منبرُنا

حمّور لا يكذب

في ليلة مقمرة اختفى الجمل من بين تعداد القطيع، اكتشف حمّور ذلك عندما لم يلحظ وجوده في نهاية قافلة القطيع التي يقودها إلى المرعى، لم يكترث لأمر غيابه في البداية، لكنه بعد عدة أيام سمع همساً  وهمهمة وعواءاً  وثغاءاً ونعيقاً حول مؤامرة دُبّرت في ليلٍ للتخلص من الجمل الذي  جهر بسخطه عند تنصيب الحمار قواداً على القطيع، وعندما تعالت الأصوات وصارت تُسمع بوضوح استدعى حمّور وزيره الخنزير الحكيم، مَثَلَ الخنزير الحكيم أمام حافري الحمار حمّور المغوار، سلّم عليه سلام الحيوانات واحنى رأسه بخنوع ثم  قال  بخوف وخشوع:

  • مولاي الأمير، ما الأمر الخطير الذي استدعيتني من أجله؟ هل وصلكَ بعض كلام المُغرضين الحاقدين علي؟ أرجوك يا مولاي اغفر لي وسامحني..

قاطعه الحمار برفسة من قائمته الخلفية اليسرى، حدّق في عينيه وخطمه المتسخ وباغته بالسؤال:

  • قل لي أيها الوزير، أين اختفى الجمل الملقب بسفينة الصحراء؟

ابتسم الخنزير الوزير وزال عنه الخوف، رفع رأسه وأجاب في الحال:

  • أكله الذئب يا سيدي!

نهق حمّور الحمار المغوار وحرّك رأسه نحو الأعلى فالأسفل تعبيراً عن رفضه لجواب الخنزير الكاذب، نقر بحافره الأيمن معلف البرسيم وقال بصوت غاضب:

  • كل الأجوبة أقبلها منك إلا هذا الجواب الطافح بالكذب، قل الحقيقة قبل أن أطعمكَ للذئب، أين اختفى سفينة الصحراء؟
  • طار في الفضاء!

قال الخنزير ذلك بلهجة الإقرار لمن يعرف كل الأسرار، مرّغ خطمه بالمزيد من القذارة وأردف قائلاً:

  • يا مولاي ألم ترغب بجعل الجمل “سفينة الفضاء” بدلاً من سفينة الصحراء؟

رد حمّور بعد لحظة تفكير بنبرة كلها دهشة واستنكار:

  • أنا.. أأنا طلبتُ ذلك، متى وأين وكيف؟

حملق الخنزير بكومة الزبل تحت ذيل الحمار، ثم اقترب منه بخطوات وئيدة وقال بما يشبه الهمس:

  • عفوك مولاي، أتذكر تلك الليلة حين سهرنا في نادي الفضيلة وكانت الحمارة الجميلة حاضرة، لقد طلبتْ منكَ – بعد مضغ الحشيش والقات والبرسيم – أن تجعل من الحبة قبة ومن “أبو بريص” تمساحاً، فأجبتها إلى طلبها وحققتَ لها أمنيتها.

فغر الحمار فمه فبانت أسنانه الصفراء، نهق  قائلاً بسرور:

  • نعم أذكر ذلك، من طبعي أن أجبر بحافر الإتان الحسان… لكن ما دخل الجمل في الموضوع؟ هل طلبتْ مني الحمارة ذات الحُسن الفتّان في تلك السهرة أن أرسل الجمل بمهمة فضائية؟

أسرع الوزير الخنزير بالرد ومعالم البهجة ترتسم على وجهه:

  • لا يا مولاي، لكنك قلتَ لي في طريق عودتنا إلى الزريبة، بأنك كنت مستعداً لتحويل سفينة الصحراء إلى سفينة فضاء كرمى لعيني الحمارة الحسناء، وقلت لي يا سيدي لا يمكن لأي  شيء أن  يقف في سبيل تحقيقكَ لأمنياتها حتى لو طلبت العلف من الصين!

حرّك حمّور رأسه ذات اليمين والشمال، وبذات الوقت كشَّ الذباب عن مؤخرته بتحريك ذيله الطويل، قال بفخر واضح:

  • نعم صحيح، لا شيء عليَّ مستحيل في ذلك السبيل، لكن على ما أذكر لم تطلب مني محبوبتي العلف من الصين ولا لبن العصفور ولا بول البعير، فأين اختفى الجمل بما حمل؟

ضحك الوزير بأدب جمّ، لعق خطمه بلسانه وأردف بالجواب:

  • باختصار يا سيدي الحمار، لقد استبقتُ الأحداث وأرسلتُ الجمل إلى مختبراتنا السرية لتأهليه في مهمة فضائية، لكنه للأسف لم يتحمّل إجراءات البحث العلمي فنفق من أول اختبار!

أحنى حمّور رأسه للأسفل كنوع من التعبير عن الحزن لنفوق الجمل، استغرق دقيقتين في مضغ الخبر وتابع استجواب الوزير، نهق قائلاً:

  • لا بأس عليك يا وزيري الحكيم، لقد فعلتَ ما يمليه عليك الواجب… لكن قل لي ماذا أقول لرعيتي وقد كثر اللغط والغمز واللمز عن وجود مؤامرة للتخلص من الجمل الذي أعلن امتعاضه لقيادتي القطيع؟

لا أظنهم يصدقون مقولة “أكلهُ الذئب” التي نتذرع بها في كل ما نريد التخلص منه، في بداية الأمر سكتت الرعية عن اختفاء الدجاج، وعلى مضض تقبلوا ذريعة اختفاء بعض النعاج، وبصعوبة جمّة بلعوا خبر أكل الذئب للثور الكبير، وبعد هذا كله تريدني أن أقف بين الحيوانات وأعلن موت الجمل بين فكي الذئب البريء؟ هل تريد أن يقال عني كذاب؟

  • حاشاك يا مولاي..

سارع الوزير الخنزير المحنّك بالجواب، لعق خطمه بسرعة خاطفة وأكمل الحديث:

  • حمّور لا يكذب يا مولاي وتعترف بهذا كل الحيوانات، لكن لا أحد يحب الصدق يا مولاي، ألم يرفضوا نجدة الراعي الكذاب عندما أخبرهم الصدق؟ لطالما صدقوه عندما كان يزعم تعرض القطيع لهجوم الذئب الوهمي فيهبّون لنجدته، وفي المرة الأخيرة عندما تعرض لهجوم الذئب الغادر بالفعل، لم يصدقوه وتركوه لمصيره البائس… أرأيت يا مولاي القواد العظيم كيف أن قول الصدق لا ينفع، بل إنه يضرّ بمصلحة الراعي والرعية، معاذ الله أن أقول أنا أو أي أحد في هذا القطيع أنك كذاب، لكن يا سيدي   فقط لا أنصحك بقول  الحقيقة، فما من أحد يطيق سماعها.. قل أي شيء آخر، حينها سيصدقك جميع أفراد القطيع، قل لهم يسقط السمك من السماء، يعيش البطريق في الصحراء،  الذئب يأكل ما يشاء وسيقولون صدقتَ يا قوادنا الأمين!

قبل أن يتابع الحمار والخنزير الحوار، قرعَ الجحش البوّاب الباب ودخل عليهما، اقترب من أذن الخنزير ونهق فيها بصوت خفيف، قال له الوزير:

  • حسناً أدخله علينا بعد لحظات.

ثم توجّه بالكلام نحو القواد حمّور المندهش، أخبره حالاً:

  • تصديقاً لما كنتُ أقوله لجلالتك وبردعتك، هذا الجحش البوّاب أعلمني أن الأرنب أبدى استعداده للإعتراف بأنه  قتل الجمل وافترس جثته، لقد تم تأهليه بنجاح في مختبراتنا، أهلناه على سبيل الاحتياط في حال احتاج الأمر لبديل عن قصة الذئب المفترس.
  • مرحى، مرحى لك يا وزيري.

نهق حمّور بالثناء على فعل الخنزير، أشار له بحافره الأيسر وتابع يقول:

  • لا داعي لدخول الأرنب المطيع، استدعِ لي الدب الكاتب والعنزة الفاضلة لكتابة بيان رسمي ليذاع عن لساني على القطيع بفضح مؤامرة الذئب الآثم وعدوانه المستمر على حظيرتنا المنيعة، مع التأكيد على عزم إرادتنا الحيوانية بالرد على عدونا الذئب في الوقت المناسب واتخاذنا لجميع الاحتياطات اللازمة.

انصرف الآن وتمرّغ بالقذارة كما شئت ونم قرير العين بما نلته من ثنائي عليك.

   يوماً بعد يوم قلّتْ أعداد القطيع المطيع، بعض الحيوانات هجرت الحظيرة خوفاً على حياتها من افتراس الذئب، ثم بدأت الحيوانات تهجر الحظيرة فرادى و زُرافات وغربان وقطعان، ركبوا المركب المتهالك للوصول إلى الضفة الآمنة بينما كان المذياع يردد كلمات حمّور بصوته الجهور:

  • سننتصر على الذئب يا اخواني الحيوانات، بولائكم ومحبتكم لي.. سننتصر على كل الذئاب في الغاب، سنهزم الأعداء في الداخل والخارج والبحر والجو.. أشكركم وأعدكم بالرخاء والكثير من الهواء…

نهض أبو بريص من قعر المركب وصاح:

  • أغلقوا الراديو ولا تستمعوا لحمّور الكذاب، يكفينا ما نلنا منه من آلامٍ وعذاب، مَن يصغي إليه لا يسلم من فكيه، سيأتي على أرواح الجميع في آخر الأمر، هيا جدّفوا بقوة حتى نصل بالمركب لضفة الأمان، ففي الغابة منأى للحيوان والسلام.

وقف الكبش المرياع في مقدمة المركب ونهر أبا بريص بقرنه المعكوف، قال له ماع بصوت وصل لكل الأسماع:

  • اسكت أيها الرويبضة الصعلوك، حمّور لا يكذب بل أنت الكذاب، ألم تتبرع له بذيلك على رؤوس الحيوانات والحشرات؟ ألم تقل له أفديك بأبي وأمي و زوجتي و ولدي بريص؟

اقعد في جحرك ولا تتهم قوادنا بالكذب، حمّور لا يكذب.

   العجيب في أمر حمّور أنه لو قال: (الفيل يدخل في خرم الإبرة) لصدقه نصف القطيع، أجهزة مختبراته تصنع الأعاجيب، الأرنب يصبح مفترساً، والنملة تغوص في الماء، والفيل يطير في السماء، إذا قال حمّور اللبن أسود تحولتْ ألبان الحيوانات إلى السواد، وإذا قال القرد غزال، لاعترف الغزال بأنه قرد أباً عن جد.

قال حمّور وقال… وما يزال يصدق نفسه، كذلك كان كل من بقي في الحظيرة يصدقه بالفعل، أو يعلن – زوراً وخوفاً – تصديقه أمام الغير، والأغرب من هذا وذاك أن أكثر من نصف المهاجرين، وليس الكبش المرياع وحده، مازالوا يصدقون كلام حمّور ويقولون عنه: (حمّور لا يكذب).


جهاد الدين رمضان – في فيينا ٧ حزيران/ يونيو ٢٠٢١

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى