اِنفتحت التداوليات على علوم ومعارف جديدة مثل علم النفس و علم الاِجتماع و الذكاء الاِصطناعي،فانصب اهتمامها على دراسة العلاقات الرابطة بين اللغة و مستعمليها معتمدة في ذلك على آليات النظام المعرفي المختص في معالجة المعلومة في الذهن البشري على مستوى التأويل والتجميع و الإنتاج، و تعد نظرية الملاءَمة مع سبربر و ولسون أهم ما ميز هذه المرحلة.
- نظرية الملاءمة: Theorie de la pertinance
قَدَّمَ علم النفس المعرفي نظريةً معرفيةً تُعَد ثورة في دراسة بنية الذهن البشري،تُعْرَفُ بنموذج معالجة المعلومات:Information Processing Model.يؤكد هذا النموذج على أن التواصل البشري ليس مجرد استجابة لمثير كما هو الحال في النظرية السلوكية،بل “هو تتويج لسلسلة من العمليات الذهنية المفضية إلى إدراك معنى الدليل و تأويل معناه.
و حال الذهن في ذلك كحال الآلة.فالحاسوب أو الهاتف مثلا يلتقطان مدخلات Inputs(إشارات ،أوامر…)تعالج على مستوى مركزي (ذاكرة)بناء على معلومات مخزنة سلفا،لتترتب عن ذلك مخرجات Outputs معينة.و من تَمَّ فإن الشبه كبير بين طريقة اشتغال الدماغ و الآلة،و ليست هذه الأخيرة سوى محاكاةٍ لما يقوم به الذهن البشري”“1”
نتيجة لتطور الأبحاث و الدراسات في مجال الذكاء الصناعي،انبثق في مجالات عدة مثل اللسانيات و علم النفس المعرفي مفهومان مهمان في مقاربة الظواهر اللغوية هما:مفهوم القالبية و مفهوم الحوسبة،و يعود الفضل في صقل مفهوم القالبية إلى جيري فودور ( ( Jerry fodor الذي دافع عن نظريةٍ تمثيليةٍ للذهن تَعْتَبِرُ أن الحالات الذهنية مرتبطة بعلاقات حوسبية،كما أن الذهن يعمل بشكل تراتبي لمعالجة المعلومات تتدخل فيه ملكات متعددة لا مجال لتحديدها في منطقة ما من الذهن البشري.و لقد فصل فودور القول في مفهوم القالبية في كتابه:”قالبية الذهن”« Modularity of Mind » و الذي رسم له أهدافا يروم تحقيقها و المتمثلة في:
- اِستبدال الاِفتراض العام حول وجود ملكات نفسية بافتراض خاص سماه الأطروحة القالبية.
- تعداد بعض السمات المميزة لقالبية النسق المعرفي.
- بحث إمكانية بناء فرضيات معقولة حول قالبية السيرورات الذهبية.
- تمييز قضايا القالبية عن أطروحة الحدود الاِبستيمي،و هي أطروحة ذات قيود صارمة على طبيعة المشاكل التي باستطاعة الإنسان حلها و على طبيعة الأشياء التي يمكن إدراكها.“2”
تعد نظرية الملاءمة“3” لولسن و سبربر(1986 أو 1989) الأكثر تمثيلية لهذا الاِتجاه،و تتمركز حول مفهوم المردودية أو الإنتاجية،ذلك أن الذهن البشري وفق تصور ولسن و سبربر يسعى إلى تحقيق الملاءَمة بين مقاصد المتكلم و النتائج السياقية التي يحققها المخاطب بعد سلسلة من الجهود التأويلية.فكلما كانت جهوده التأويلية أقل (الاِنتباه و التخزين و التحليل)كانت النتائج المحصل عليها أوفر،و آنذاك يمكن القول إن التواصل كان ملائما،أما إذا زادت الجهود و قلت النتائج فإن التواصل غير ملائم.
إن نظرية الملاءمة نظرية تداولية معرفية و هي نظرية تنتمي للعلوم المعرفية الإدراكية،جمعت بين نزعتين متنافرتين،إذ تقوم بتفسير الملفوظات و ظواهرها البنيوية في الطبقات المقامية المختلفة،و في الوقت نفسه هي نظرية إدراكية،استطاعت الدمجَ بين مشروعين معرفيين،انبثق المشروع الأول من حقل فلسفة اللغة و خاصة النظرية الحوارية لبول غرايس (1975)grice و الثاني من حقل علم النفس المعرفي و على الخصوص النظرية القالبية لفودورmodularity(fodor-1983).
لقد استفادت نظرية الملاءمة من النظرية القالبية على مستوى رصد وقائع الحياة الذهنية و تفسير طرق جريان المعالجة الإخبارية.إذ خصص كل أجزاء الكتاب لمناقشة و دراسة هذه القضايا.يتضح عبر فصول الكتاب أن القالبية مفهوم ينبني على أنساق مختلفة:اللواقط و أنساق الدخل والأنساق المركزية….“4 “
1.مرحلة اللواقط:transducersكما يسميها فودور و تتحدد وظيفتها في ترجمة الإدراكات المباشرة،مهما كان مصدرها ثم نقلها إلى الدماغ لمعالجتها.
2.مرحلة الأنظمة الدخل:input أو الأنظمة البعيدة عن المركز peripheriques:وظيفتها معالجة المعطيات المستمدة من “اللواقط” سواء كانت معطيات بصرية أو لغوية أو سمعية…قصد تأويل ملفوظ معين.لكن هذا التأويل يبقى غير مكتمل،لأن التعامل مع المعطى اللغوي في هذه المرحلة لا يتعدى المستوى الصوتي و التركيبي و الدلالي.
تتألف أنساق الدخل من كل ما يقع عليه الإدراك البشري من أصوات و أشياء و حركات…من أهم خصائصها:
- خصيصة المجالية:تستوجب وجود قيود على طبقات التمثيلات مثل طبقة التمثيلات الصوتية والسمعية و اللغوية…هدف هذه القيود توجيه المعالجة الذهنية وِجهةً دون أخرى.
- خصيصة العزل:يُقصَد بها السمات المميزة للمعلومة.
- خصيصة الإلزامية:إن المخاطب ليس حرا في الاِمتناع عن معالجة المعلومات الواردة إليه،فالعارف باللغة العربية مثلا و لو جزئيا،يُعْمِلُ ذهنه في معالجة ما يتناهى على مسامعه بشكل تلقائي،أما إذا كانت أصوات للغة لا يفهمها فسوف تبقى مجرد أصوات لن يُعِيرَها أدنى اهتمامٍ.
- خصيصة السرعة:تنماز عمليات الدخل بسرعتها الفائقة التي تصل إلى مئات ملايين أجزاء الثانية.
- خصيصة البساطة/السطحية:المعلومات و المعطيات التي تحملها المدخلات بسيطة و مفيدة،و إلا فالنسق المركزي المسؤول لن يعالجها.
- مرحلة الأنظمة أو الأنساق المركزية central systems: يكتمل التأويل مع هذه الأنساق بمقتضى عملية دمج الإخبار الناتج عن اللواقط و الأنظمة الدخل عبر الإخبار المخزون في الذاكرة التصورية لإنتاج استدلالات غير برهانية،و آنذاك تترسخ الفرضيات و تظفر الأقوال بتأويل تام.
لقد استفاد سبربر و ولسن من نظرية المحادثة (الحوارية) لبول غرايس،مفادها أن التواصل اللغوي محكوم بمبدإ عام هو مبدأ التعاون و بمسلمات الحوارية.إن نظرية الملاءمة أعادت النظر في نظرية غرايس و اختزلت محتوياتها و اقتصرت على مبدإ الملاءمة باعتباره أساسا مركزيا يختزل جميع المسلمات المذكورة،كما يعتبره تعميما للتواصل المناسب و الاِستدلالي.فهو إذن:
- مناسب على اعتبار أن المتكلم يوظف“المثير” الأكثر ملاءمة و مناسبة لإيصال افتراضاته.
- اِستدلالي على اعتبار أن المخاطب اعتمادا على المؤشرات المقدَّمة من طرف المتكلم يَسْتَدِلُّ على قصده الإخباري.“5 “
لنظرية الملاءمة تصور خاص للسياق،فهو ليس شيئا معطى بشكل مسبق قبل عملية الفهم،بل يبنى وفق توالي الأقوال،إذ يتألف من مجموعة من الاِفتراضات السياقية التي تستمد من ثلاثة مصادر:
- تأويل الأقوال السابقة:لابد من رد آخر الكلام على أوله،لأنه يُعَد جزءً من سياق تأويل الأقوال المستهدفة للمعالجة.
- المحيط الفيزيائي:إن الجهاز الإدراكي للمتكلم قد يتمثل خصائص الأمثلة بشكل مباشر أو غير مباشر.
- ذاكرة النظام المركزي:تختزن ذاكرة النظام المركزي معلومات و معطيات متنوعة يوظف بعضها في السياق التأويلي.للوصول إلى هذه المعلومات لابد من ما اسماه المؤلِّفان بسند”الصيغة المنطقية” و ذلك في مرحلة الدخل،إذ تختزن مجموعة من المفاهيم و لكل مفهوم عنوان تَصَوُّرِي في الذاكرة المركزية و يُخَزِّنُ ثلاثة أصناف من المعلومات:
- المدخل المنطقي:يضم معلومات عن بعض العلامات المنطقية.
- المدخل المعجمي:يضم معلومات صواتية و تركيبية.
- المدخل الموسوعي:يختزن كل المعلومات التي نكونها حول موضوعات أو أحداث أو خصائص ذات علاقة بمفهوم معين.
إن مصدر الاِفتراضات السياقية هو هذه المداخل الثلاثة،و يتم انتقاء الاِفتراضات السياقية المناسبة عبر مبدإ الملاءمة الذي يتحدد وفق عنصرين هامين:
- الآثار المعرفية:contextual effects ذلك أن الترابط بين معلومتين الأولى قديمة و الثانية جديدة يتنج عنه مجموعة من الحوسبات الذهنية مثل:التعديل أو التحسين أو الإثبات أو الإقصاء لاِفتراضات مخزونة في ذاكرتنا التصورية.
- الجهد المعرفي:cognitif cost له دور في تقويم درجة ملاءمة الأقوال وفق المبدإ التالي:كلما قلَّ الجهد المعرفي المبذول في معالجة الملفوظ،ازدادت درجة ملاءمة هذا الملفوظ و كلما استدعى التعامل مع ملفوظ ما جهدا كبيرا كانت ملاءمته ضعيفة“6”
تقوم الأنساق المركزية بوظيفة معالجة ما تُقَدِّمُهُ لواقط أنساق الدخل،بناءً على ما يتضمنه الذهن من مخزون معرفي متنوع و متعدد،لتقوم بتحويلها إلى إدراكات و أفكار مجردة ذات بعد إرادي و طبيعة تمثيلية.خلافا لأنساق الدخل يؤكد فودور على أن الأنساق المركزية غير قالبية لأن عملية المعالجة تستدعي الاِستعانة بجميع المعلومات المتوافرة بغض النظر عن خصيصة المجالية أو العزل.“7 “
إن نظرية الملاءمة تؤلف بين البعدين التداولي و المعرفي“8”،يظهر البعد التداولي عبر التنصيص على أن المنطلق لتأويل الملفوظات ذو طابع لساني،أما البعد المعرفي فيظهر في كون الذهن لا يخزن المعلومات بشكل عشوائي،بل إن فهم الملفوظات و تأويلها عبارة عن سيرورة ذهنية،ينجزها المخاطَب لمعرفة مقاصد المتكلم و بناء تمثل للكون أو تعديله.إن عملية التأويل تستوجب نظامين مختلفين الأول ترميزي لغوي و الثاني استدلالي تداولي.“9 “
إن غاية كل عملية تواصلية وفق تصور سبربر و ولسن (D.Sperber و D.Wilson )تحقيق الملاءمة بين جهود المخاطَب و مقاصد المتكلم،لأن التواصل المناسب يروم مساعدة المخاطب على إدراك مقاصده الإخبارية،علما بأن الغاية التواصلية لا يحكمها مبدأ التعاون و القوانين الحوارية مثلما نجد في تصور غرايس،بل يحكمها مبدأ الملاءمة الذي صاغه الباحثان على الشكل التالي:
- كل نشاط تواصلي مناسب يكشف عن افتراض الملاءمة المثلى الخاصة به.
يتبين من هذا المبدإ أن نظرية الملاءمة تقوم على التعالق القوي بين مقاصد المتكلم و النتائج السياقية التي يحققها المخاطب،بعد بذله جملة من الجهود.تتمثل هذه الجهود في إضافة معلومات جديدة أو تعزيز معلومة أو حذف معلومات قديمة مخزنة مسبقا تختلف عن المعلومة الجديدة،
فهناك تلازم بين الجهود و النتائج السياقية،مما يؤكد أن هذه نظرية تقوم على قاعدة بسيطة أساسها الإنتاجية أو المردودية،إذ لا يمكن تصور نشاط تواصلي فعال و ملائم إذا كانت النتائج التي يحصدها المخاطب أقل مما يبذل من الجهود،كما أن مبدأ الملاءمة ليس معياريا يستوجب على القائل أن يتلفظ بأقوال مناسبة فقط و لكنه مبدأ يوظفه المخاطب بغير وعي لحظة التأويل و كل محتوى قضوي غير ملائم لا يُعِيرُهُ المخاطب أدنى اهتمام.
مفاد القول:
إن تقاطع التداولية مع حقول و مجالات عدة طبع جهازها المفاهيمي بالثراء و التشعب،فغَدَت بذلك منظومةَ علمٍ معترَفا بها،إنها آلية لتحليل اللغة باعتبارها نظاما تخاطبيا و تواصليا و اجتماعيا.
“1”:ختام جواد:التداولية أصولها و اتجاهاتها: ص:118 ،الطبعة الأولى،2016،كنوز المعرفة للنشر و التوزيع،عمان،الأردن.
“2”:Fodor ,Jerry A « Modularity of Mind :An Essay on Faculty Psychology »Cambridge,Mass,MIT Press,1983,P:1.
“3”: أسست قواعد غرايس المحادثاتية لنظرية الملاءمة التي بلور أبعادها النظرية الفيلسوف الفرنسي دان سبربر و البريطاني دياردر ولسن،فركزا في نظريتهما على مبدإ الملاءمة المؤسس على الاِستلزام الحواري و الاِستدلال،و اعتُبِرَتْ هذه النظرية تحولا مهما في اللسانيات و التواصل بشكل عام.من أهم شروط هذه النظرية أن يخضع الخطاب للعوامل السياقية التي أُنْتِجَ فيها.فكلما كانت درجة الخضوع كبيرة كان الملفوظ مناسبا،و كلما تطلب تأويل الملفوظ مجهودا كبيرا من قبل المتلفظ،كان أقل مناسبة من غيره.و قد اعتَبَر سبربر و وليس هذا المبدأ أمرا مهما في كل خطاب واضح.
“4”:ختام جواد:التداولية أصولها و اتجاهاتها:جواد ختام: ص:73،الطبعة الأولى،2016،كنوز المعرفة للنشر و التوزيع،عمان،الأردن.
“5”:صحراوي مسعود:التداولية عند العلماء العرب:دراسة تداولية لظاهرة”الأفعال الكلامية” في التراث اللساني العربي:ص:38،39،الطبعة الأولى،2005،دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت،لبنان.
“6”:صحراوي مسعود:التداولية عند العلماء العرب:دراسة تداولية لظاهرة”الأفعال الكلامية” في التراث اللساني العربي:ص:40،الطبعة الأولى،2005،دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت،لبنان.
“7”:يشبه تصور فودور للذهن الحاسوبَ العام(أنساق مركزية) المتصل بجملة من الحواسيب المختصة(أنساق الدخل) و الموزعة وفق المجلات(القالب اللغوي،القالب الحركي، القالب السمعي…)
“8”:تقوم التداوليات المعرفية على شروط الصدق،فلا تقتصر المظاهر الصدقية للأقوال على الدلالة و تتولى التداولية في جميع مهامها إسناد قيمة الصدق لتلك الأقوال.
“9” ختام جواد: التداولية أصولها و اتجاهاتها: ص:121 ،122 ،123، الطبعة الأولى، 2016، كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن.