هل التنجيم علم؟
في أول مرة سمعت فيها امرأة تسألني عن برجي، كانت دهشتي من الكبر وحيرتي غامرة بحيث لم يكن جوابي لها بأقل إدهاشًا: “برج بابل”.
أجابتني بفرنسية باريسية: “أنا جادة، عزيزي”. فرددت عليها: “وأنا لست بأقل جدية منك”. ختَمَت بالقول بنبرة من السخرية: “ليس هنالك من ليس له برج من الأبراج”.
قلت لصديقتي بأني بكل بساطة لا علم لي بيوم ولا بشهر ميلادي، وبأن عام ميلادي بدوره ليس أكيدًا… ففي القرية الصغيرة التي ولدت بها، والتي تبعد عن فاس بما يقارب المئة كيلومتر، لم يكن أحد يسجل يوم الميلاد، ولا شهره، ولا عامه.
فأمي ولدت عام “البون” (أي عام التقشف الذي كانت السلطات الفرنسية تمنح فيه للناس قسيمة المؤونة)، وأبي عام جلوس السلطان محمد بن يوسف على العرش.
في ما بعد، لاحظت أن أغلب النساء اللاتي يتحادثن عن أمور الحياة والحب والحظ فيها يتساءلن عن أبراجهن، وعن أبراج من يدخلون في اهتماماتهن الحميمة. وكثير من النساء، كما الرجال الشباب، أضحوا يعتقدون فيه جازمين،
كقدَر يصاحب وجودهم، ويلف حياتهم بتفاصيل دقيقة عن الحظ والحب والمال والمزاج… بل إن علاقات التوافق في الحب والزواج، وغيرها، أضحت تخضع بشكل أو بآخر للأبراج، وكشفها اليومي، أو الأساسي، لغيب الحياة الفردية.
- عودة “المقدس” وديمومته
نتذكر جيدًا كيف أن الرئيس فرانسوا ميتران قد لجأ في خلال انتخاباته إلى نصائح منجمة فرنسية شهيرة، وهو ما أثار جدلًا ونقاشًا كبيرًا في الأوساط السياسية الفرنسية.
كما أضحت نهاية السنة القديمة، وبداية السنة الجديدة، تعرف فيضًا من التكهنات الهاوية والاحترافية التي تسعى إلى رسم ملامح المستقبل.
ومع سيادة شبكة العوالم الافتراضية، والتواصل الرقمي، زاد عدد المنجمين، وصار كل من هبّ ودبّ يمنح نفسه هذه الصفة، ويتنبأ للغير بما ينتظرهم في يومهم، أو ما يأتي من أيامهم.”لجأ الرئيس فرانسوا ميتران في انتخابات إلى نصائح منجمة فرنسية شهيرة، وهو ما أثار جدلًا ونقاشًا كبيرًا في الأوساط السياسية الفرنسية”
هذه الممارسة التي تعود إلى البابليين والمصريين القدماء لم تفقد من قوتها عبر التاريخ. وقد عرفتها العرب بكافة أشكالها، من فراسة، وقيافة، وكهانة، وتنجيم، وكشف للطالع، وعرافة، وغيرها. فقد كانت أشبه بالدين الموازي الذي يتضافر والسحر للتحكم في الآتي، والسعي إلى ترويضه.
وظلت وظائفه تتداخل مع الدين، وتراوده عن يقينياته، وتفتح دومًا مسارب خفية لإشباع رغبة الإنسان في مجاوزة حدوده وقدراته.
وإذا كان التنجيم قد اختلط طويلًا بعلم الفلك فإن أصولهما المشتركة قد منحت لأحدهما صفة العلم، لتطوره وارتباطه بالعلوم البحتة، فيما ظل التنجيم أشبه بعلم نفْس، من نوع خاص، يسائل تأثير الكواكب في مصائر الذات الإنسانية.
أطلق العرب أسماء مختلفة على العلوم التي تهتم بالفلك، ومن هذه الأسماء: علم الهيئة، وعلم التنجيم، وصناعة التنجيم، وعلم أحكام النجوم، وعلم هيئة الأفلاك، وعلم الزيجات (أي الجداول الفلكية) والأقاليم.
وقد عرَّف الفارابي علم النجوم بقوله: “إن علم النجوم يشتمل على قسمين: أحدهما علم دلالات الكواكب على المستقبل، والثاني العلم التعليمي، وهذا القسم الثاني هو الذي يُعدُّ من العلوم.
وأما الأول فهو إنما يُعدُّ من خواص النفس التي يتمكن بها الإنسان من معرفة ما سيحدث في العالم قبل حصوله، وذاك من نوع الفراسة والزجر والطَّرق بالحصى، وغير ذلك، والاسم الشائع لهذا العلم الأخير هو: علم التنجيم، الذي يهدف إلى معرفة تأثير النجوم والكواكب على مصائر البشر”.
ثمة، إذًا، مجالان: علم الهيئة ومجاله العلاقات الفعلية الرياضية القائمة بين الكواكب والنجوم والبروج، وبينها وبين الأرض. ومجال يتعلق بالعلم الذي يهتم بتأثير الكواكب على بني البشر.
كان التنجيم في ما مضى فرعًا من علم النجوم، يخضع مثله إلى قوانين محددة، ومنه يجري اندماج الإنسان والكائنات الحية مع نظام الكون في مجموعة وثيقة جدًا من العلاقات.
وقد كان المسعودي من أبرز من اعتقد بنظام النجوم، فوضع كل إقليم من الأقاليم السبعة تحت تأثير كوكب وبرج من الأبراج، معتقدًا بوجود صلة وثيقة بين أجزاء معينة من الأرض وقبة السماء.
ولاحظ اهتمام العرب بأحكام النجوم، أي هيمنة ذلك الجانب الذي يدرس تأثير النجوم على مصائر البشر على ذلك العلم الذي يهتم بتركيب الكون والعلاقات المتبادلة بين الكواكب، وخلص إلى تأكيد التلازم بين صناعة التنجيم والرياضيات، ليقول في ذلك: “وأكثرُ مَن نُشاهد من فَلَكيي زماننا ومنجمي عصرنا مقتصرون على معرفة الأحكام، تاركون النظر في علم الهيئة”..
عرفت العرب التنجيم بكافة أشكالها، من فراسة، وقيافة، وكهانة، وتنجيم، وكشف للطالع، وعرافة، وغيرها. فقد كانت أشبه بالدين الموازي الذي يتضافر والسحر للتحكم في الآتي، والسعي إلى ترويضه”
أما ابن خلدون فقد شكك في هذه الصناعة تشكيكًا، وجعل منها “علمًا” يقوم على الظن: “فالقوى النجومية إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن.
ثم إنه يشترط مع العلم بقوى النجوم وتأثيراتها مزيد حدس وتخمين وحينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن. والحدس والتخمين قوى للناظر في فكره، وليس من علل ولا من أصول الصناعة”. فإذا صحت بعض أحكامها على سبيل التكرار، فإن هذا لا يجعل منها علمًا مقبولًا.
- التنجيم سيكولوجيا من نوع خاص؟
عيد الربيع في حديقة وانغ تشينغ في لويانغ بمقاطعة هنان، احتفالًا بعام النمر في السنة الصينية الجديدة (1/ 2/ 2022/Getty) |
في البلدان الغربية، صارت عيادات المنجمين تشبه كثيرًا عيادات المعالجين النفسيين. والزيارات أشبه بطقس بدائي يتعلق بمأمول الشخص، وبثغرات حياته، وبما يتوقعه من النجوم في حياته المستقبلية.
وهذا التعاظم المنظم أصبح يوازي ذلك التنجيم “الشعبي” الذي يتعاطى به كل من هبّ ودب، مكتسحًا الجرائد، والقنوات التلفزيونية المتخصصة، كما وسائط التواصل الاجتماعي.
وهذا الانتشار لا يوازيه إلا انتشار ظاهرة “الكوتش” الذي يشتغل لدى الزبائن على الراحة النفسية والتخليص من القلق الاجتماعي والوجودي.
شكك ابن خلدون في هذه الصناعة تشكيكًا، وجعل منها “علمًا” يقوم على الظن: “فالقوى النجومية إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن.
وفي العالم العربي، تتمازج هذه الظاهرة، اجتماعيًا وأنثروبولوجيًا، بعودة المقدس بجميع مظاهره، الدينية والسحرية والتنجيمية والشعائرية المتعلقة بزيارة الأضرحة، والزوايا والصلحاء… لقد أضحى التنجيم هنا أيضًا ظاهرة منظمة، لها “فقهاؤها” ومواقعها وروادها.
وهي إن لم تطرح نفسها بعد باعتبارها “ظاهرة معرفية“، كما هي الحال الآن في الغرب، فإنها تستشري استجابة لشروخ الكائن الإنساني وهشاشته الوجودية وطموحاته التي تجاوز بكثير ضحالة واقعه.
إنها ظاهرة أضحت كونية اليوم بفضل أنماط التواصل، وهذا التوحيد والتنميط الذي صار يتنامى بفضل العولمة وانمحاء الاختلافات الثقافية.
لكن السؤال الذي بات يطرح اليوم بين المهتمين بالتنجيم، بالنظر إلى قربه من العلوم الإنسانية الأخرى، خاصة علم النفس، يمكن صياغته كما يلي: أليس حقيقًا بنا اعتباره علمًا من العلوم الإنسانية قائمًا بذاته؟
يسعى المؤلفون المدافعون عن هذه الأطروحة إلى تبريرها بكون العلوم الإنسانية تراوح، مثلها مثل التنجيم، بين الذاتية والموضوعية، وبأن الجانب الأسطوري الذي يتسم به التنجيم، وعلاقته بكبرى الحكايات المؤسسة، كما بالمتخيل والمقدس، يقربه من الأنثروبولوجيا الثقافية لدى مرسيا إلياد، وجلبير دوران.
هل يحق لهذا المسعى المتصل بالمعارف الأولى في فجر البشرية أن يبني، إذن، نسقيته “العلمية”، ويتحوّل إلى علم؟ كيف له أن يتخلص من الشوائب التي يحيطه بها المنجمون الهواة، وبائعو أحلام المستقبل؟ هل يمكن لـ”زودياك الأساس“، ولدائرة الأبراج الفلكية، أن تتحول إلى منبع للمعرفة الجديدة؟
أم أن هذا الاستيهام العلمي والمعرفي يدخل في صناعة الفكر، كما تبيحه ما بعد الحداثة، باعتبارها فترة عودة المنسي، وتفكيك العقلانية؟ وهل ستساهم هذه الطبيعة العلمية للتنجيم في محاربة الشعوذة التي تحيط به في الممارسات المستشرية بشكل عنكبوتي في الحياة الاجتماعية المعاصرة؟
إنها أسئلة لن يتغاضى عنها مفكر بارز من قبيل إدغار موران، الذي يميز بين التنجيم الجماهيري المتنامي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وبين ما يسميه “تنجيم النخب”، و”التنجيم العالم”. فهو من بين المفكرين القلائل الذين يتجاوزون سؤال علمية الأسترولوجيا، ليطرحها موضوعًا للفكر والتفكير.
من ثم، إذا كان ثمة من عائق يحول دون “علمية” التنجيم، فسيتمثل بالضبط في علاقته بالمعتقد والتطير، ومن ثمة بضرب من الإيمان الجديد الذي يتجاوز باراديغمات العلوم لحد اليوم.
أو لنقل بالأحرى إن العلمية المفترضة للتنجيم يمكننا تصورها منعطفًا ممكنًا لعصر جديد قد تتحول فيه المعتقدات وأنواع الإيمان بشتى أشكالها إلى علم، ضدًا على عقلانية العلوم ونسبيتها كما عرفناها لحدّ اليوم.