منبرُنا

الناموس المعلّق

 

عرفتُ معنى كلمة “الناموس” من خلال كلام الناس، ربما مرت الكلمة في أحد الدروس خلال دراستي الابتدائية، لكنني متأكد أنني عرفت الكلمة بمعنى الشرف والنخوة والغيرة من الشارع قبل المدرسة، أكثر ما سمعتُ بالكلمة بهذا المعنى من أفواه جيراننا الأكراد في حارتي الصغيرة بحي “السكري” بحلب في عقد السبعينيات من القرن المنصرم، و سمعتها أيضاً من جدي لأبي – رحمهما الله – في طفولتي العتيقة بدارة عزة ضيعتي الصغيرة في الشمال، سمعته مراراً يوبخ المتقاعس قليل النخوة بأقذع الصفات، منها نعت المغضوب عليه بأنه قليل ناموس و ديوث.

ترسخ هذا المعنى في ذهني من خلال طرفة شعبية كنا نتداولها في تلك الأيام، تحكي الطرفة عن “امرأة ما” دخل عليها رجل غريب، و كانت بلا غطاء رأس حين دخوله، فرفعت ثوبها من الخلف و غطت به رأسها، قال لها الغريب: يا امرأة بانت مؤخرتك، ابتسمت و ردت بلا خجل: (الناموس في الرأس و ليس في الأست).
بعد تعبيد طريق قرية “زرزيتا” التابعة لناحية “دارة عزة” ضيعتي التي أصبحت كبيرة في أواخر الثمانينات، دعانا أبي لنزهة سياحية إلى المواقع الأثرية على طريق زرزيتا المتفرع عن طريق “قلعة سمعان” إلى الغرب، أسفل سفح جبل “الشيخ بركات” الشمالي، كان الطريق عصياً على السيارات الصغيرة و المتوسطة، تسلكه الجرارات و الشاحنات الثقيلة العاملة في مقالع الحجر و الرمل المنتشرة على طول الطريق، بعد تعبيده بالرمل و الحصى، سهُلَ على “أم كامل” شاحنة أبي الصغيرة سلوكه بأمان، قال لنا: سآخذكم لمشاهدة “عجبة” من أعجوبات الزمان، ستشاهدون “الناموس المعلّق” في الصخر، إضافة لآثار “ست الروم” و “رفادة” و “المشنقة” و “فدرة” و سواها من عجائب الإنسان.

تساءلتُ في نفسي لدى سماعي عبارة (الناموس المعلّق) من أبي حين وصَفَهُ بإحدى عجائب الدنيا، هل تم تعليق الشرف والنخوة والغيرة على الصخر؟ و كيف تم ذلك وهي مجرد مفاهيم فكرية ليست محسوسة؟ أيعقل أن أبي قصد عورة تلك” المرأة ما” و هل يصح ذلك؟.. إنه لمشهدٌ عجيبٌ غريب يستحق المشاهدة إذن!.
دفعني فضولي لسؤال أمي على انفراد باستحياء:

– ما هو الناموس المعلّق يا أماه، هل يتعلق بموضوع المرأة التي كشفت على مؤخرتها لتغطي رأسها حيث قالت إنه موضع الناموس؟

احمرّ وجه أمي من الخجل و ربما من الغضب كما بدا من لهجتها حين قالت:

– أما تخجل على نفسك؟ عيب، حرام عليك. ألا يكفي تلك “المرأة” أنها صارت طرفة على كل لسان، حتى تتخيل أنهم علقوا رأسها أو عقبها على الصخر للعيان؟
أطرقت رأسي في الأرض و أكملت الاستفسار:

– لكن يا أمي أليس شرف المرء هو ناموسه؟ و شرف المرأة هو عورتها؟

– بلى، شرف الإنسان هو ناموسه، والشرف ليس في العورة فقط كما ستعلمك الأيام، لكن هذا الذي سيأخذكم أبوكم للفرجة عليه هو قبر معلق في الصخر بين الأرض و السماء!

– آه.. هو من الآثار العجيبة المنحوتة في الصخر، و ليس كما تبادر إلى ذهني.

– نعم هو كذاك، إنه ناموس حجري محفور في الجبل من صنع الأجداد.
زرنا يومها الناموس المعلّق و الآثار المحيطة به، و تأكدت أنه قبر شبيه بقصر صغير محفور في صخرة كبيرة بأسفل الجبل، كان مرتفعاً عن مستوى الأرض وكأنه خلخال معلق في رجل غادة حسناء، يصعب تسلقه على الإنسان و خصيصاً قصار القامة، و مع ذلك حاولت تسلقه وفشلت فشلاً ذريعاً، و بقيت متعة استكشافه معلقة في صندوق رغباتي إلى أن كبرت وتزوجت، و بعد تملكي لسيارة أخذت زوجتي والأولاد في جولة على تلك الآثار، وتمكنت من تسلق الناموس المعلّق واستكشافه من الداخل، يا الله كم انبهرت بروعته و اندهشت كيف تم حفره في تلك الأزمان.


علمتني الكتب أن كلمة الناموس محرّفة عن كلمة “ناووس” في الأصل، و هي تعني قبر محفور في الصخر يدفن فيه العظماء، و علمتني الأيام أن تلك “المرأة” التي ضربوا عنها مثل النخوة و الناموس، كانت على حق تماماً، فرأس الإنسان هي مصدر الشرف والنخوة والغيرة والحياء، و من لم يردعه ضميره عن ارتكاب الموبقات لا شرف له، و من لا يحفظ كلمته لا يعول على كلامه مهما وعدَ و أقسمَ أغلظ الأيمان، و تجوع الحرة ولا تأكل بثديها هكذا علمتني حكمة الأجداد.. لكن في المقتلة السورية الكبرى التي تجري الآن تحت سمع و نظر العالم الصامت، صارت بعض النسوة التي تأكل من ثديها مقابل المال، أشرف ممن يضع أغلظ الأغطية على رأسه و يتاجر بقضيتنا سراً و علناً كما يحدث الآن، و قديماً قالوا: (اللي استحوا ماتوا من زمان).
ما يجري في سوريا اليوم من دمار وتخريب ونهب آثار و أعمار، و دخول غزاة قدماء وجدد إلى عمق البلد، و طائرات معلومة و مجهولة و صواريخ و قذائف و مفخخات تقصف و تخرب و تسفك الدماء السورية على مرأى العالم و رضاه، يجعلني أحكم على “الناموس” الإنساني بالموت، تباً له من ناموس يستنفر من أجل نقطة دم سالت بوخزة دبوس أو قرصة “ناموس” ولا يهتمّ لشلال الدم السوري المستمر الهدر بالقصد.


جهاد الدين رمضان

في فيينا ٣ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٠

*النص من مذكراتي و وحي الأحداث، و الصورة المرفقة للناموس المعلق منقولة من محرك البحث قوقل.

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى