- تـقـــديــم :
عند النظر في ما كتبه أغلب علماء المسلمين في مجال التراث الإسلامي، وما ارتبط بالنص القرآني وعلومه خاصة، يتبين أنه بحاجة اليوم إلى إعادة قراءة وتمحيص، وهذا من الأوامر الشرعية الواضحة التي تدعو إلى ضرورة تقديم النظر في كل ما وردت به الشريعة، وعدم الركون إلى الماضي والاكتفاء به، وتوظيف المنهج القرآني القائم على التعليل والاستدلال، وهذا من الخصائص الأساسية التي تفرد بها عن غيره من الكتب السابقة.
ومن المؤكد أن الخطاب القرآني قد حذر في غير ما آية، عند تناوله لقضايا مختلفة من السقوط في التقليد الأعمى، ودعا بمختلف الصيغ إلى إعمال العقل وتقديم البرهان، وهذا كان له أثر كبير على مفكري الإسلام وعلمائه في القرون الأولى، مما جعلهم يصبحوا روادا في مختلف العلوم التي تدور حول النص القرآني،
مما يفسر ازدهار الحضارة الإسلامية حينها، ولذا فليس ممكنا أن نتصور عالما مسلما ينتمي إلى حضارة الإسلام، أو باحثا في هذا المجال إلا وهو يبدي عناية برصد كل ما تعلق بتاريخ الأفكار والفلسفات عموما، كما نجد من يدعو إلى تجديد النظر في مجالات تفسير النص القرآني ومواكبة قضايا المجتمع وتغيراته، وما تفرزه من أسئلة وإشكالات تحتاج إلى إجابات تصدر عن مشكاة الوحي.
ومن هذا المنطلق، فإنني أعتقد أن علماء الإسلام المعاصرين قد صاروا على وعي بما يجري في الساحة العربية منذ أواخر القرن العشرين، خاصة الدور الذي تقوم به المفاهيم الحضارية والنظريات الفلسفية، وما تحتله مشكلة القيم الأخلاقية والدينية من أهمية، وما عادت تؤديه هذه القيم من أدوار إيجابية أو سلبية، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي،
كل ذلك يجعل علماء الإسلام أفرادا أو مؤسسات أمام تحمل مسؤوليتهم في المتابعة العلمية لكل ما يروج له في الساحة الفكرية من نظريات ومفاهيم وتأويلات ومواقف فكرية تمس من قريب أو بعيد التراث الإسلامي.
وفي هذا الإطار العام، صار اهتمامي بهذا المجال، أي ضرورة العناية بالنقد والتقويم لهذا الصخب الذي يروج له الحداثيون في الساحة العربية، والعمل على تمييز الجانب العلمي من الإيديولوجي فيما تلقيه الإنتاجات الفكرية من مفاهيم وتيارات ومناهج تفكير،
من أجل ذلك، كان لا بد من إعادة النظر في هذا النوع من الفكر الذي أرخى ظلاله على المجتمع العربي والإسلامي، إذ في الوقت الذي يتطلع فيه المسلمون إلى أن يتحرر الفكر الغربي المعاصر من أحكامه الإسقاطية السابقة الموروثة عن القرون الوسطى بشأن الإسلام، تأتي أعمال هؤلاء الحداثيين لترسخ تلك الأحكام الاستشراقية عن الإسلام.
وهذه هي الوظيفة الأولى التي تولى الحداثي العربي القيام بها، بعد أن احتضنته مراكز البحوث الغربية، ولعل هذا الهدف الإيديولوجي الصريح أو المضمر في كتابات أركون- مثلا- وغيره من الحداثيين هو الذي جعل مشاريعهم النقدية تظل محدودة من الناحية العلمية، ولا تخرج عن الدعوى المتكررة لتفكيك كل الموروث الثقافي وخلخلته وهدمه، وهي دعاوى لا تعتبر في ذاتها دليلا على البناء وامتلاك الحقيقة البديلة،
لهذا نظن أن أعمال هؤلاء لم تستطع التخلص من اجترار كل المقولات الاستشراقية، بل إنهم أضافوا إليها في بعض الأحيان أسلوبا استفزازيا مغلفا بالطعن والتجريح للمخالفين لهم، وهذا يكشف عن العجز في تقديم البديل، مع الركون إلى التبشير بالعلوم الإنسانية، بعيدا عن ضوابط القراءة السليمة، مع الغفلة عن الخصوصيات الفكرية والتاريخية،
وهذا ما يجعل أعمال هؤلاء مثالا للفكر الإسقاطي البعيد عن الضوابط المنهجية المرتبطة بالعلوم الإنسانية عامة، خاصة إذا أدركنا حضور النزعة المعيارية لديهم والتي تصدر عن الرؤية العلمانية.
وما نقدمه في هذه الرسالة يضعنا أمام هذه المشكلات التي برزت منذ أواخر القرن العشرين إلى الصدارة، وأصبحت تضاهي القضايا السياسية والاقتصادية،إنها المشكلات الحضارية التي يشكل الدين والهوية والقيم أهم تجلياتها، حتى صارت العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبداية هذه السنوات من الألفية الثالثة تعبر عن صراع القيم والمفاهيم الأخلاقية والسياسية،
ما يتطلب ضرورة التسلح برؤية منهجية نقدية قادرة على التمييز بين العلمي والإيديولوجي، فيما تعج به الساحة الثقافية والإعلامية من خطابات ومشاريع فكرية. غير أني أود أن أشير إلى ضرورة الالتزام بالأسلوب الاستدلالي والرؤية المنهجية الواضحة التي ستكون معيار المراجعة لجملة من المفاهيم والتصورات والأحكام التي لها ارتباط بصلب الموضوع، موظفا أسلوب الحوار المنهجي مع المخالف باعتباره من القواعد التي أرسى دعائمها القرآن المجيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاطلاع على الدراسة كاملة؛ يرجى زيارة الرابط التالي: