فكر وفلسفة

أزمة العقل الأداتي الأوروبي

  • تقديم

المتتبع للشأن السياسي الأوربي سيلاحظ أن العقل السياسي الأوربي يتخبط في أزمة عميقة لأنه لم يستطع التخلص من تناقضاته و نزعته الكولونيالية و  الاستشراقية المتعالية.

وإذا كانت هذه الأزمة في العمق من طبيعة النظام الرأسمالي ومؤسساته السياسية التي تنتج الفوارق الطبقية والأزمات الاجتماعية، فإن أحزاب   أقصى اليمين ( الجبهة الوطنية في فرنسا و اليمين الحاكم بايطاليا وحزب المحافظين بالنمسا والحزب المتطرف في هولندا وحزب فوكس في اسبانيا…) يقدمون أجوبة شعبوية تستغل وضعية المواطن الأوربي وأزمته، بإرجاعها بشكل رئيسي للأجانب والمهاجرين واللآجئين.


ويتجاهلون عن قصد مكشوف دور هؤلاء المهاجرين في تحرير أوربا من الاحتلال النازي والفاشي لعدد من الدول. كما يتم تجاهل سواعد العمال الأجانب في بناء هذه القارة التي خرجت مدمرة من الحرب العالمية الثانية. فما هي أسباب ومظاهر أزمة العقل الأداتي الأوروبي؟ وكيف يمكن تجاوز مركزيته المهيمنة لصالح العقل التواصلي   من أجل عالم يسود فيه السلم والعدل وعلاقات دولية عادلة ومتوازنة ؟


  • 1-  صعود العقل الشعبوي الأوربي

استغلت الأحزاب اليمينية الأوربية الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، بحيث طورت خطابا شعبويا وعنصريا معاديا للمهاجرين وللوحدة الأوربية التي تحققت بعد عقود من العمل المتواصل من أجل الاندماج الاقتصادي وتوحيد العملة. هذا بالإضافة إلى توظيف الاسلاموفوبيا وكراهية الأجانب ومعتقداتهم الدينية. ويمكن إرجاع هذا الاكتساح في المقاعد الانتخابية إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تتخبط فيها أوربا منذ سنوات.

ازدادت حدتها مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية و المواقف المتخذة من طرف الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، بفرض عقوبات مالية واقتصادية على روسيا؛ أزمت الوضع الاقتصادي والاجتماعي للدول الأوربية و صعوبة إيجاد مصادر للتزود بالطاقة وارتفاع أسعارها في الأسواق العالمية.  

ويلاحظ أيضا إساءة ممنهجة من طرف اليمين الشعبوي للجاليات غير الأوربية التي تعيش في أوربا تحت غطاء حماية حرية التعبير التي يتم استغلال هذه الأخيرة، لتصريف مواقف التمييز والعنصرية. تضرب في الجوهر مبدأ الاختلاف والتعايش بين الشعوب، لخدمة مصالح سياسية ضيقة؛ تتخذ من عداء المهاجرين كمبدأ في البرنامج السياسي لها.

ويتم استغلال حرية التعبير للهجوم على الجاليات الأجنبية متجاهلين كون الحرية تتأسس على الحق في الاختلاف والعيش المشترك والتعايش في إطار الاحترام التام للاختلاف الثقافي والديني. هذا الوضع زاد في تأجيج خطاب الكراهية في المجتمعات الأوربية والتباعد بين الشعوب.


كل هذا يسائل بقوة قيم العقل الأوربي و ديمقراطيته ومصداقيته؛ بحيث أصبح مهددا بالتدحرج التدريجي نحو الفاشية والنازية الجديدة لأن  الأحزاب السياسية اليمينية تنفرد بالمؤسسات؛ وتنتج  قرارات ومواقف سياسية معادية للمهاجرين وللوحدة الأوربية. تصب في التقوقع والانعزال بدون أن يكون لها تصور للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

كما يشكل صعود اليمين الشعبوي في ايطاليا ضربة موجعة لحقوق الإنسان وخصوصا حقوق المهاجرين التي اكتسبوها بعملهم ونضالهم؛ بحيث يتم وضع العراقيل لاندماجهم في المجتمعات الأوربية في مجالات التعليم والصحة والشغل واستفادتهم من الرعاية الاجتماعية.


  • 2 – أزمة العقل الأوربي في احتواء الأزمة الأوكرانية 

 تظهر أزمة العقل الأوربي كذلك و بشكل واضح في شكل التعاطي مع الأزمة الأوكرانية بحيث عبر عن عجزه في تفادي الحرب على الأراضي الأوربية وحل القضايا الخلافية مع روسيا بالوسائل الديبلوماسية في إطار حفظ المصالح المشتركة لكل من روسيا والاتحاد الأوربي.

هذا العجز أبان عن ضعف كبير في تدبير الأزمات واستقلالية القرار الأوربي وأولوياته في حل النزاعات وكرست هيمنة القرار الأمريكي، وتبعية  الاتحاد الأوربي للقوة الأمريكية، والفشل في تحقيق السام والأمن الأوربي.

ويتضح أن أوربا كانت مطالبة بلعب دور التوازنات بين أمريكا وروسيا والتصرف كتكتل قاري يحفظ السلم والأمن ليس لأوربا فقط ولكن للعالم أيضا. وذلك بالتصرف كقطب يدافع عن مصالح أوربا باستقلالية عن القرار الأمريكي من جهة والقرار الروسي. 


أما وقد كرست تبعيتها للقرار الأمريكي، فذلك زاد من تعقيد الصراع واحتدامه وأبان أن روسيا ليست وحدها في معادلة الصراع مع الغرب؛ وأن هناك تقارب على أرضية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية مع الصين. ستؤدي إلى بلورة أقطاب اقتصادية وجيوسياسية؛ تقتضي التفاوض والحوار الديبلوماسي لإعادة ترتيب وتشكيل الوضع الدولي على أسس جديدة.

تأخذ بعين الاعتبار المصالح المشتركة لكل قطب سياسي بعيدا عن الحسم العسكري التقليدي أو النووي لأن التصعيد والمزايدات يهدد في الصميم الأمن العالمي والتعايش السلمي والوجود البشري. 

لذلك، يبقى التفاوض والحوار الديبلوماسي هو البديل الحتمي للأزمة الأوكرانية، لحفظ مصالح الأطراف المتضررة وعلى رأسهم الشعب الأوكراني والشعب الروسي وباقي دول العالم التي تضررت من مضاعفات هذه الأزمة؛ بحيث أدخلت العالم في أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة زادت من حدة الفقر. وتدهورت معه مؤشرات التنمية  في العالم، بفعل غلاء فاتورة الطاقة وتهديد الأمن الغذائي العالمي للدول وعلى رأسها الدول النامية.


  • 3 – التفاوض والحوار لحل الأزمة الأوكرانية وتفادي التصعيد النووي 

لا يشكل اليمين الشعبوي لمؤسسات الدول الأوربية حلا للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والبنيوية للنظام الرأسمالي، بل على العكس تماما؛ يشكل تأزيما مضاعفا للوضع الاجتماعي والسياسي؛ وسببا في اندلاع الحروب في غياب برامج وحلول لحل الأزمة، وليس لإدارتها واللعب على مشاعر المواطنين ودغدغة عواطفهم بخطابات عنصرية وحماسية.

تؤدي إلى تفكيك بنيات هذه المجتمعات و تنوعها الثقافي. كما تنذر بدخول أوربا نفقا مظلما يجهز على المكتسبات الديمقراطية والحقوقية ويهدد التعايش السلمي بين الأفراد والجماعات والدول. ويعكس هذا الوضع أعطاب الديمقراطية النيابية الأوربية التي أصبحت مأزومة أوصلت اليمين الشعبوي إلى السلطة في هذه الدول.


كما يتضح أن البديل الموضوعي لهذه الأزمة هو التفاوض والحوار كحتمية لا مفر منها لإيجاد الحلول وإنقاذ العالم من الدمار الجزئي أو الشامل الذي قد يعصف بالوجود الإنساني أمام التسلح النووي المضطرد الذي يهدد البشرية.  خصوصا أن التحكم في هذا السلاح ليس دائما آمنا مئة بالمائة والخطأ البشري أو التقني يبقى واردا.

الشيء الذي يفترض تفكيك هذه الأسلحة الفتاكة وإعادة بناء الأمن والسلم على أسس جديدة تنصف الدول والشعوب المتضررة وحقها في التنمية والتخلص من نزعة الهيمنة والسيطرة؛ وذلك بتصحيح أعطاب العقل الأداتي الغربي، بمفهوم يورغن هابرماس، وتجاوز سلبياته وانحرافاته لتحقيق العدل والسلم والتعايش في العالم.

يجعل الحياة ممكنة على هذه الأرض وإنقاذها من التدمير والتلوث و الاحتباس الحراري بإرادة جماعية للدول والشعوب، بالرغم من الاختلاف والأقطاب الدولية خدمة لمصلحة الإنسانية جمعاء وبدون استثناء. 


  • 4 – العالم في حاجة إلى عقل ديمقراطي وتواصلي فعال

أصبح العالم في حاجة إلى تدبير عقلاني لأزمته المركبة باعتماد العقل التواصلي المنفتح على الأنا والآخر عبر وسائل التواصل المستمرة، بهدف العمل الجماعي والتضامني بين الدول والمجتمعات، للتغلب على الصعوبات والإكراهات الاقتصادية والاجتماعية، في عالم يعرف أزمات متعددة أنهكت الإنسان وقدراته الاقتصادية والاجتماعية والمالية.

وزادت من تأزيم حياته وعيشه المشترك في المجتمع. كما تكمن أهمية العقل التواصلي في آلياته التي ترتكز على الحوار والنقاش بهدف الإقناع والانخراط في اتخاذ القرارات المناسبة.

في هذا الشأن، تساهم المقاربة التواصلية في خلق وعي عند الرأي العام، بمشاركة عموم المواطنين في النقاش لقضايا الشأن العام والمساهمة في تطوير الآراء والمقترحات والبرامج التي يتم اتخاذ القرارات بشأنها في مؤسسات الدولة على المستوى الرسمي من طرف البرلمان والحكومة.


لكن  الأزمات المتتالية التي يشهدها العالم من أزمة كوفيد إلى الأزمة الأكرانية،  خلفت  مضاعفات أزمة الطاقة والأمن الغذائي أدى إلى ارتفاع قياسي للاسعارفي الأسواق العالمية والأسواق المحلية. انعكس سلبا على القدرات الشرائية للمواطن في معظم الدول تسبب في زيادة نسبة الفقر في العالم. كما زاد الاحتباس الحراري من انعكاساته المناخية والسلبية على أزمة الماء والقطاع الفلاحي في إفريقيا.

الشيء الذي جعل دول  القارة يعانون من تأمين أمنهم الغذائي والمائي. وأدى أيضا إلى فقدان الثقة في الحكومات وقدراتها التدبيرية لتدبير الأزمات ومعالجتها حفاظا على التوازن الاجتماعي بدعم الفئات الفقيرة وإنصاف الطبقة المتوسطة وتأمين العيش الكريم للمواطنين وحماية قدراتهم الشرائية من الغلاء.


  • خلاصة

إن العقل الغربي بحاجة إلى نقد باعتباره عقلا أحاديا مهيمنا في العالم، حتى يصبح عقلا تواصليا يؤمن بالحوار و التواصل الفعال سواء بين الأفراد والمجتمعات أو الدول.  و ينفتح على المواطن في الفضاء العمومي الواقعي والافتراضي، حيث يتم الإنصات إلى انشغالاته وتساؤلاته ومطالبه لمعالجتها لضمان التعبئة الجماعية والمتضامنة للتصدي للأزمة المركبة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية التي يمر منها العالم.

حفاظا على الممارسة الديمقراطية التي تعرف تراجعا ونكوصا نحو الفاشية أو النازية الجديدة. وذلك بإعادة بناء وتطوير العقل التواصلي الذي يعتبر من تجليات العقل الديمقراطي ومؤسساته في الدول الديمقراطية التي تعرف تراجعا بفعل تصاعد اليمين الشعبوي. كما يتطلب الإنصات  إلى الدول والمجتمعات النامية و مطالب المواطن ومرافعاته في الظروف العادية والاستثنائية  بالرغم من الاختلاف في المقاربات والتصورات.

وهذا يفترض، أيضا، بناء مجتمع دولي يرتكز على الديمقراطية والتواصل الفعال في بلورة الحلول والبدائل والقرارات لحل النزاعات، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية لتحقيق السلم العالمي العادل، لجميع الدول وتجاوز أزمة العقل الأحادي نحو عقل منفتح وتواصلي. يعالج الأزمات بالحوار والنقاش والتوصل لحلول على أسس عادلة تحفظ مصالح الجميع في التعايش السلمي والعيش المشترك والتنمية.

المصطفى رياني

المصطفى رياني: أستاذ باحث، حاصل على الدكتوراه في الترجمة القانونية من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، طنجة، المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى