غيلان في هيأة إنسان
ابتلاني الله منذ صغري بأمراض الأسنان، يمكن قبل دخولي المدرسة مع تبديل الأسنان اللبنية، لكن أول طبيب أسنان واجهته في حياتي كان يعمل في “الصحة المدرسية” تحت القلعة، كنت في الصف الأول الابتدائي عندما اشتد علي وجع أحد الأضراس المنخورة، كل حكمة أمي و أبي جرباها بي في تلك الليلة السوداء، لدرجة أن أبي رحمه الله طلب مني التدخين في ذلك السن، فقد طلب مني سحب دخان سيجارته “التتن الحموي” و حبسه في فمي، قال لأمي أن دخان السجائر له مفعول مسكّن فوري، ربما شعرت بالدوخة حينها من دخان التبغ القوي، لكن ألم ضرسي لم يستكن و لم يهدأ مثقال ذرة، و بناءً عليه و على سهر أمي معي حتى الصباح، أخذتني مع ساعات الدوام المدرسي الأولى إلى مديرية الصحة المدرسية الكائنة تحت قلعة حلب، طبعاً مرّت بي قبلها على مدرستي، و أخذت لي “إذن تغيب” من المعلم، مع إحالة خطية ممهورة بخاتم “مدرسة الثورة للبنين” الرسمي و توقيع المدير الجليل، إلى عيادة طب الأسنان التابعة للصحة المدرسية هناك تحت القلعة، في العيادة وقعتُ فريسة سهلة بين أنياب “غول” الصحة المدرسية، عفواً بين فكي “كمّاشة” قلع الأسنان التي لا ترحم الإنسان حتى لو كان طفلاً صغيراً وديعاً مثلي، سألني الدكتور بنزق و غضب و أنا أتلوّى من الألم: أي ضرس يوجعك؟ أشرت بأصبعي الصغير إليه مغمض العينين، فذلك الضرس الملعون لم يسمح لي بإغماض عيني طوال الليل، اعتقدت بأن الدكتور سيعرفه و يميزه بدون سؤال، لكن طالما سألني عنه فذلك أفضل بالتأكيد كما خيّل إلي حينها، و ما أن أخرجت أصبعي من فمي حتى أدخل الدكتور (الغول) أنياب كماشته بين فكي أسناني، و قلع لي الضرس السوي بلا بنج أو تخدير، و هات يا بكاء و عويل، طول الطريق إلى بيتنا في “حي السكري” و أنا أنزف و أتألم و أنوح، رأتني قريبتي “أم محمد يحيى” رحمها الله عندما وصلنا إلى الحارة قبل دكان “حج نجيب” بقليل، كان خدي متورماً و أبصق الدم و أتألم بصمت، سألتْ أمي عن أمري فأخبرَتْها بالحقيقة المؤلمة، قبّلتني عمتي كما كنا ندعوها و أخرجت من عبّها فرنكين و أعطتني إياهما قائلة لي: هذي خرجيتك (مصروفك) اشترِ بها ما تريد، و الله يشلّ ايد الحكيم اللي عمل فيك هيك.
بعد ذلك العلاج السقيم على مخالب غول الصحة المدرسية، داومت مع أمي لمدة سنتين من الصف الثالث حتى الخامس الابتدائي على عيادة طبيب أسنان “مزيف” في مركز المدينة، كان طالب طب أسنان فشل في التخرج من إحدى جامعات الغرب، فعاد إلى حلب ليمارس طب الأسنان بالخفاء بلا ترخيص مع ترخيص أسعاره، افتتح له أبوه “بياع الخيطان” الحريص عيادة مرموقة قريباً من محله أمام “كنيسة اللاتين” في قلب حي “العزيزية” الراقي، لا أعرف كيف لم تكتشف السلطات المختصة أمره رغم مواجهة عيادته لمخفر “العزيزية” المشهور، المهم أنني لم أستفد من دوامي على عيادته كل أسبوع سوى بشراء أمي لي في كل زيارة مجلة واحدة من مجلات الأطفال، كانت مجلتي المفضلة هي مجلة “أسامة” على الاسم الذي أطلقته أمي على دكتور الأسنان المزيف، أسمته كذلك لأن قريبها الشرطي “أسامة” هو من نصحها به، و بئس النصيحة كانت آنذاك.
خرجتُ من عيادته بعد علاج سنتين بأسنان منخورة أكثر مما كانت عليه بسبب حفرها و حشوها المستمر بطبقة من الجير الرخيص بطعم القرنفل اللاذع السريع الخلع، و خرجت أيضاً من هذه التجربة بقصة سابقة لي نشرتها بعنوان: (النوم جفاني يا اسمراني) يمكنكم الاطلاع عليها عن طريق سؤال العم قوقل المحترم، و قصتي هذه اليوم.
أهملتُ علاج أسناني بعد عدة محاولات مؤلمة على أيدي أطباء مرموقين و مغمورين، بعد زواجي استأجرت منزلاً في “حي الشيخ طه” قرب نادي الفروسية القديم، كان أحد الأخوة المالكين للمنزل طبيباً للأسنان، عيادته أيضاً تقع في حي العزيزية لكنها رسمية علنية غير مزيفة، و صاحبها طبيب لامع مشهور في المجتمع الحلبي رغم أصله الادلبي، عالجت أسناني على يديه و أنا مطمئن، قلت له في أحد المرات: والله يا حكيم أنا مستغرب من نفسي كثيراً، كيف آتي إلى عيادتك بكامل إرادتي و بكل قواي العقلية؟ ضحك الدكتور و قال لي: صدقت يا استاذ، للأسف مهنتنا غير محبوبة، و أكثر زبائنها يأتونا مكرهين!
كذلك تعرفت على غول آخر في رداء “طبيب عام” عريق في مهنة الطب البشري، كانت أمي تأخذنا إلى عيادته في “العبارة” قريباً من سينما “اوغاريت” على ما أذكر، أمي تدعوه بالحكيم “الأرملي” تحريفاً لكلمة “الأرمني” التي تدل على أصوله القومية، بينما كنت أحسب مصدر هذا الأسم هو وفاة زوجة الحكيم و عزوفه عن الزواج ليبقى أرملاً مدى حياته الباقية، ترسخ في ذهني هذا المعنى لقسوة قلبه و صراخه على المريض بلهجة آمرة حازمة تخلو من الرقة و مشاعر العطف، مترافقة مع حقنة زجاجية كبيرة (سيرنك) بيده الغليظة يقطر منها الدواء الحارق مثل السم، ينهر المريض بصراخه الآمر: يا الله تسطّح على المحفّة (الشيزيلونج) و اكشف عن إليتك بصمت، فإذا حاول المريض الحرقصة أو التهرب من أخذ الحقنة، يأمر الممرضة العجوز و مرافقة المريض (غالباً ما تكون أمي) أن يمسكوا به جيداً و يثبتوه لحين الانتهاء من حقنه بالإبرة (الحقنة) المخيفة، منذ أول حقنة حقنني بها “الغول الأرملي” العجوز، حقنتُ دماء الغضب التي تسري في عروقي، و كتمت مشاعر الخوف من وخز السيرنك المستحكمة بروحي إلى الآن، و قررت مقاطعته ما حييت و فعلت، لكن صورة وجهه العبوس، و صوته الأجش الغليظ، و حقنته التي يقطر منها السم، لم يبرحوا ذاكرتي إلى يومي هذا، أراه في بعض الأحيان بالمنام يركض خلفي و بيده حقنة كبيرة يصرخ خلفي: يا الله تسطّح، دوركَ أنت!.
عرفنا غولاً متنكراً برداء ملاك، تبدو على ملامحه سمات اللطف مع ثيابه الأنيقة على موضة العصر، و ابتسامته الساذجة كطفل مدهوش، استبشر الناس به خيراً كثيراً في أول الأمر، لكن عندما أقبل الربيع أكل الأخضر و اليابس، أكلنا لحم و رمانا عظم، رحم الله الغيلان السابقين الذين عرفتهم من قبل، ما أرحمهم بالمقارنة مع جرائمه الفظيعة التي فاقت كل شرّ، حتى أبوه لم يرتكب ربع مجازره التي ارتكبها و يرتكبها علناً و بفخر، و الغريب في الأمر أن يصفق له بعض الناس قائلين: أحسنت يا بطل، بوركت!
حقاً لقد صدق فيه قول المثل الشعبي: (الكلب خلّف جرو طلع أنجس من أباه).
لا تسألوني لماذا يقال المثل بنصب اسم (الأب) مع وجوب جره بحرف الجر، في الواقع لا أعرف لماذا؟.. ربما لتعزيز الإشارة إلى النسل النجس، و ربما لأن الجرو نَصَبَ على عقول الناس برداء الملاك الذي يرتديه، يقتلنا بدعوى تخليص البلد من الدماء الفاسدة كما يدعي الأطباء و الحَجّامون، يراه العالم المتحضر و المتخلف و “العم سام” يأكلنا و يسكتون عن الظلم، يضحك العم سام ضحكة صفراء، يشدد قبضته على حقول النفط في الشرق، و يضارب بأسعاره في بورصة “وول ستريت” ، ثم يغرد قائلاً: الغول حيوان بالفعل!
يقهقه الغول البلدي الحكيم، و يرد في إحدى المقابلات المتلفزة مؤخراً: حقاً العم سام – كبير تجار العصر – أصدقُ حكماء العالم الجديد، و أنا معجب بصراحته و تسريحة شعره الأصفر بصدق.
جهاد الدين رمضان
في فيينا ١٧ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٠
النص من مذكراتي و أحداث اليوم.