منبرُنا

مُلوك الوهم

 

مرت أيام عز مفاجئة على باعة البن في حلب منتصف تسعينات القرن الماضي ، وقتها توقف استيراد القهوة من البرازيل و سواها من دول أمريكا الجنوبية، و ظهرت في السوق أصناف غريبة مريبة سيئة من البن، فكان صاحب المحل يتحكم في مزاج الزبون، يطلب الزبون نصف كيلو قهوة كولومبية فيعطيه اوقية قهوة سيريلانكية محمضة ، يرجوه الزبون إضافة مئة غرام بن برازيلي عليها، فيقبل بإضافة النصف (خمسون غرام) بعد غلبة التوسلات و الجاهات.

قبل الأزمة كان معظم باعة البن يكشّون الذباب عن أفخر أنواع القهوة، يرجون الزبون تجريب ربع كيلو بسعر مميز خاص، يشتري الزبون نصف كيلو جبراناً لخاطر البياع الطماع، و لغلبة توسلاته و تخفيضات السعر.

في الأزمة كان جاري و صديقي “أبو أيمن” على علاقة وثيقة مع أحد باعة البن في حارتنا بحي “الشيخ مقصود”، فقصدته لكي يتوسط لي عند جاره بياع البن لعله يبيعني ربع كيلو من البن المقبول، لا جيد و لا رديئ، كيلا يعزّ طلبي و يلقَ العذر.

ضحك أبو أيمن و قال لي :

• والله يا استاذ جهاد لو قال لي جاري بياع البن تعال خذ “شوال” بن كولومبي فاخر هدية خالصة لصداقتنا لما قبلت.

عقدت جبيني و استنكرت :

• معقول يا زلمة ترفض هكذا عرض في هذه الأزمة؟
ناولني سيكارة على الناشف و قال :

• نعم لئن شربت الحنظل أشرف لي من طلب قهوة “أبي قاسم” جاري الجحود، بالأمس أرسلت ابني أيمن لشراء مئة غرام بن من أبن اللئام أبي قاسم ، فرفض بيعه و قال له فليأت أبوك بنفسه إلى محلي ربما أتدبر له خمسين غرام، أو فليأتني في آخر الليل كيلا يراني أحدهم ألبي طلبه، ربما أجد له من بقايا المحل ما يكفيه لفنجان الصباح.

فعلت ما قال لإبني ، و مررت بمحله في آخر الليل، كان يحمّص و يطحن البن، و قد أغلق عليه الباب من الداخل، قرعت الباب و أظهرت وجهي من خلف البلّور، و صرخت بإسمه، و قلت هذا أنا يا جار ، ردّ من خلف الزجاج و الجدار :

(أذهب لم يبقَ عندي ولا غرام).
بالله عليك يا استاذ هل تقبل أنت بهذه المعاملة المجحفة بحق الجيرة و عشرة العمر؟ العمى ظن نفسه ملك الزمان و هو لا يسوى فرنك.

ابتسمت و أجبت :

• معك حق يا صديقي، من ايش تشكي الزهورات؟ هات لنا كأس بابونج أو زوفا تحفظ لنا مزاجنا و كرامتنا و تروق الأعصاب.

.. بعد شرب الزهورات على رواق، قلت لصديقي أبي أيمن :

• تعودنا في البلد على الأزمات، مرة نفتقد الخبز، و مرة يعز السمن و ينحصر بيعه في مؤسسات الدولة بالغرامات ، و مرة لا يبقى زيت، و مرة لا نجد سجائر حمراء فاخرة أو رديئة، و مرة يختفي الغاز للطبخ، و مرة نتوسل بياع المازوت على كم ليتر، و مرة نغرق في الظلام و لا نجد الشموع فنلعنه أكثر ، و مرة طارت محارم “الكلينكس” و صارت تعبر الحدود تهريباً كالحشيش، و مرة أخرى و ليست أخيرة تنتظر السيارات ساعات في طوابير البنزين.. و الحبل على الجرار طالما هؤلاء التجار الكبار يتاجرون في معيشتنا، و يحسبون أنفسهم ملوك و ينظرون لنا كقطيع ماشية، و للأسف هكذا الدنيا ماشية يا صديقي :

إذا أقبلت باض الحمام على الوتدِ

و إذا أدبرت بال الحمار على الأسدِ..


جهاد الدين رمضان
فيينا في ٦ آب / أغسطس ٢٠١٩

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى