العلامة الحاجري الذي وهب حياته للأدب المغاربي بعد أن أصبح حجة في الجاحظ
الدكتور محمد طه الحاجري (1908 – 1994) أستاذ متميز من أساتذة الأدب العربي، أقرب ما يكون في تكوينه ومذهبه وإنتاجه إلى الدكتور شوقي ضيف الذي ولد بعده بعامين وتوفي بعده بأحد عشر عاما ١٩١٠ – ٢٠٠٥، وقد رزق الدكتور محمد طه الحاجري العمر المديد (٨٦ عاما) بيد أنه لم يرزق بالعمر الذي رزق به الدكتور شوقي ضيف (٩٥ عاما)، وعلى حين رزق الدكتور شوقي ضيف بالعمل في الجامعة الأم.
فقد عمل الدكتور محمد طه الحاجري في الجامعة الثانية بجامعة الإسكندرية، ومع أن مؤلفات الدكتور محمد طه الحاجري متميزة جدا وكثيرة جدًّا فإنه لم يرزق الرقم القياسي في المؤلفات الذي رزقه الدكتور شوقي ضيف كأستاذ لتاريخ الأدب. ومن الطريف أنه تخرج في الدفعة التالية لدفعة الدكتور شوقي ضيف، وأن الدكتور شوقي ضيف كان هو الذي استقبله في مجمع اللغة العربية عند انتخابه عضوًا به.
نشأ الدكتور محمد طه الحاجري في إحدى قرى الصعيد، وكان والده أزهريا، وقد تلقى تعليمه الأولي في مدرسة أولية لحفظ القرآن الكريم، وأتم حفظ القرآن الكريم سريعًا، والتحق بالأزهر الشريف حين بلغ الثانية عشرة (1920). وفي أثناء دراسته الأزهرية أتيح له أن يمارس هواية القراءة الحرة، فيما كان متاحا له،
وقد أعجب بمجلة الوجديات التي كان يحررها الأستاذ محمد فريد وجدي، وواظب على قراءة أعدادها، ولما عرف أن الأستاذ محمد فريد وجدي ينشر دائرة معارف شهرية اشترك في أجزائها، كما اقتنى كتابه على أطلال المذهب المادي وتأثر بنزعته الإصلاحية، الدينية والاجتماعية.
هكذا فإن الدكتور محمد طه الحاجري لم يقف اتصاله بالعلم والثقافة عند حدود التعليم المتاح في الأزهر، لكنه التحق بمدرسة لتعلم اللغة الفرنسية، بالإضافة إلى تعليمه الأزهري النظامي، وقد نال ثانوية الأزهر في سنة 1929، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة تبعا للنظام الذي كان يسمح بقبول حاملي ثانوية الأزهر وتجهيزية دار العلوم، في قسم اللغة العربية، وهو النظام الذي مكّن الدكتور شوقي ضيف من قبله من الالتحاق بالآداب.
وفي الجامعة تتلمذ على الأساتذة طه حسين وأحمد أمين وعبد الوهاب عزام، وأظهر اجتهادا بارزا في الدراسة، واقتدى بأساتذته الذين كانوا يكتبون بانتظام في مجلة الرسالة التي كان الأستاذ أحمد حسن الزيات يصدرها، وكان بثقافته ومقارباته قادرا على الكتابة فيها، وظهرت له فيها مقالات جعلت اسمه مشهورًا في مرحلة مبكرة عن كل أقرانه فلما صدرت مجلة الثقافة كان من كتابها أيضا.
الجامعة تحتفظ به منذ تخرجه
عين الدكتور محمد طه الحاجري معيدًا بقسم اللغة العربية بالكلية بعد حصوله على الماجستير، وانتقل في سنة 1942 إلى جامعة الإسكندرية، ليكون أحد مؤسسي قسم اللغة العربية بها، وظل يعمل بها طوال حياته الجامعية |
نال الدكتور محمد طه الحاجري درجة الليسانس سنة 1936 في الدفعة التي ضمت زميليه اللذين حققا أيضا شهرة موازية لشهرته، وفي جامعة الإسكندرية أيضا، وهما الأستاذان الدكتوران جمال الدين الشيال العميد وأستاذ التاريخ الإسلامي الأشهر، ومحمد عبد المعز نصر أستاذ العلوم السياسية الأشهر.
ولأن نظام المعيدين لم يكن مطبقا على النظام الموسع الذي نعرفه الآن، فإن الجامعة كانت تتيح نظامًا شبيهًا به هو نظام المنح، وهكذا أمكن لقسم اللغة العربية أن يحتفظ بالحاجري قريبا من محراب العلم في وظيفة طالب بحث.
غرامه بالجاحظ
اختار الدكتور محمد طه الحاجري تحقيق كتاب البخلاء للجاحظ موضوعًا لرسالة الماجستير، وكان المستشرق فان فلوتن قد نشر هذا الكتاب من مخطوطة متاحة بإحدى مكتبات الآستانة، وكانت على حد وصفه نسخة مليئة بالأخطاء، وحققه على مخطوطة أخرى، واستعان الدكتور الحاجري بمصادر تضمنت مقتبساتٍ ونصوصًا من الكتاب، وبمصادر كثيرة في تخريج الآثار والشواهد المبثوثة فيه، وقد علق من خلاله على كل ما تضمنه الكتاب من إضاءة لصورة الحياة والحضارة في العصر العباسي، كما أنجز الفهارس التفصيلية للكتاب.
وقد أعجبت به اللجنة التي شُكلت لمناقشة رسالته إعجابًا شديدًا. وكان أحد أعضاء هذه اللجنة مستشرقًا يقوم بالتدريس في قسم اللغة العربية هو المستشرق المعروف بول كراوس وقد أعجب بالحاجري، على نحو ما كان يعجب بالجاحظ وأدبه، فعرض عليه العمل معه على طائفة من رسائل الجاحظ التي لم تنشر، وفي تحقيق نصوصها، واستجاب له الحاجري، وحققا معًا أربع رسائل ونشراها سنة 1943،
ثم أعاد الدكتور الحاجري نشرها فيما بعد مضيفًا إليها بعض رسائل ونصوص أخرى للجاحظ لم يسبق نشرها، وقدم الحاجري لهذه الرسائل جميعا بمقدمات تحللها وتوضح الظروف التي وضعت فيها، وتضعها في السياق الصحيح من حياة الجاحظ وعصره. وقد كان الجاحظ موضوعًا لرسالة الدكتوراه، أيضا وفيها أنجز دراسة بيئة البصرة دراسة موسعة، وصور الحياة فيها وخصائصها العقلية، وما ازدهر فيها من المناظرات والاختلافات في الحياة الفكرية، وخاصة بين المتكلمين، وفي مقدمتهم المعتزلة.
كما درس الدكتور الحاجري حياة الجاحظ في أسرته ومولده ونشأته وثقافته ومذهبه في الاعتزال، واتجاهه إلى التأليف ورحلاته إلى بغداد، وأرَّخَ لمؤلفاته ورسائله تأريخًا علميًّا، أدق ما يكون التأريخ العلمي، وهكذا خرج كتابه القيم الجاحظ، حياته وآثارها.
وهكذا أصبح الحاجري مع الأستاذ عبد السلام هارون ١٩٠٩- ١٩٨٨ (السابق عليه في الأستاذية والتالي له في المولد) مشهورًين بالجاحظ، ومرجعين في دراساته، على نحو ما كان الشيخ محمود شاكر مرجعًا في المتنبي، وعلى نحو ما كانت الدكتورة عائشة عبد الرحمن، والدكتور طه حسين من قبلها مرجعين في أبي العلاء المعري.
وقد توج الدكتور الحاجري جهده المشرف والدؤوب في هذا المجال (منذ مرحلة مبكرة) بنواله هو والدكتورة بنت الشاطئ الجائزة الثانية من مجمع اللغة العربية في تحقيق التراث (1950)، بينما نال الأستاذ عبد السلام هارون الجائزة الأولى عن تحقيقه لكتابي الحيوان ومجالس ثعلب، وكانت هذه أول مرة يمنح فيها المجمع جائزة في هذا المجال، وكان هذا بمثابة اعتراف مبكر بقيمة عمل هؤلاء الأساتذة الكبار.
عمله المؤسس في جامعة الإسكندرية
عضويته في المجمع اللغوي
انتخب الدكتور الحاجري عضوًا في مجمع اللغة العربية وشغل الكرسي التاسع الذي خلا بوفاة المرحوم الأستاذ علي النجدي ناصف، وقد ألقى الأستاذ الدكتور شوقي ضيف كلمة المجمع في استقباله في مايو 1984، ملخصًا فيها حياته العلمية. ومن البحوث التي ألقاها في المجمع: تخريج نصوص أرسططالية في كتاب الحيوان للجاحظ (1)، (2). وفي المجمع شارك في لجنة المعجم الكبير ولجنة الجيولوجيا، لكن حياته بعد انتخابه عضوًا لم تطل.
كتاباته عن العصر العباسي والأدب في المغرب العربي والأندلس
بالإضافة إلى مؤلفات الدكتور الحاجري عن الجاحظ، فإنه ألَّفَ في تاريخ النقد العربي كتابًا أضاء فيه بواكير هذا النقد في العصر الجاهلي، ونموه في صدر الإسلام، ونشاطه في العصر الأموي في ثلاث بيئات مختلفة هي: الحجاز والعراق والشام.
وكتب عن الشاعر العباسي المشهور بشار بن بُرد كتابًا في سلسلة نوابغ الفكر العربي، صور فيه عصره وحياته وشخصيته وخصائصه الفنية، وقدم طائفة مختارة من أشعاره الجيدة في أغراض مختلفة. وله في سلسلة اقرأ كتاب عن قصر الرشيد، صور فيه ما حفل به القصر من نشاط سياسي واجتماعي وأدبي.
وفي ميدان تاريخ الأدب عني الحاجري بدراسةِ الحياة الأدبية في بلدان المغرب المختلفة، وبخاصة بعد ما توافر له أثناء عمله في ليبيا وزيارته لتونس، وقد وضع عن ملامح هذه الحياة طائفة من الكتب. كان أولها كتاب دراسات وصور من تاريخ الحياة الأدبية في المغرب العربي،
نشر فيه محاضراته عن الحياة الأدبية بليبيا، وكان قد ألقاها على طلابه في معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، وأعاد نشره فيما بعد، مضيفًا إليه حديثًا عن المغرب العربي في القرون الثلاثة الأولى، وفي العصر الحديث.
وقد ألقى في سنة 1968 على طلبة معهد البحوث والدراسات العربية محاضرات عن الحياة العقلية والأدبية في الجزائر الحديثة والمعاصرة، وقد صور فيها تلك الحياة منذ ابتدائها، مع دراسة تفصيلية عن الأمير عبد القادر الجزائري وأدبه وشاعريته وكتاباته العلمية، وآثاره الصوفية شعرًا ونثرًا وآثاره الديوانية، وتعد هذه الدراسة مرجعا مهمًا ومبكرًا للحديث عن نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعلامها وإنشاءاتها ومناهضتها الثورية والفكرية للاستعمار الفرنسي.
وتأتي مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين لتشهد نشاطًا ملحوظًا للأستاذ الحاجري، فقد تفوق في الترجمة لخمسة من أعلام المغرب العربي، فقد ألف الحاجري عن أديب تونس ابن شرف القيرواني دراسة قيمة نشرها سنة 1983 وتحدث فيها عن حياته في موطنه وفي صقلية وفي الأندلس، وقدم مختارات من شعره ونثره. وكان له اتصال بالحياة الأندلسية من خلال كتابه عن ابن حزم الذي نشرته دار الفكر العربي مبكرا في الخمسينيات.
وفي سنة 1983 نشر الحاجري كتابًا عن مرحلة التشيع في المغرب وأثره في الحياة الأدبية هناك منذ قيام الدولة الفاطمية قبل انتقالها من أفريقية إلى مصر، مع بيان دور ابن هانئ في هذا الانتقال.
كذلك عكف الحاجري على دراسة ابن خلدون ونشر عنه كتابًا ابن خلدون بين حياة العلم والسياسة أوضح فيه مراحل حياته في البيئات المختلفة التي اختلط بحكامها وأهلها من الأندلس إلى الشام ومصر مع بيان مفصل للحياة العقلية في تلك البيئات، وللأستاذ ترجمة دقيقة عن الآبلي أستاذ ابن خلدون.
وللدكتور محمد طه الحاجري، بالإضافة إلى هذه الكتب، مقالات كثيرة نشرها في مجلة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية وفي مجلات مختلفة بمصر والعالم العربي، وقد واظب على الكتابة في الإصدار الثاني لمجلة الثقافة، على نحو ما كانت له مساهمات في إصدارها الأول، وعلى حد تعبير زملائه، فإنه لا يكاد يخلو عدد من أعداد مجلة الثقافة في سنواتها الأخيرة في الستينيات، من مقال له.
وفاؤه لأستاذه محمد فريد وجدي
وبالإضافة إلى كل هذه الدراسات المنهجية التي سارت في طريق كلاسيكي وتاريخي، فقد ألقى الدكتور الحاجري مجموعة محاضرات عن أستاذه الأول محمد فريد وجدي في معهد البحوث والدراسات العربية سنة 1970، ثم جمعها في كتاب ترجم للأستاذ وجدي مع تصوير دقيق لسيرة حياته في شبابه إلى أن بلغ الحادية والثلاثين من عمره مع بيان مؤلفاته واشتغاله بالصحافة.
د- محمد الجوادي / كاتب وباحث مصري