضبط الصدامات بينهم ، ويسعفهم على حسن استعمال السجال. ويفترض، في هذا الصدد، أن يتصوروا ” الشرف” الذي يتيح لهم تسوية خلافاتهم بشكل نهائي.
– ينجم الوفاء عن حصرية التعلق التي تستجيب لمقتضيات أخلاقية، وهو ما يعزز لدى الغيور معيار الملكية الحصرية.
– ينبغي للعلاقة الغرامية ، في الأخلاق الكلاسيكية، أن تظل سرية. وفي حال افتضاح خيوطها تصبح علامة على الخجل والفضيحة و مثار إدانة ( الحكم الأخلاقي).
د-التخطيب:
لقد أسعفت دراسة الهوى المضمن في الخطاب على بيان عملية استحضاره الفردي والجماعي سواء على مستوى التحسيس أو التقويم الأخلاقي. وفي هذا المضمار يستند مؤلفا الكتاب على نماذج وترسيمات معيارية ( ومن ضمنها أساسا المقطع المكبر الذي يستوعب ما يهم الأزمة الاستهوائية في عدة انفعالية) لبيان مدى انضباط هوى ما لها أو انزياحها عنها ( الاشتقاقات الممكنة المترتبة على متغيرات افتراضية) تبعا للأنماط الثلاثية الكبرى التي تُعنى ببناء الأهواء الإيحائية ( التكون، ثم التحسيس، ثم التقويم الأخلاقي). تكمن معيارية المقطع المكبر في مدى اشتغال الافتراضات على الوجه المطلوب.
إن انتفى افتراض فإن المقطع الاستهوائي يتوقف مفضيا إلى أهواء لا تنتسب إلى تمظهر ” الغيرة”. ويمكن أن نستدل على هذا الانحراف الاستهوائي بمثال من أمثلة كثيرة يحفل بها مسرح راسين . ” إن أنتيوشوس عاشق منهك، وتعلقه أحادي ( وفق نمط ” هبة الإيمان”)، وبما أنه لم يحصل أبدا على الحق في الأمل، فإنه لا يمكن أن يكون غيورا” ص327.
وتتحول خشية الغيور ( الخوف الاستباقي من فقدان المحبوبة)، عند بروست، إلى أمل. وبالمقابل يصبح البغض ( الأسى الاسترجاعي من فقد المحبوبة) أمانا وراحة.
لقد سعيت، من خلال هذه المداخلة المقتضبة، أن أبين مدى ملاءمة الكتاب المترجم إلى اللغة العربية، وتفاديت الدخول في تفاصيل محتوياته وفرضياته، وأرجأت إبداء ملاحظات على بعض مفاصله سعيا إلى تقديم جملة من المفاتيح المسعفة على فهمه واستيعابه. حاول كريماص وفونتاني، في هذا الكتاب، إبراز دور الجسد ( التجسيد) في تفاعل الإنسان مع محيطه إيجابا ( السعادة) أو سلبا(الألم)،
والانتقال من الهوى إلى فعل سابق ( ما نجم عنه الندم) إو إلى فعل لاحق ( ما يترتب على التهييج والتحميس )، والتدرج من الشروط القبلية ( القوى المتماسكة في الكون التوتري) إلى مستوى الخطاب (يصبح النص- عند نهاية المسار التوليدي- متغيرا وتجليا للسطح. لا شيء أكثر عمقا من النص (فرنسوا راستيي). وهذا ما عبر عنه أحد علماء الأخلاق بهذه العبارة الموحية: لا شيء، في الإنسان ، أكثر عمقا من البشرة).
اعتمد صاحبا الكتاب على المدونة الثقافية الفرنسية التي تقدم تصورا خاصا للعالم الاستهوائي، وترسم حدودا فاصلة بين اللغتين الفردية والجماعية. وسعيا إلى بيان مدى انضباط التجليات الاستهوائية إلى نماذج معيارية ( الثوابت الثقافية) أو تمردها عليها (المتغيرات المحتملة). ويحتاج الكتاب المترجم إلى تشخيص تجارب مماثلة لإبراز خصوصيات بعض الأهواء في الثقافة العربية، وتقويمها من المنظور الأخلاقي([8]). وفي المرحلة الموالية، يستحسن أن تستخلص طبيعة العلاقة التي تجمع مدونة ثقافية وظنية مع مثليتها التي تحظى بميسم كوني.
[1] – نص المداخلة التي ألقيتها في ” عيد الكتاب” بتطوان، يوم الثلاثاء 7 يونيو 2011.
[2] – Algirdas J.Greimas & Jacques Fontanille , Sémiotique des passions : Des états de chose aux états d’âme, Seuil 1991
[3] – انظر في هذا الصدد:
Cécilia Wiktorowicz : « Algirdas J.Greimas et Jaques Fontanille,Sémiotique des passions . : Des états de chose aux états d’âme, Etudes littéraires, vol25, n°3,1993 ;p153 p155.
[4] – كريماص وفونتاني ، سيميائية الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، ط1، 2010.
[5] – A. J. Greimas , « De la colère » in Du sens II, Seuil,1983 pp245-255.
[6] — A. J. Greimas ; « De la modalisation de l’être », Du Sens II op.cit pp93-102.
[7] – يعتبر المقطعان المكبر (شكل من أشكال المنظومة الانفعالية) والمصغر(يهم ، في المقام الأول، التسلسلات الجهية الخاصة بالأزمة الهووية) بمثابة خطاطتين معياريتين. وتنضاف إليهما الأنماط الثلاثية الكبرى لبناء العوالم الهووية الإيحائية ( التكوين ثم التحسيس ثم التقويم الأخلاقي). يحتكم إلى تداخل المقطعين المصغر والمكبر ( انظر الخطاطة ص 316) لبيان ما إن انضبط هوى ” الغيرة” لما هو معياري ( اللغة الاجتماعية) أو انزاح عنه في شكل متغيرات افتراضية (اللغة الفردية).
[8] – ما حاولنا إبرازه في تحليل هوى ” الحب” في رواية ” الحي الخلفي” لمحمد زفزاف ثم هوى ” الغيرة” في روية ” الضوء الهارب” لمحمد برادة. انظر: محمد الداهي، سيميائية السرد بحث في الوجود السيميائي المتجانس، منشورات رؤيا، القاهرة، ط1، 2009.
كتاب يستحق القراءة مفيد/ الترجمة رائعة/ يمكن الاستفادة من المقدمة التي كتبها المبرجم بنكراد/ مقال الداهي مقبول كيحتاج لقليل من المراجعة الخدمة شكرا على الاجتهاد