القرآن الكريم .. من تفسير النص إلى تحليل الخطاب
بدت الدراسات التفسيرية والتحليلية للقرآن وخطابه في يوم من الأيام كما لو أنها نضجت واحترقت وأشبعت بحثا، فالمدونة التفسيرية للقرآن الكريم تشكل أكبر إنتاج علمي في تاريخ الإسلام، وعلى الرغم من التنويعات المنهجية المحدودة (لغوية وتراثية) فإن الباحثين في التفسير يجدون أنفسهم أمام هذا الكم الهائل من كتب التفسير عاجزين عن تقديم الجديد.
وكانعكاس لهذا التصور فإن الدراسات القرآنية في المعاهد والكليات الشرعية تحتل مراتب دنيا من الاهتمام، فيما تأخذ الدراسات الفقهية والحديثية جل الاهتمام، وذلك على الرغم من أن الدراسات القرآنية في العقود الستة الأخيرة أثبتت خِصبَ البحث الدلالي في القرآن إلى درجة يبدو فيها القرآن كما لو أنه حقل بكر تماما.
ذلك يجعلنا نرى أن المشكلة ليست قائمة في الاهتمام بالدراسات القرآنية عموما فحسب، بل إن المشكلة أساسا قائمة أيضا في مسألة المنهج؛ إذ لم يحظ المنهج في التفسير (بالمعنى العلمي لمفهوم المنهج) بالدراسة الكافية في حقل الدارسات القرآنية، صحيح أنه كتبت مؤلفات كثيرة حول مناهج المفسرين، غير أنها لا تخرج في المحصلة عن فكرة المنهجين التقليديين (التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي)،
ولم يأخذ الخلاف حول البحث مفهوم “المنهج” ومرجعياته وتقنياته في أصول دراسة القرآن المساحة العلمية اللازمة، الأمر الذي جعل المعرفة الإسلامية اليوم تفتقد إلى علم مستقر لأصول التفسير على غرار علم أصول الفقه ومناهجه.
- رخاوة مفهومية
وعلى الرغم من أن مفهوم الخطاب يعاني – مثل كثير من المصطلحات المتداولة في منظومة الفكر الإسلامي الحديث – من رخاوة مفهومية، بحيث إنه تسرب إلى هذه المنظومة من خلال الاحتكاك بالفكر الحداثي، وتم تداوله دون ضبط عميق له،
بل إن تدواله تجاوز العادة في الفكر الإسلامي الحديث، ونعني بها “التأصيل” بأثر رجعي بالتراث الإسلامي، على الرغم من أننا نرى في التأصيل ممارسة فكرية خطيرة وبالغة الضرر على الفكر الإسلامي نفسه، إلا أن هذه العادة لم تمارس فيما يخص هذا المصطلح الذي أصبح مفتاحيا في الكتابات الإسلامية، وإنه لمن الضروري أن يتم دراسة هذا المصطلح وفهمه من مصادره الأصلية الغربية.
والواقع أن مصطلح الخطاب، كما يتم تداوله اليوم بوصفه تصورات حول قضية ما مستفادة من النص أو مجموعة نصوص يرجع أساسا إلى الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو”، الذي تأثرت به الدراسات اللسانية والاجتماعية والفلسفية في الربع الأخير من القرن العشرين على نحو عميق.
وعلى الرغم من أن مفهوم الخطاب مرتبط بشكل وثيق بالنصوص من خلال ارتباطه بمعاينها، إلا أن الخطاب من جهة أولى ليس هو المعنى الحرفي والمباشر للنص، وليس النص من مشمولاته، إنما هو قائم في المعنى الذي يستقى من المعنى المباشر والحرفي للنص، فمستوى المعنى التفسيري الحرفي والمباشر جزء من مفهوم النص ذاته، أما مستوى الخطاب – حيث النص هو وسيلة – فإن فهم مغزى النص وتأويله ومنطوقه ومسكوته (مفهومه) هو مشمولات مفهوم الخطاب.
ومن جهة ثانية فإن الخطاب دوما يمثل فعلا اجتماعيا بحيث لا يمكن فهمه بمعزل عن تأثيره وتداخله في العلاقات الاجتماعية في الفاعلين، ومن جهة ثالثة فإن ارتباطه بالنسق الاجتماعي يحيلنا إلى موضوع السلطة، وموضوع رؤية العالم (World View / Weltanschauung) (بمعناها الفردي وليس الأنثربولوجي الاجتماعي).
إن الخطاب بهذا المعنى يمكن أن يكون في عدة نصوص على أن يكون الربط بينها أنها جميعا صادرة عن جهة واحدة (حقيقية أو اعتبارية)، وموجهة لجهة واحدة محددة (حقيقية أو اعتبارية)، وعندما نقول “جهة” فإننا نعني أن المخاطِب أو المخاطَب يمكن أن يكون شخصا، ويمكن أن يكون جهة اعتبارية (مثل المؤسسة أو غير ذلك).
إن هذا التعريف للخطاب يقتضي أن النص بقدر ما هو مفارق لمفهوم الخطاب هو في الوقت نفسه جزء منه، كما يقتضي أنه لا بد أن يكون هناك سياق ما للخطاب ليمارس فيه فعله ويؤسس سلطته؛ إذ لا يمكن أن يكون هناك خطاب بدون سياق (أو مناسبة) عام أو خاص.
والسياق في الواقع نوعان، سياق لورود الخطاب، وسياق لتلقيه، ولكل منهما دوره في التأثير على فهم الخطاب، وإن كلا من طرفي الخطاب (المخاطِب والمخاطَب) وسياقي الخطاب (الورود والتلقي) ووسيلة الخطاب (النص) تؤلف ما يسمى “عناصر الخطاب” الستة، وهي مجموعة العناصر التي تعتبر من لوازم مفهوم الخطاب، وهي بالنسبة للقرآن الكريم: المخاطِب (الله U)، والمخاطَب (المخلوقات العاقلة ذات الإرادة المستقلة)، والخطاب (موضوع الخطاب ومحتوى الخطاب)، ووسيلة الخطاب (القرآن)، وسياق نزول الخطاب (عصر الرسولr)، وسياق تلقي الخطاب (عصر متلقي الخطاب).
وإذا كانت مقاربات المقارنة النصية لنصوص القرآن في المنهج الفيلولوجي الاستشراقي قد أثمرت في خمسينيات القرن المنصرم منهج التفسير الموضوعي، فإن دراسات المنهج البياني لمدرسة الأمناء في أربعينيات القرن المنصرم المتأثرة بالتأوُّليَّة الألمانية (Hermeneutics) بجوار دراسات توشيهيكو إيزوتسو (Toshihiko Izutsu) المعتمدة على مزيج من البحث اللساني (Linguistic) والأناسي (الأنثربولوجي Anthropological)قد فتح أفقا جديدا لدراسات القرآن، وقد عكست تلك الدراسات خطورة وأهمية المناهج الحديثة في تطوير الدراسات القرآنية.
- من التفسير إلى التحليل
يمكن القول إن القرن العشرين شهد انتقالا في دراسة القرآن من مستوى التفسير النصي إلى مستوى تحليل الخطاب، (وفي مقدمة مؤشرات هذا الانتقال في عالمنا الإسلامي انتشار ما يُعرف بالتفسير الموضوعي)، وعلى الرغم من هذا الانتقال سهل لنا تقديم الخطاب القرآني في مواجهة قضايا العصر وتحدياته،
وفتح أفقا جديدا للقرآن، إلا أن إهمال تطوير البحث المنهجي في الدراسات القرآنية وإغراء المعارك الأيديولوجية فسح الفرصة أمام من يريد تغيير عقائد المؤمنين بالتقدم نحو القرآن ومحاولة زعزعة إيمانهم من خلال زعم “فهم” جديد للقرآن اعتمادا على المناهج الحديثة.
غير أن الدراسات القرآنية الحديثة في تحليل الخطاب تتجه في الغرب نحو الدراسات الأنثروبولوجية أكثر من الدراسات اللسانية، بل تكاد لا تحظى الدراسات اللسانية للقرآن باهتمام يذكر، والمقلق في الأمر أن هذه الدراسات الأنثربولوجية للخطاب القرآني تزايدت بدواعي الظروف السياسية العالمية، وأعني تحديدا مناخ ما سمي بـ”الإرهاب” و”الأصولية الإسلامية”،
واتجهت في العموم لإثبات أن العنف ظاهرة أصيلة في بنية الخطاب القرآني، ومهما تدثرت بأوشحة العلم تبقى الدوافع السياسية الأيديولوجية ظاهرة للعيان دون كثير جهد، ولا نذهب بعيدا عندما نقول إن كثيرا من هذه الدراسات لا تختلف عن رؤية البرلماني الهولندي في فيلمه الوثائقي البائس “الفتنة” إلا بمزاعم الآلة العلمية وألبسة المعرفة الحيادية.
لا بد أن نشعر بالقلق ونحن نرى محاولات موازية تصدر بنفس الدوافع ومن جهات مشابهة للغاية التي تنفي عن القرآن كل ما يتعلق بالعنف والجهاد، وحقيقة الأمر أن هذا العمل متلبس بالعلم ليس إلا محاولة لمحاربة ما يوصف بأنه “العنف الإسلامي” وأفكار “الجهاد”، الأمر – كما أشرت من قبل – هو الجمع بين الشيء ونقيضه باسم المعرفة، والمعرفة والعلم في كلا الحالتين مظلومان.
ثمة محاولات قديمة تجمع البحث الأنثروبولوجي بالبحث اللساني، هذا أكيد، وهذه المحاولات تتسم عموما بالعلمية إلى حد كبير، غير أن هذه المحاولات العلمية ذاتها كان لها “الفضل” في إضفاء مسحة العلمية على البحوث الأنثربولوجية من حيث لم تقصد.
وفي مقدمة هذه البحوث دراسة توشيهيكو إيزوتسو “المفاهيم الدينية الأخلاقية في القرآن” (1958) و”الله والإنسان في القرآن: دراسة في دلاليات التصور القرآني للعالم” (1963)، وتعتبر دراسة دانيال ماديغان “صورة القرآن عن نفسه” (2000) شكلا من أشكال دمج المعرفة اللسانية بالأنثروبولوجيا، لكن دراسة ماديغان تبدو كما لو أنها تحايل على البحث اللساني من أجل الوصول إلى تصورات أيديولوجية مدعومة بالأنثربولوجيا التي تتضخم فيها المركزية الغربية على نحو بارز، بالإضافة إلى المقولات الاستشراقية الكلاسيكية.
الدراسات القرآنية الحديثة ستبقى مشغولة إلى أمد غير قليل بمسألة تاريخية القرآن والتحليل الكلي له، وكلا الموضوعين في الواقع هما تعبير عن مركز تحديات الإسلام في معركته مع الحداثة، فالعلمانية (بمنظورها الفلسفي) تقتضي أنسنة كل شيء وَوَضْعَنَتَهُ.
والتعامل مع العصر يحتاج إلى مفاهيم وتأويلات جديدة سيكون التفسير الكلي بابها، وجديد الجديد فيما يخص الدارسات الكلية الغربية والعربية الحداثية للقرآن أنها بدأت تقرأ القرآن قراءة متربصة بحثا عن “العفريت”؛ أعني الإرهاب (مثل دراسة كريستوف لوكسمبورج)، أو محاربة للتصورات الدينية المقاومة تحت مسمى الإرهاب (مثل الدراسة الإسرائيلية التربوية “قرآن نت: مشروع اجتماعي”).
وهذا مؤشر خطير على اتجاه لتفسير القرآن بالشيء ونقيضه لأغراض سياسية بحتة، وهو اتجاه يقتات على الدراسات العلمية للقرآن ويزرع بذور الانحياز فيها، وسيكون بمقدور دراسات الخطاب القرآني فيما إذا بدأت بالفعل في عالمنا الإسلامي من قبل المتخصصين في الدراسات الإسلامية أن تقوم بالتصدي لهذه الانحيازات الأيديولوجية وكشف التلاعبات السياسية بتأويلات القرآن الكريم تحت دثار العلم.
إن مهمة تطوير الدراسات القرآنية هي مسئولية علماء القرآن والباحثين المعاصرين في الجامعات والأكاديميات الإسلامية، وفي هذا الإطار فإن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا أدخلت في مفردات مناهجها مقرر “الخطاب القرآني” (Qur’anic Discourse)، ويعتبر هذا المقرر فريدا من نوعه؛ إذ لا يوجد شبيه له في الجامعات الأخرى، الغاية منه مواكبة التطورات الحاصلة في دراسة القرآن الكريم التي نقلت دراسة القرآن من النص إلى الخطاب وفتحت مجالات جديدة للبحث في الدراسات القرآنية.
نحن ما زلنا بحاجة لتعريف الخطاب القرآني، لكن هذا التعريف لا يمكن أن يتم بصورة علمية دون معرفة عميقة ودقيقة بموضوع الخطاب ومفهومه في الدراسات اللسانية والاجتماعية الحديثة ومناهج تحليله، وهذه عقبة سيتم تجاوزها بلا شك مع تزايد النـزوع الأكاديمي للدراسات العربية، وتراجع الرهاب من العلوم اللسانية والاجتماعية الغربية في حقل الدراسات الإسلامية الذي بدأنا نشهد ملامحه في السنوات الأخيرة، وإذا ما تم تجاوز هذه العقبة، فإننا مقبلون ولا شك على تطور نوعي في الدراسات القرآنية، عنوانها تحليل الخطاب والانتقال من التفسير التقليدي التحليلي إلى مستوى تحليل الخطاب.
إعداد : عبد الرحمن الحاج – باحث سوري.