الاقتصاد العربي وتحديات “كورونا”
إذا كانت تداعيات الصراعات الأمنيّة والسياسيّة التي بدأت مع “الربيع العربيّ” في العام 2011، ولا تزال مستمرّة في بعض البلدان العربيّة، قد أنتجت خسائر ماليّة واقتصاديّة كبيرة قُدِّرت بأكثر من تريليون دولار، حتّى أنّها تُهدِّد بإحداث تحوّلاتٍ في المشهد الاجتماعيّ والإنسانيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، فقد فوجئت المنطقة العربيّة في أواخر العام 2019 بتداعيات فيروس “كورونا” المُسبِّب لمرض “كوفيد-19″، وهي مستمرّة بأضرارها للأقتصاد العربيّ.
حيث قُدِّرت خسائر الشركات العربيّة في رأسمالها السوقيّ بنحو 420 مليار دولار، وخسارة نحو 40 مليون عربيّ وظائفهم، ما أسهَم في ارتفاع نسبة البطالة. ولكن على الرّغم من ذلك، فإنّ المنطقة لا تزال تحتفظ بمَوقعها في المرتبة الرّابعة عالميّاً في مؤشِّر “جاذبيّة الاستثمار”، كما بدأ الاقتصاد العربيّ يستعيد عافيته بالتدريج منذ الربع الثالث من العام 2020. وسيتمكّن من استعادة معدّلات نموّه ما قبل “الجائحة”، بحلول العام 2024.
انتشرت جائحة “كوفيد-19” في المنطقة العربيّة في وقتٍ ترزح فيه الاقتصادات تحت وطأة النزاعات والضغوط الماليّة المُتزايدة.
وكأنّ عجلة الحياة تعطّلت خلال عقدٍ كامل، اتَّسم بتسارُع العمل نحو تحقيق التنمية المُستدامة، وقد عطَّلها تهديدٌ صحّي عالَمي أَصاب بلدان المنطقة بأضرارٍ جسيمة، فتحوَّل التركيزُ إلى اتّخاذ إجراءاتٍ طارئة لإنقاذ الأرواح وإصلاح سُبل العيش، انطلاقاً من أنّه لا بدّ أن يكون رفاه الإنسان والتضامن الاجتماعي في صميمِ أيّ مُبادَرةٍ إنعاشيّة، حيث تُواجِه البلدان العربيّة، وفق تقرير اللّجنة الاقتصاديّة لغرب آسيا التّابعة للأُمم المُتّحدة (الإسكوا) تحدّيات اجتماعيّة مثل الفقر الذي تصل نسبته إلى 32%، ليشمل 116 مليون عربي، وتحدّي البطالة التي ترتفع نسبتها إلى 12.5%.
وتوقَّع التقريرُ سيناريوهَيْن اقتصاديَّيْن، أحدهما مُتفائل بتحقيق معدّل نموّ 3.5% خلال العام الحالي، والثاني أقلّ تفاؤلاً بأن لا يتجاوز النموّ 2.8%، على أن يتحدّد المَسار بناءً على قدرة البلدان على مُواجَهة وباء “كورونا” الذي بسببه خسرت المنطقة نحو 140 مليار دولار في العام 2020.
ولوحظ أنّ توقّعات “الإسكوا” قريبة من توقّعات صندوق النقد العربي التي أشارت إلى تحقيق نموّ 2.8% في العام الحالي، ونحو 3.6% في العام المُقبل، وذلك في ظلّ التعافي المُرتقب للاقتصاد العالَمي، واستمرار السياسات النقديّة والماليّة التوسّعيّة،
والأثر الإيجابي للإصلاحات الاقتصاديّة التي يجري تنفيذها في عددٍ من البلدان العربيّة، “التيسير النقدي”، حيث بلغت حزمة ضخّ السيولة من قِبَلِ ثلاثة بلدان خليجيّة (السعوديّة وقطر والإمارات) أكثر من 63 مليار دولار، لضمان توافر مستوياتٍ كافية من النقد لدعم التعافي الاقتصادي الذي بدأ بشكلٍ تدريجي في الربع الثالث من العام الماضي.
- تفاقُم عدم المُساواة
أدَّت أوجه عدم المُساواة الموجودة قَبْلَ جائحة “كورونا” إلى تضخيم الأثر السلبيّ للوباء (وفق تقارير صندوق النقد الدولي)، خصوصاً أنّ الشباب والفقراء عانوا أكثر من غيرهم، وكانوا أكثر عرضة لخطر فقدان وظائفهم أو مَداخيلهم.
وحذَّر خبراءُ الصندوق من أن تتحوّل هذه الظاهرة إلى “حالة اجتماعيّة وشقوق سياسيّة زلزاليّة”، بعدما ألقت الأزمة بظلالها القاتمة على البلدان الضعيفة والفقيرة، مقابل الدول الغنيّة والاقتصادات المتقدّمة، ولاسيّما الولايات المتّحدة والصين.
لذلك دعت المديرة العامّة للصندوق كريستالينا غورغييفا حكومات هذه الدول إلى زيادة الضرائب على الأثرياء للمُساعدة في مُواجَهة التداعيات الاقتصاديّة السلبيّة، بما يُسهم في مُعالَجة التفاوتات التي ارتفعت بين الأغنياء والفقراء بسبب الوباء.
وقدَّر الصندوق أنّه يُمكن تحقيق أكثر من تريليون دولار من العائدات الضريبيّة الإضافيّة بحلول العام 2025 على مستوى العالَم، إذا قامت جميع الدول بالسيطرة على تفشّي الوباء، في وقتٍ أقرب من التوقّعات. كذلك يُمكن لصانعي السياسة النَّظر في إسهامةٍ مؤقّتة للتعافي، من أجل حشْد المَوارِد اللّازمة لتحسين الوصول إلى الخدمات الأساسيّة، وتعزيز شبكات الأمان، وتنشيط الجهود لتحقيق أهداف التنمية المُستدامة.
- الجوع والبطالة
من الطبيعي أن تُعاني الشعوب العربيّة من تداعيات تلك المؤشّرات السلبيّة، حتّى قبل جائحة “كورونا”؛ وتشير الإحصاءات إلى أنّه بين عامَيْ 2015 و2017، انفجرت موجةٌ من انعدام الأمن الغذائي بين سكّان المنطقة، بلغ بنتيجتها عددُ الجائعين نحو 51.4 مليون عربي، وبما يوازي 12.2% من عدد السكّان، كما أصابت هذه الموجة نحو 137 مليون عربي، بدرجاتٍ مُتفاوتة، إذ لم يستطع هؤلاء الحصول على الطعام بشكلٍ كافٍ ومُغذٍّ على نحوٍ مُستمرّ.
وفي السنوات الخمس الأخيرة، سجَّلت مستويات الجوع ارتفاعاً ملحوظاً، ومن أبرز أسبابه (وفق منظّمة الغذاء العالَميّة) النزاعات االتي كشفتْ عن وجود علاقة بين مؤشِّر “نقص التغذية” في البلدان التي تعاني من نزاعات، وهي: العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان والصومال، والبلدان الأخرى.
وهناك تفاوت كبير بين المجموعتَيْن، حيث بلغ معدّل نقص التغذية في المجموعة الأولى في الفترة 2017 – 2019 نحو 25.2%، ويُتوقَّع أن ترتفع إلى 30% بين عامَي 2028 – 2030.
أمّا مجموعة الدول الثانية التي لا يوجد فيها نزاعات، فإنّ معدّل نقص التغذية فيها بلغ 6.4% فقط، ويتوقّع أن يرتفع إلى 8.2%. وبالتالي سيزداد عدد الذين يعانون من نقص التغذية إلى 75.3 مليون شخص. وبما أنّ هذه التوقّعات لا تأخذ في الاعتبار التداعيات الناجمة من جائحة “كورونا” وأثرها على الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في المجموعتَيْن، فإنّ التداعيات ستكون أسوأ بكثير فى المرحلة المُقبلة.
أمّا بالنسبة إلى مشكلة البطالة، فإنّ تداعيات انتشار جائحة “كورونا” تُهدِّد نحو 40 مليون عامل في البلدان العربيّة بخسارة وظائفهم (وفق تقارير “الإسكوا” ومنظّمة العمل الدوليّة)، وذلك بسبب انخفاض الاستهلاك خلال فترات الإقفال، ما ينعكس انخفاضاً في مبيعاتها ويُكبّدها خسائر هائلة، فينتهي الأمر سلباً على موظّفيها.
وتشير الإحصاءات إلى أنّ حَجْمَ البطالة شمل في العام 2019 نحو 14.3 مليون عاطل عن العمل، وقد شهد العام 2020 خسارة 12.8% من ساعات العمل، أي ما يُعادل خسارة 15 مليون وظيفة. وبما أنّ المنطقة العربيّة هي جزء من العالَم، ووفق منظّمة العمل الدوليّة، فإنّ مَسار النموّ الاقتصادي المتوقَّع لن يكون كافياً لسدّ فجوة اللّامساواة التي تسبَّبت بها الجائحة.
ومع الأخذ بأرقام النموّ، فقد شهد العام 2020 نقصاً بنحو 75 مليون وظيفة مُقارَنةً بما كان متوقَّعاً. أمّا العام الحالي فيُتوقَّع أن يَشهد نقصاً بنحو 25 مليون وظيفة، ما يرفع عدد العاطلين عن العمل في العالَم إلى 220 مليوناً مُقارنةً بـ 187 مليوناً في عام 2019.
- التيسير النقديّ وتدفُّق الاستثمار
في إطار الجهود التي يبذلها صندوق النقد العربي لدعْمِ مُتَّخذي القرار في الدول العربيّة، يتوقَّع أن تُتابِع البنوك المركزيّة ومؤسّسات النقد العربيّة تبنّي سياساتٍ نقديّة توسّعيّة لدعْم التعافي الاقتصادي خلال عامَيْ 2021 – 2022 من خلال الإبقاء على أسعار فائدة عند مستوياتٍ مُنخفضة بما يساعد على دعْم الائتمان الممنوح للقطاع الخاصّ، ومُواصَلة مساعيها لضمان توافُر مستوياتٍ كافية من السيولة بالعُملتَيْن المحليّة والأجنبيّة في إطار سياساتٍ لا تستهدف التعافي فقط، وإنّما كذلك ضمان السلامة المصرفيّة والاستقرار المالي.
على أن يُرافِق ذلك الاستفادة من فائضٍ مُرتقَب لميزان المُعاملات الجارية للدول العربيّة كمجموعة بقيمة 4.8 مليار دولار في العام الحالي، ومع تحسُّن هذا الفائض ليبلغ نحو 41.6 مليار دولار في العام المُقبل، وبما يُعادل 1.6% من الناتج المحلّي الإجمالي.
وعلى الرّغم من تصاعُد حدّة المُنافَسة بين دول المنطقة والعالَم على جذْبِ المُستثمِرين، ولاسيّما الشركات متعدّدة الجنسيّة في ظلّ تراجُع أنشطتها الاستثماريّة جرّاء التحدّيات الصحيّة والإجراءات المُرتبطة بها، فقد توقَّعت المؤسّسةُ العربيّة لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات (ضمان) استمرار الأداء الإيجابي للاستثمارات الأجنبيّة المباشرة في الدول العربيّة، بعد ارتفاعها غير المتوقَّع بمعدّل 2.5% في العام الماضي إلى 40.5 مليار دولار.
وقد زاد عددُ المشروعات الاستثماريّة في النصف الأوّل من العام الحالي بمعدّل 6.9% إلى 285 مشروعاً، وزادت تكلفتها الاستثماريّة 16.8% إلى 12.4 مليار دولار، وذلك مُقارَنةً بالفترة المُماثلة في العام الماضي.
هكذا، ومع الأخذ بالاعتبار أنّ المالَ جبانٌ ويفتّش دائماً عن الأمن والاستقرار، وعن الاستثمار المضمون بنسبةٍ مُرتفعة، فإنّ المنطقة العربيّة لا تزال تحتفظ بمَوقعها في المرتبة الرابعة عالَميّاً بين 7 كُتل اقتصاديّة وتجمّعات جغرافيّة في مؤشّر “جاذبيّة الاستثمار” الذي يقيس إمكانات 109 دول على جذْبِ الاستثمارات الأجنبيّة،
وتأتي بعد مجموعة منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تحتلّ المرتبة الأولى، تليها دول شرق آسيا والمحيط الهادي في المرتبة الثانية، ودول شرق أوروبا وآسيا الوسطى في المرتبة الثالثة. ومن هنا تبرز أهميّة المنطقة العربيّة للاستثمار العالَمي خلال السنوات المُقبلة.
عدنان كريمة: كاتب ومحلّل اقتصادي من لبنان