مصطلحية ومعجمية

حول مفهوم الفاشية بين المجاليْن المسيحي والإسلامي

ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من المصطلحات في التداول الإعلامي العالمي، تنهل من معجم سياسي وإيديولوجي أوروبي قديم، غير أنها تُستعمل لوصف قضايا معاصرة تجعل مضامينها تلتبس في أذهان الجماهير العريضة من المتابعين لمختلف أنواع الإعلام (التقليدي: “المقروء/ المكتوب، والمسموع، والسمعي – البصري”، أو المستجد: “الإلكتروني”). ومن أهم تلك المصطلحات أخص بالذكر مفردة “الفاشية”.


سنحاول في هذا المقال أن نبحث في الأصول اللغوية للكلمة في اللسانين العربي والغربي (الفرنسية نموذجًا)، قبل أن نحدد مختلف الحيثيات التي أحاطت بتشكلها في المجال المسيحي، لنختم بتحديد رأينا في الموضوع.

  • 1. حفريات لغوية:

تعود الأصول الإيتيمولوجية لكلمة “فاشية” إلى الكلمة اللاتينية “فاشس”؛ وهي تعني حزمة من العصي أو القضبان في وسطها فأس يمثل الوحدة والقوة. وقد كانت هذه الحزمة بمثابة رمز إيطالي قديم كان يحمله الأباطرة والقضاة الرومان القدامى؛ بحيث يجسد الوحدة والقوة، ومن هنا جاء مصطلح “الفاشية” بما هو كناية عن اتحاد أفراد الشعب الروماني.

ويمكن أن نميز في المعاني التي يقدمها القاموس الفرنسي لكلمة فاشية (Fascisme) بين معنيين أساسيين:

• الأول مرتبط بالدولة؛ ونميز فيه بدوره بين:

[ معنى خاص؛ ويتلخص في أنها “مذهب ونظام سياسي قومي شمولي أرسى دعائمه “موسوليني” في إيطاليا سنة 1922″(1).

[ ومعنى عام؛ يربط الفاشية بـ “كل مذهب يتغيا تشييد دولة ديكتاتورية من هذا النوع”(2).

• والثاني مرتبط بالأفراد؛ نشير به إلى كل شخص/ فرد سلطوي وعدواني؛ يُعلي من أهمية العنف وقيمته في الحياة(3).

فمدار الحديث عن الفاشية في القاموس الفرنسي يرتبط بالديكتاتورية والعنف والعدوانية.

أما بخصوص القاموس العربي فالملاحظ أنه يقدم حدودًا مغايرة للكلمة، تدخل في دائرة المتداول اللغوي العربي البعيد كل البعد عن الظروف التي أفرزت “الفاشية” بوصفها إيديولوجيا سياسية في أوروبا. ومن أهم هذه التحديدات نذكر:

• “فشا الشيء يفشو فشوا إذا ظهر (…) ومنه إفشاء السر”(4)؛

• كما نقول: “إني لأحفظ فلانًا في فاشيته، وهو ما انتشر من ماله من ماشيىة وغيرها”(5).

•”إذا نمت من الليل نومة ثم قمت فتلك الفاشية”(6)…

وهي في مجملها تدور حول معنيين أساسيين، يرتبط أولهما بإذاعة الشيء ونشره على الملإ، ويتصل ثانيهما بالنوم لفترة معينة خلال الليل. وعليه، فالمصطلح الإيطالي – الأوروبي فيما بعد – هو مجرد مفردة/كلمة في اللغة العربية خِلو من أية رمزية إيديولوجية.

غير أن المعاجم العربية المعاصرة تشير – بالإضافة إلى المعنيين المذكورين في القواميس القديمة – إلى المفهوم باعتباره مفهومًا واردًا على الثقافة العربية، وتحدده كالتالي:

• “مذهب سياسي واقتصادي، نشأ بإيطاليا في هذا القرن [يقصد القرن العشرين]، يقوم على نظام النقابات، وعلى تدخل الدولة في كل مظاهر النشاط الاقتصادي”(7).

• “الفاشيَّة (السياسة) الفاشستيّة، مذهب سياسيّ واقتصاديّ أُسِّس في إيطاليا. يقوم على دكتاتوريَّة الحزب الواحد وقمع المعارضة والتعَّصب القومي والعنصريّ وإعلاء شأن الحرب، وتدخّل الدولة في كلِّ مظاهر النَّشاط الاقتصاديّ، والحماسة الوطنيّة والحِرَفيَّة؛ وتدعو إلى إقامة حكم أوتوقراطيّ مركزيّ على رأسه زعيم دكتاتوريّ. سميت بهذا الاسم نسبة إلى منظمة سياسيَّة إيطاليَّة تُدعى “فاشستي” أسِّست بين سنتي 1922 – 1945 “(8).

ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى أن التحديدات القاموسية تكون مختصرة، ومتفاوتة في حجم المعطيات التي تقدمها، هذا ناهيك عن عدم تعمُّق مكوناتها.

وعلى العموم، فقد ترعرع المصطلح المدروس في بيئة أوروبية مشبعة بظروف مجتمعية(9) أفرزت نظام حكم لم يُعرف في المجال العربي الإسلامي.


  • 2. تشكل المفهوم:

أ‌-الخلفية التاريخية: 

ظهرت الفاشية في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وقد ارتبطت بمختلف التحولات التي شهدها المجتمع الأوروبي، والتي أفضت إلى تشكيل ما يسمى بـ “الدولة القومية” التي تقوم – من بين ما تقوم عليه – على ترسيخ مفهوم عمودي صارم للسلطة، ودفع مختلف المواطنين إلى الارتباط الوثيق بدولتهم وبعِرقهم؛ الشيء الذي أفضى إلى نوع من العنصرية التي تحولت فيما بعد إلى أنظمة سياسية ديكتاتورية شمولية. ومن أهم الفاشيات القومية التي عرفها العالم: الفاشية الإيطالية، والفاشية (أو النازية) الألمانية.

وتشير عدد من الدراسات والأبحاث إلى أن الفاشية القومية تبلورت في أوروبا أساسًا في فترة بين الحربين العالميتين كرد فعل على اجتياح كل من التيارات الليبرالية والرأسمالية من جهة، والإيديولوجيات اليسارية التقدمية من جهة أخرى للمشهد السياسي العام. ذلك أن الفاشيات القومية قدمت “نماذج كارهة للتقدم والمساواة والديموقراطية وحقوق الإنسان”(10)، رغبة منها في تشييد سياسة تتمركز حول:

• مركزية مفهوم الدولة وأهميته، وضرورة ذوبان الفردي في الجماعي بغض النظر عن حقوق المواطن/ الفرد وطموحاته الشخصية ومشاريعه المستقبلية. وكما قال الديكتاتور الإيطالي “بينيتو موسوليني” 🙁Benito Mussolini)”كل شيء داخل الدولة، لا شيء خارج الدولة، لا شيء ضد الدولة”؛ وذلك بالنظر إلى أنها الضامن لتحقيق الأهداف القومية التي من المفروض أن تكون مطمح كل فاشي حقيقي.

• أهمية القائد الأب(11) باعتباره رأس الدولة والقابض بيد من حديد على زمام حكمها؛ بل إنه الدولة نفسها، ذلك أن الفاشيين يؤمنون أن القائد بمثابة تجسيد للدولة ولا فرق بينه وبينها. وهو قائد يتصف عمومًا بصفات نُجْمِلها في: حضوره الطاغي (Charismatique)، والإيمان العميق لجميع مكونات الشعب بأن ما يصدر عنه غير قابل للجدال أو المناقشة أو حتى إبداء الرأي فيه، هذا فضلاً عن تباهيه بوطنيته وشدة ارتباطه بأرضه وقوميته، وتوعده لأعدائه بأشد أنواع العقاب…

• محورية الإعلام في الإعلاء من شأن العنصرين السابقين وتثبيت دعائمهما داخل المجتمع وفي أذهان كل أفراده. ويتّصف هذا الإعلام بأنه إعلام جماهيري صادر عن الدولة (لا وجود إلا لإعلام الدولة)، وذو اتجاه واحد (لا مجال للحديث عن إمكانية مناقشة ما يذيعه أو إبداء آراء شخصية بصددها)؛ بحيث  يمارس عملية إقناع الجماهير بصحة أهداف النظام الحاكم ومشروعية ما يقوم به،

بالإضافة إلى توظيف الدعاية بكل آلياتها وأولياتها في ترسيخ أهمية الإيمان بتوجهات القائد/ الدولة وضرورة اتباعها؛ وذلك باعتماد تقنيات التكرار والمبالغة في منطوقات الخطب، والتلاعب بمشاعر الجماهير وعواطفهم بتزييف الحقائق ورسم عالم مثالي يتناقض في تصوره مع واقع الممارسة…


• عسكرة الحياة الاجتماعية؛ حيث كان “موسوليني” يدعو إلى جعل الشعب الإيطالي بأكمله، أطفالاً وشبابًا ورجالاً وكهولاً، بمثابة جيش لإيطاليا الفاشية وضامنًا لقوتها واستمراريتها من أجل تحقيق مطمح إحياء الإمبراطورية الرومانية…

  • ب‌- الخلفية السياسية:

أما من الناحية السياسية، فبالنظر إلى فشل الأحزاب الليبرالية في فترة ما بين الحربين العالميتين في استيعاب الصحوة السياسية الكبرى في أوروبا – بسبب تزايد الرغبة الجماهيرية في المشاركة في تسيير الشأن المحلي ـــ فقد استغلت الحركات الفاشية الوضع، ونجحت في إبهار طبقات الفلاحين والعمال والموظفين… وكذا الشباب، لاسيما منهم الذين ساهموا في الحرب العالمية الأولى(12).

وقد كانت هذه الحركات الفاشية حركات راديكالية عنيفة محسوبة على اليمين المتطرف الرافض لكل الحساسيات السياسية التي كانت سائدة آنذاك؛ سواء كانت من “جماعات اليسار، أو التيارات الليبرالية، أو حتى المحافظة”(13)، حيث مزجت بين إيديولوجيتين “هما الفاشية والقومية، بل ويعتبر البعض أن الفاشية هي شكل متطرف من القومية التوسعية الشوفينية”(14).

وهكذا، كانت الفاشية حركية سياسية وعسكرية ترعرعت في أوروبا المسيحية، تحولت فيما بعد إلى نظام مجتمعي متكامل يروم التأسيس لنمط جديد من الحكم، يقوم على القمع، والرأي الوحيد، واستعمال القوة سبيلاً للإقناع؛ وقد أفضى إلى حال من الفوضى والدمار في العالم ككل إبان الحرب العالمية الثانية.

غير أن مثيلاً لها لم يُعرف في العالم العربي الإسلامي؛ بالنظر إلى اختلاف الظروف السياسية والسوسيو – اقتصادية، وتباين المنطلقات، وتباعد الخلفيات العقدية والدينية عمومًا.

لهذه الأسباب، فنحن نجزم أن من يصف الإسلام في عصرنا هذا بالفاشية، يدخل في باب رغبة تيار معادٍ للإسلام، يستقر أقطابه أساسًا في أوروبا، في تشويه صورته، متجاهلين الفرق البيِّن والواضح بين مفهومين أساسيين: “الإسلام” باعتباره نظرية إلهية، تنظم الحياة وتقنن الممارسات بدون إفراط ولا تفريط من ناحية، و”المسلمين” بوصفهم من يطبقون هذه النظرية، ولكن كل على هواه، وتبعًا لفهمه الخاص؛ وهو ما قد يفرز أحيانًا تطرفًا للممارسين لا علاقة له البتة بالنظرية السَّمحة، من ناحية ثانية.


 وعلى هذا الأساس، لا يجب أن نحصر الإسلام في تصورات فردية مشوهة يحاول الإعلام الغربي أن يُبَئِّرها ويبالغ في ربطها بالإسلام مستغلاً الفراغ الإعلامي، بل إن المعوَّل عليه هو أن يجرد المفكرون الأقلام لتقديم الإسلام كما هو، لا كما يرغب الآخر في تصويره، مبتكرًا – في سبيل ذلك – مصطلحات غريبة وغير واقعية، من قبيل مصطلح “الفاشية الإسلامية”.


  • الهوامش:

1 – Paul Robert, Le Nouveau Petit Robert, Paris, 2001, p: 1003.                                      

2 – المصدر السابق، الصفحة نفسها.

3 – نفسه.

4 – ابن منظور الإفريقي، لسان العرب (المجلد الحادي عشر)، صدر مذكور، ص: 185.

5 – المصدر السابق، الصفحة نفسها.

6 – نفسه، ص: 186.

7 – إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط (الجزء الثاني)، ص: 690.

8 – معجم اللغة العربية المعاصرة نقلا عن موقع:

http://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%81%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%A9/

9 – من الواجب أن نميّز بين كلمتي “اجتماعي” و”مجتمعي”؛ فالأولى جزء من الثانية، والثانية كل يتضمن أجزاء عدة منها الأولى. وعلى هذا الأساس، تكون الظاهرة “مجتمعية” إذا كانت تطال ما هو اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وثقافي… أما إن كانت اجتماعية فقط، فهي تبقى في حدود جوانبها السوسيولوجية، بدون الخوض الجوانب الأخرى.

10 – أحمد أبو حسين، أصول الفاشية: كيف تبدأ؟ وما هي السمات المشتركة للفاشيين، مفاهيم المستقبل (ملحق شهري يصدر مع دورية “اتجاهات الأحداث”)، العدد 13، أغسطس 2015، ص: 03.

11 – المرجع السابق، ص: 05.

12 – د. شادي عبد الوهاب (محرر الملحق) المعركة الدائمة: لماذا الفاشية مجددًا؟، مفاهيم المستقبل (ملحق شهري يصدر مع دورية “اتجاهات الأحداث”)، العدد 13، أغسطس 2015، صص:01-02 (بتصرف).

13 – أحمد أبو حسين، أصول الفاشية: كيف تبدأ؟ وما هي السمات المشتركة للفاشيين، مرجع مذكور، ص: 03.

14 – مريم وحيد، “اليمين القومي”: صعود التوجهات “الفاشية الجديدة” في أوروبا، مفاهيم المستقبل (ملحق شهري يصدر مع دورية “اتجاهات الأحداث”)، العدد 13، أغسطس 2015، ص: 07.


إعداد: ذ- نبيل موميد، أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية، مركز أقسام تحضير شهادة التقني العالي – أغادير – المغرب


نقلا عن مجلة فكر الثقافية.

نبيل موميد

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى