الغموض وراء فتنة “خلق القرآن”
عد فهمي جدعان «المحنة» حدثًا محيرًا في التاريخ الإسلامي، وبخاصة أنها بدأت في العهد، الذي أعتبر، وكان ذو سمعة انفتاحية للعقل، وطغيان العقلانية، عهد الخليفة المأمون.
وإن كان من المعتقد على نطاق واسع إلى ان المأمون بادر بإبراز هذا الأمر تحت تأثير شديد الارتباط بالمعتزلة. إن دراسة متأنية للأحداث التاريخية، تساعد في تكشف أكثر الدوافع تعقيدا وراء الحدث.
لخص بعض الباحثين دوافع المأمون للمحنة إلى أن المحنة كانت في الغالب محاولة من المأمون لتأمين كامل السيطرة من جانب الخلافة فوق المؤسسة الدينية كما فعلت بسيطرتها على السلطة العلمانية، وتلك هي النقاط الرئيسية لتلافى تأكيد أثر المعتزلة:
إن المذهب القائل بخلق القرآن ليس على سبيل الحصر معتزلياً. أيضا فالجهمية اعتقدوا به إضافة إلى أنهم بالتالي لجأوا إلى الدفاع عن حقوق المعتزلة الحرة، وكان ذلك على طرفي نقيض.
شملت محكمة المأمون بعضا من المعتزلة ولكن أيضا بعضا من المناوئين لهم والمفكرين والبحاث مثل بشر المريسي، وهو جهمي. ولم يكن أحدٌ من المعتزلة يشارك بصورة مباشرة في الاستجواب عدا أحمد بن أبي دؤاد الذي حسب مصادر المعتزلة لم يظهر كونه مساهما في النظام المذهبي لمدرسة المعتزلة.
شملت محكمة المأمون علماء عُدّوا من «أهل السنة والجماعة» وفيما بعد فإن عالما من أهل السنة والجماعة أمثال يحيى بن أكثم الذي حث المأمون بالعدول عن إجازة زواج المتعة وعن لعن الخليفة معاوية، مؤسس الدولة الأموية، على المنابر سوا الأعمال التي ترتبط بقوة بالشيعة.
ويروى أن يحيى بن أكثم قد أقنع المأمون عن طريق التأكيد على أنه بوصفه خليفة، ينبغي أن يكون فوق المذاهب والمدارس.
أظهر المأمون نفسه، أنه في حال وضعت الدلائل التاريخية في الاعتبار، ليكون انتقائياً في معتقداته. فإن بعض المعتزلة قد اتهموه بالاعتقاد في القدر المحتم غير المشروط. وهي حجة من التي يقول بها الجهمية.
مثل أعضاء مختلف المدارس، فإن علماء المعتزلة قد انقسموا إلى فريقين: فريق مساهم في النظام السياسي (للمساعدة في الإصلاح أو الحد من الشرور، ناهيك عن المصالح الشخصية)، وفريق قائم على رفض الظلم ورفض اضفاء الشرعية على النظام السياسي الفاسد.
ويدعو فريق فرعي ضمن المجموعة الأخيرة «المعتزلة الصوفية» الذين «رفضوا ليس فقط الدولة كحكومة مركزية، ولكن أيضا رفضوا العالم بما تعنيه، التجارة أو أي نوع من النشاط المدر للمال والربح.»
في رسائله إلى والي بغداد من أجل الشروع في أمر المحنة، عمد المأمون مقدما نفسه بوصفه ممثل الله على الأرض، ووريث نبي الإسلام، والقيم والحارس للمعتقد الإسلامي.
هذا لا يعني أن المأمون قد أعتبر نفسه حائزا على السلطة التشريعية التي تحل محل المصادر الروحية الإسلامية. وذكر أنه لا يوجد أي سجل أو تقرير يشير إلى أن المأمون وضع نفسه فوق القرآن، وجميع الآيات القرآنية التي استشهد بها في أمر المحنة كان قد فسرها بمنطق غريب مع التزامه بالنص.
بالإضافة إلى أنه، ليس بالضرورة ان يكون المأمون قد أراد أمرا سيكون وحده الذي يحدد العقيدة الإسلامية الصحيحة. ويلاحظ بأن المأمون كان يفكر في طبقة النخبة من العلماء والمفكرين، وبرئاسته، لتحديد المعتقدات الإسلامية.
النقاط المذكورة أعلاه مجتمعة تثبت أن المعتزلة لم يكونوا هم المهيمنين خلال المحنة، كما هي عقيدة الدولة الرسمية. لقد كانت المحنة لدى المأمون تعبر عن محاولتهِ لإثبات سيطرته على السلطة الدينية والقانونية على المدى الفقهي والثقافي، وخاصة التحدي لدى الأطراف التقليدية.
- المراتب الدينية والسياسية في الإسلام التقليدي
ومن المهم أن نلاحظ أنه في منهج الإسلام، كان الأفراد العاديين وليس رجال الخلافة الذي اضطلع بمهمة تطوير مختلف العلوم الإسلامية بما في ذلك القانون.
وبالتالي فإن القانون، على عكس ما يحدث في الدول القومية الحديثة، ليس حكراً على الدولة. وفي الواقع، فإن الفقهاء وضعوا في المعارضة الواعية لهذه الدولة (على سبيل المثال، وجاكسون، 2002).
في وقت مبكر كان هناك النظام الديني في الإسلام الذي كان متميزاً عن النظام السياسي. وهو شبه حكم ذاتي للعلماء وأسفر ذلك عن ظاهرة مثيرة للاهتمام لظهور ظواهر مختلفة، وبشأن بعض القضايا، على طرفي نقيض مدارس الفقه — وكلها تعدّ صحيحة شرعاً وأصيلة.
ففي المحنة، في هذا السياق، يعبر عن الخليفة الإحباط مع ثقافة قوية وذات نفوذ معنوي. واستمر حوالى خمس عشرة سنة، وبعد ذلك أصبحت مجالات السلطة في كل من الأوامر الدينية والسياسية أكثر معرفة تعريفا واضحا.
وهذا لا يعني أن المواجهة كانت السمة المميزة للعلاقة بين كل من الأوامر والقوانين. لأن العلاقة كانت أكثر دقة والمشاركة بين كلا الطرفين وليس المواجهة فحسب، بل أيضا التعاون بصفة عامة، في النظام الديني الذي وقف حاجزا بين النظام السياسي والناس العاديين.