إضاءات حول ثقافة علم الاجتماع
حسب مؤرخي العلوم (Historiens des sciences)، ولدت كل العلوم الإنسانية والاجتماعية، من رحم الفلسفة. فمن عصر الفلسفة إلى عصر العلم([1])، حيث كان ميلاد العلم الحديث أسبق من العلوم الاجتماعية والإنسانية، بمئات السنين. فيؤرخ بنشر كتاب كوبرنيك(Des révolutions des orbes célestes) سنة 1543، تاريخ ميلاد العلم الحديث ([2]).
ومن الجدير بالإشارة حسب رأي مؤرخي العلوم، يعتبر القرن التاسع عشر هو قرن العلم بامتياز، حيث أصبح العلم، مهنة العلماء. كما يعرف هذا القرن بعصر “طلاق” العلوم عن الفلسفة التي كانت الإطار الأكبر الجامع. وكان أو “الانفصاليين” حسب بعض المؤرخين، علم النفس، وتتابعت العلوم والتخصصات في الانفصال عن الفلسفة، لتشق مجموعة من العلوم الإنسانية والاجتماعية طريقها نحو تخصص في الوقائع والظواهر الإنسانية والاجتماعية.
فخلال هذه القرن(19م)، ولد علم الاجتماع الحديث حسب غاستون بوتول(1896-1980)([3]). لم تكن ولادة علم الاجتماع ولادة عادية، بل نجمت عن عملية قيصرية إن جاز تشبيه؛ إذ يؤكد علماء الاجتماع على مساهمة الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت، الذي كان هاجسه تأسيس سوسيولوجيا تحاكي العلوم الحقة، تيممنا بعلمتيها خلال القرن التاسع عشر، الذي قال عنه كونت بأنه عصر التخصص العلمي([4]).
تتضارب الآراء والتصورات حول مرحلة التأسيس الفعلية لعلم الاجتماع، إذ هناك من الآراء من يرى أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع بعقود عدة على أوغست كونت. حيث كانت له مسألة السبق في تناول موضوع علم الاجتماع بما قدم حول “العمران البشري”. وكما هو معلوم، عبد الرحمن بن خلدون من مواليد القرن14م(1332-1406)، وهو أحد أعلام الفكر الذي عرفها العالم، الذي ولد بتونس. وبلغة التراث كان ابن خلدون عالما موسوعيا، ويصنف([5]) بلغة التخصصات _حسب عبد الواحد وافي_ على كونه تميز بتقديم مجموعة من المسائل التي تخص التاريخ، والاجتماع، والسياسة…
من أبرز إسهاماته في الفكر مؤلفه الشهير المعنون تحت: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، الذي يلقب بتاريخ ابن خلدون، الذي تتقدمه “مقدمة ابن خلدون ” التي تعتبر موسوعة معرفية. ففي “المقدمة” وقف ابن خلدون عند مجموعة من المباحث التي تعد موضوعات أساسية في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ولعل أبرزها ما يتعلق بالعمران البشري الذي له صلة وثيقة بالمجتمع والسياسة والتاريخ.
ومن الجدير بالإشارة إلى ابداع ابن خلدون على مستوى المفاهيم حيث نجد أن ابن خلدون أطلق «كلمة “عمران” على الاجتماع الإنساني؛ و”علم العمران” على البحوث التي تدرس ظواهر هذا الاجتماع للكشف عن القوانين الخاضعة لها؛ و”العصبية” على القوة والمنعة الناشئتين من روابط القرابة بين أفراد العشيرة أو القبيلة»([6]). وفي هذا السياق يمكن الإحالة إلى مجموعة من الاقتباسات من نصوص ابن خلدون التي تتعلق بموضوع الاجتماع الإنساني والعمران البشري:
« أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه(…)» ([7]).
- « وكأن هذا العلم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي بيان ما بلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وشأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا. واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، عزيز الفائدة، أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص، وليس من علم الخطابة(…) ولا هو من علم السياسة المدينة(…) وإنه علم مستنبط النشأة» ([8])؛
وعلى ضوء ما كتب ابن خلدون في العمران البشري؛ تربطه جملة من الكتابات التحليلية بعلم الاجتماع، ولو في حدود القول، الذي يرى أن علم الاجتماع “ولد على يد ابن خلدون ” في القرن 14م إلا أن من كتب اسمه وأعطاه شهادة الميلاد هو أوغست كونت في القرن 19م([9]).
- تأسيس علم الاجتماع الحديث
يؤرخ إيمانويل فالرشتاين لعلم الاجتماع بأنه علم ظهر «كتخصص معرفي في آخر القرن التاسع عشر مع مجموعة من التخصصات المعرفية الأخرى التي نطلق عليها مصطلح العلوم الاجتماعية. لقد تبلور علم الاجتماع كتخصص معرفي في الفترة بين 1880 و1945 تقريبا»([10]).
ولقد ارتبط تأسيس السوسيولوجيا بالتحولات التي عرفها المجتمع الغربي خلال القرن التاسع عشر، والتي ساهمت في العديد من التغيرات على المستوى الاجتماعي والثقافي. وعليه يقال أن السوسيولوجيا ولدت من رحم سياق الأحداث التاريخية الكبرى(الماكروسوسيولوجية) التي عرفتها المجتمعات الغربية؛ كالثورة الفرنسية(1789-1799)، و الثورة الصناعية (قرن 18م) في بريطانيا وغيرها من التحولات التي عرفها المجتمع الغربي على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي…،
وعلى هذا الأساس تلقب السوسيولوجيا ب”ابنة التاريخ والعصر”. التاريخ الحديث الذي شابه مجموعة من الظواهر الاجتماعية من قبيل القومية، والتفكك الاجتماعي، الهجرة، الصراعات، الحروب، تغير نمط الإنتاج، المدن، … إلى أخره من ظواهر أرقت المفكرين تفكيرا ودراسة. ومن هذا الوضع حاول عدد من المفكرين الاجتماعيين فك لغز هذه الظواهر؛ عبر فتح جملة من الأسئلة المتعلق بالمجتمع، من قبيل: «ما هي طبيعة المجتمع الإنساني؟ وكيف تأتى للمجتمع أن يبنى على هذا النحو؟ وكيف و لماذا تتغير المجتمعات ؟ «([11]).
تتجه جملة من الدراسات والاتجاهات الفكرية التي اهتمت بسوسيولوجيا، وخاصة تلك التي تناولت تراث علم الاجتماع بالدراسة والنقد والتحليل، أن هناك ثلاثة أسماء لامعة في علم الاجتماع الحديث، يتعلق الأمر بعالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم، والألماني كارل ماركس، والألماني الآخر ماكس فيبر. شكلت أعمال هؤلاء الأعلام منعطفا تاريخيا في علم الاجتماع، وثقافته. وقبل أن نقف عند كل من دوركايم، وماركس وفيبر، نقف عند كونت الذي أعطى لعلم الاجتماع تسميته.
يعد أوغست كونت (1798-1857)، من بين أهم رواد علماء الاجتماع، هذا الفيلسوف الملقب ب”هيغل فرنسا”، يعد أب علم الاجتماع، ومن أبرز العلماء الذين اهتموا بما هو اجتماعي(Le Social). كيف لا وهو كان وراء توجيه التفكير الفلسفي، من نحو الانسان، إلى “التفكير في المجتمع”([12]).
من المعلوم أن كونت هو من نحث لفظة سوسيولوجيا في عام 1839 في سياق دروس في الفلسفة الوضعية، بعدما كان يطلق عليه الفيزياء الاجتماعية([13])، تلك الدروس التي ستنشر في مؤلف يحمل عنوان “دروس في الفلسفة الوضعية”( Cours de philosophie positive)، في أربعينيات القرن التاسع عشر. ففي دروس الفلسفة الوضعية، سيقول كونت ب “قانون الحالات الثلاثة” أو مراحل “تطور الفكر البشري”([14]) التي رأى من خلاله كونت أن « جميع التصورات بني البشر وجميع فروع معارفهم تمر عبر ثلاثة حالات نظرية مختلفة، هي: الحالة اللاهوتية(أو الأسطورية، الخيالية)، والحالة الميتافيزيقيا(أو المجردة) والحالة الوضعية(أو العلمية).
(…)الأولى تشكل نقطة انطلاق الفكر البشري، والثالثة نهايته ومبتغاه، وأما الثانية(أو الوسطى) فهي مرحلة انتقالية» ([15]). وتقسيم مراحل التفكير البشري، شأن شائع في كتابات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فمن بين التقسيمات التي أرخت لمراحل التفكير البشري، نجد رائد من رواد الانثربولوجيا-البريطاني سير جيمس فرايزر صاحب “الغصن الذهبي” أن البشرية انتقلت من مرحلة السحر، إلى مرحلة الدين، وأخيرا مرحلة العلم([16]). ووفق تصورات كونت ينقسم علم الاجتماع؛ وفق تقسيمه إلى قسمين:
- الأول يعنى بدراسة المجتمع في حركته؛ دراسة عمومية شاملة. وهي التي أطلق عليها اسم الديناميكا الاجتماعية.
- أما القسم الثاني فأطلق عليه اسم الأستاتيكا الاجتماعية والتي تعني بدراسة المجتمع في استقراره.
- رواد ثقافة علم الاجتماع
نستقرض مفهوم “ثقافة علم الاجتماع” من عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل فالرشتاين، وفيه نتناول بعض ما جاء عند كل من دوركايم وماركس وفيبر؛ حول موضوع علم الاجتماع، حيث يعد هؤلاء الأعلام أبرز علماء الاجتماع الذين شكلوا ما أطلق عليه فالرشتاين؛ ثقافة علم الاجتماع. وقبل أن ندلف لذلك لابد من الإشارة إلى مفهوم الثقافة الذي يعد من أبرز المفاهيم في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ فكلمة ثقافة يمكن حسرها من الناحية الايتومولوجية ودلالتها السيمانطيقية، لكن كمفهوم يعد من المفاهيم المعقدة، فقد خصص دنيس كوش دراسة مهمة تتناول سيرورة هذا المفهوم في حقل العلوم الاجتماعية([17]).
يعرف عالم الإجتماع روبرت بيرستد الثقافة على أنها » ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نمتلكه كأعضاء في المجتمع «([18]). أما عالم الاجتماع المعاصر أنتوني غدنز فيرى أن»الثقافة تعني أسلوب الحياة الذي ينتهجه أعضاء مجتمع ما أو جماعات ما داخل المجتمع. وهي تشمل على هذا الأساس أسلوب ارتداء الملابس، وتقاليد الزواج، وأنماط الحياة العائلية، وأشكال العمل، و الاحتفالات الدينية، بالاضافة إلى وسائل الترفيه والترويح عن النفس «([19]). وعلى العموم» تعريف الثقافة في المطلق غير ممكن«([20]).
حسب فالرشتاين هناك ملاحظتين حول مفهوم ثقافة علم الاجتماع؛ «(الملاحظة الأولى:) إن ما نعنيه عادة ب”الثقافة” هو مجموعة المسلمات المنطقية والممارسات المشتركة. وهي بكل تأكيد ليست مشتركة بين كل أعضاء المجموعة في كل وقت، لكنها مشتركة بين معظم الأفراد في معظم الوقت. إنها مشتركة علنا، ولكن الأهم من ذلك أنها مشتركة لا شعوريا بحيث إنه نادرا ما تجري مناقشة المسلمات المنطقية(…).
وتجدر الإشارة إلى أنه توجد فعلا منظومة من تلك المسلمات المنطقية المشتركة بين علماء الاجتماع، لكنها لا توجد بالضرورة إطلاقا بين الأشخاص الذين يسمون أنفسهم مؤرخين أو علماء اقتصاد(…)(الملاحظة الثانية:) أعتقد أن المقدمات المنطقية المشتركة هي أمور مكتشفة _مكتشفة وليست معرفة_ من جانب من نعتبرهم مفكرينا المؤسسين»([21]).
من بين الملاحظات المهمة حول الأعلام الثلاثة الذين كانوا وراء ثقافة علم الاجتماع؛ أنهم عاشوا شطرا مهما من حياتهم خلال القرن التاسع عشر، كما يجمع هؤلاء العلماء أنهم ينتمون تقريبا إلى نفس الجيل، ونفس المجال العام-الغربي، ما يعني أنهم عاصروا نفس التحولات والظواهر التي عرفها عصرهم.
من البديهيات في الأدبيات السوسيولوجية، ليس هناك اختلاف حول أهمية ماركس، ودوركايم، وفيبر، فهم «علماء الاجتماع المعترف بها هذه الأيام في العالم بأسره» ([22]) فالأول _دوركايم_ أطلق على نفسه صفة عالم اجتماع، بينما فيبر، فعل ذلك في مرحلة الأخيرة من حياته كما قيل. أما كارل ماركس فهو لم يدعي هذا اطلاقا([23]).
- وقفة مع ماركس:
كارل ماركس(1818-1883)، الفيلسوف ألماني وعالم اجتماع، والمؤرخ، من مؤسسي علم الاجتماع ، ومن أشهر علماء الاقتصاد. احتل تراثه الفكري، مكانة بارزة لا من حيث القراءة، ولا من حيث النقد، وما يزال تراث هذا العالم مسألة بحث ونقاش نظرا لما خلفه هذا الفيلسوف من نظرية وأفكار ثاوية في نظريته الماركسية.
ويقال أن ماركس هو «أعظم وريث للإقتصاد السياسي الانجليزي، والاشتراكية الفرنسية، والفلسفة الألمانية وعدت هذه مصادر الماركسية الثلاثة التي استطاع أن يخرج منها بحصاد فكري هائل»([24]). ألف ماركس مجموعة من الأعمال، من بينها مؤلفه “رأس المال”، وكتاب “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” وغيرها من الأعمال التي ما تزال تحتل موقعها في التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العصر الحالي.
وعليه يصنف ماركس ممن قعدوا لثقافة القرن العشرين (سيغموند فريد، انشتاين). ترى القراءات السوسيولوجيا في أعمال كارل ماركس، أن أفكاره حول دراسة المجتمع، تتعارض مع ما قدمه كل كونت ودوركايم، لكن ماركس» كان مثلهما يسعى إلى تفسير التغيرات التي كانت تطرأ على المجتمع خلال الثورة الصناعية«([25]).
ويرجع ماركس أهم التغيرات التي حدث على مستوى عصره، بتطور الرأسمالية([26]). من المعلوم عن كارل ماركس، أنه لم يسمي ويوافق على تسمية علم الاجتماع _ سوسيولوجيا _ بل فضل تسمية علم المجتمع، وحسب الطرح الماركسي يعد الموضوع الأساسي للبحث السوسيولوجي هو “البحث في العلاقات الأساسية التي على رأسها العلاقات الإنتاجية”([27]).
ويتألف الفكر الماركسي من مجموعة من المفاهيم التي تندرج ضمن قاموس الماركسية، ومن بين المفاهيم نجد مكونين أساسين يعبران عن نظرية الماركسية وهما؛ نظرية المادية الجدلية Matérialisme dialectique والمادية التاريخية Le matérialisme historique ، هذه الأخيرة التي تعتبر الجهاز المفاهيمي لعلم الإجتماع الماركسي([28])، التي تؤكد على الدور المهم للمحدد الإقتصادي في عملية التغير.
يعتبر المنهج الجدلي والتاريخي هو منهج علم الاجتماع الماركسي. ومن الملاحظات التي يمكن ذكرها، حسب رأى فالرشتاين أن هناك أغلية من علماء الاجتماع في العالم كانت ترغب في اقصاء ماركس عن علم الاجتماع، مع العلم أن «ماركس كان بكل وضوح يناقش شيئا مركزيا في الحياة الاجتماعية لا يمكن تجاهله ببساطة، وهو الصراع الاجتماعي.
كان لماركس بدون شك تفسير خاص للصراع الاجتماعي» ([29]). إن الصراع من داخل الماركسية هو من منظورها حقيقة تاريخية؛ إذ يؤكد ماركس في مانيفستو/البيان الشيوعي على “أن تاريخ أي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ صراعات طبقية”.
- وقفة مع دوركايم:
ايميل دوركايم (1917-1858) عالم الاجتماع الفرنسي، ومؤسس مدرسة علم الاجتماع الفرنسية، يعد هذا العالم، من الرواد الأوائل الذين ساهموا في بناء الصرح السوسيولوجي العام وتقعيد له. كما يعتبر دوركايم حسب الباحثين في علم الاجتماع، هو من قعد لسوسيولوجيا قواعد خاصة بملاحظة الظاهرة الاجتماعية، ودراسة هذه الظواهر دراسة امبريقية، »لا غرو، فدوركايم يعتبر أحد دعائم الحركة العلمية عامة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وهو منشئ علم الاجتماع الحديث وزعيم المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع «([30]). لقد تنوعت مؤلفات دوركايم، ومن أهم أعماله ثلاثة أعمال كانت في أواخر القرن التاسع عشر. ففي عام 1893 ألف عمله الموسوم «De la division du travail social» تقسيم العمل في المجتمع، وفي عام 1895، كتب دوركايم مؤلفه الشهير قواعد المنهج في علم الاجتماع الذي تحت عنوان: «Les Règles de la Méthode Sociologique»؛ هذا المؤلف الذي يعد حسب العديد من الباحثين في حقل العلوم الاجتماعية، هو المؤلف الذي رفع دوركايم إلى مصافي كبار الأساتذة والمفكرين الاجتماعين، ويعتبر قواعد المنهج في علم الاجتماع “تلخيصا للكثير من تصورات دوركايم لعلم الاجتماع والمجتمع”.
وتبع هذه المؤلف كتاب «Le Suicide الانتحار؛ الذي نشره دوركايم سنة 1897. في حين كان مؤلفه الأخير، في العقد الثاني من القرن العشرين، تحت اسم: «Les formes élémentaires de la vie religieuse» الأشكال الأساسية للحياة الدينية، سنة 1912. صنفت هذه الاعمال ضمن الأعمال الرئيسة لإميل دوركايم. وخاصة “تقسيم العمل في المجتمع” الذي قدم فيه دوركايم تحليلا للتغير الاجتماعي الذي طرأ في مرحلة التصنيع، وما أفرزه هذا التحول من أنواع التضامن؛ التي حددها في نوعين الأول أطلق عليه التضامن الآلي والثاني أطلق عليه التضامن العضوي.
أما الكتاب الثاني لدوركايم، الذي يصنف من الاعمال الكبرى التي أحدثت ثورة على مستوى العلوم الاجتماعية، كتاب “قواعد المنهج في علم الاجتماع” ففيه حدد دوركايم قواعد ملاحظة الظواهر الاجتماعية([31]).
لقد تنوعت اهتمامات دوركايم الفكرية، كما تنوعت مؤلفاته بين مؤلفات تأسيسية لعلم الاجتماع، ودراسات؛ كدراسة الانتحار وغيرها. وهناك من الباحثين من يرى»أن الهم الفكري الرئيسي لعلم الاجتماع لدى دوركايم هو دراسة الحقائق الاجتماعية «([32]).
- وقفة مع فيبر:
يعد فيبر الألماني(1920-1864) من بين أهم علماء الاجتماع ومفكرين القرن 19م. اهتم بالعديد من قضايا الفكر، كالاقتصاد والسياسة، والاجتماع والدّين، ويعد كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” من بين أشهر الكتب التي كتبها فيبر، صاحب نظرية الفعل الاجتماعي؛ »لم يكن فيبر يعتقد كما اعتقد دركهايم وماركس أن للبنى وجودا مستقلا عن الأفراد.
بل إنه كان يرى أن البنى في المجتمع إنما تتشكل بفعل تفاعل تبادلي معقد بين الأفعال. من هنا، فإن من واجب عالم الاجتماع أن يتفهم المعاني الكامنة وراء هذه الافعال«([33]). كسائر علماء الاجتماع خلال حقبته، بحث فيبر في عوامل تغير المجتمع. وفي هذا الباب أكد فيبر على دور القيم في تغير الاجتماعي، كما دعا فيبر إلى تركيز علم الاجتماع على “الفعل الاجتماعي لا على البنية الاجتماعية”([34])وهذا الفعل هو الذي ينبغي فهمه و تفسيره – بالمناسبة هذا مسعى علم الاجتماع الفبيري([35]).
ومفهوم الفعل الاجتماعي من المفاهيم الأساسية في الجهاز المفاهيمي لفيبر. حسب فيبر يقوم البشر بثلاثة أنماط من الأفعال: الفعل التقليدي؛ الفعل العاطفي؛الفعل العقلاني([36]). وفي التصور الفيبيري، أن الدوافع والأفكار البشرية في نظره هي التي تقف وراء التغير الاجتماعي، وبمقدور الآراء والقيم والمعتقدات أن تساهم في التحولات الاجتماعية([37]).
قصارى القول، لقد ساهمت كل من أعمال كل من ماركس ودوركايم وفيبر، إلى بناء اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، فقد ساهمت أعمال ماركس إلى بناء نظرية ماركسية في علم الاجتماع؛ بينما ساهمت أعمال دوركايم في النظرية الوظيفية بشكل مباشر؛ لكن أعمال فيبر وتصوراته السوسيولوجيا ساهمت بشكل غير مباشر في نظرية التفاعلية الرمزية كما يوضح أنتوني غدنز([38]).
([1]) محمد حبيدة، المدارس التاريخية: برلين، السوربون، استراسبورغ، ط1 (الرباط، دار الأمان، 2018)، ص 20.
([2]) سالم يفوت، ابستمولوجيا العلم الحديث، ط2(الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2008)، ص 9.
([3]) غاستون بوتول، تاريخ علم الاجتماع، ترجمة غنيم عبدون، د.ط(مصر، الدار القومية للطباعة والنشر)، (انظر الباب الثاني المعنون ب: علم الاجتماع الحديث 71-99).
([4]) محمد حبيدة، المرجع السابق، ص 24.
([5]) راجع بهذا الخصوص: عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون(ج1)، تحقيق علي عبد الواحد وافي، ط7 (مصر، دار نهضة مصر، 2014).
([6]) عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون(ج1)، تحقيق علي عبد الواحد وافي، المرجع السابق، ص 125.
([7]) عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون (ج1)، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، ط1 (سوريا، دار يعرب، 2004) ص 128.
([8]) عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، المرجع السابق، ص128.
[9]) عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة 44 ( الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1981)، ص 52.
([10]) إيمانويل فالرشتاين، نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعي للقرن الحادي والعشرين، ترجمة فايز الصياغ، ط1 (المنامة، هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2017)، ص 408.
([11]) أنتوني غدنز، علم الاجتماع (بمساعدة كارين بيردسال، (مع مداخلات عربية)، ترجمة فايز الصياغ، الطبعة 4(بيروت: المنظمة العربية للترجمة،2005)، ص 54.
([12]) محمد حبيدة، المرجع السابق، ص 20.
([13] ) فيليب كابان وجان فرنسوا دورتيه، علم الإجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، أعلام وتواريخ وتيارات، ترجمة إياس حسن، الطبعة 1(دمشق، دار الفرقد،2010)، ص21.
([14] ) فيليب كابان وجان فرنسوا دورتيه، المرجع السابق، ص25.
([15]) محمد عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، ط5 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربي، 2002)، ص 279.
([16]) رحال بوبريك، الأنثربولوجيا: نظريات وتجارب، ط1(الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2019)، ص 44.
([17]) للمزيد حول مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية أنظر: دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة منير السعيداني، ط1(بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007).
([18]) (R. Bierstedt. The Social Order. New York : Mc Graw Hill 1963). نقلا عن الفاروق زكي يونس، في تقديمه لكتاب، نظرية الثقافة (تأليف مجموعة من الكتاب)، عالم المعرفة223، المرجع السابق، ص 9.
([19]) أنتوني غدنز، علم الإجتماع (مع مدخلات عربية). بمساعدة كارين بيردسل، المرجع السابقـ، ص 79.
([20]) الطاهر لبيب، « ثقافة بلا مثقفين: من الملحمي إلى التراجيدي»، المستقبل العربي282 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002)، ص 25.
([21]) إيمانويل فالرشتاين، المرجع السابق، ص 412-413.
([22]) إيمانويل فالرشتاين، نفسه، ص 413.
([23]) إيمانويل فالرشتاين، نفسه، ص 413-414.
([24]) للمزيد حول الموضوع أنظر: فيليب كابان و جان فرنسوا دورتيه، المرجع السابق، ص 48.
([25]) أنتوني غدنز، علم الاجتماع، المرجع السابق، ص 68.
([26]) أنتوني غدنز، نفسه، ص 68.
([27]) عبد الباسط عبد المعطي، المرجع السابق، ص 69.
([28]) عبد الباسط عبد المعطي، ص 69-70.
([29]) إيمانويل فالرشتاين، المرجع السابق، ص 422.
([30]) مصطفى الخشاب، ” الفلسفة وعلم الاجتماع”، عالم الفكر، المجلد الثاني، عدد2(سبتمبر 1971)، ص 92.
([31]) اميل دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم(مصر، دار المعرفة الجامعية، 1988 )، ( أنظر الفصل الثاني : القواعد الخاصة بملاحظة الظواهر الإجتماعية (من ص 70إلى ص 121) .
([32]) أنتوني غدنز، علم الاجتماع، المرجع السابق، ص 63.
([33]) أنتوني غدنز، المرجع السابق، ص 70.
([34]) أنتوني غدنز، نفسه، ص 70-71.
([35]) عبد الباسط عبد المعطي، المرجع السابق، ص62.
([36]) للمزيد أنظر: عبد الباسط عبد المعطي، نفسه، ص62.