مارتن هِيدغر قَارِئًا لِبَارمينيدس وَأفلاطون
– إعداد : مصطفى الكيلاني
أُفُق النَصّ البارمينيدسيّ هُو أَوْسع مَدى مِن أن يُحَدّ بِتَقبُّل واحد، إذْ مَثَّلت الصِفَةُ السَرْدِيَّة المُلغزة للوُجود مُحَفِّزًا داخل بِنْيَة النَصّ ذاته على التفكير بِما هُو أَبْعد مِن الدَلالات الظاهرة. وما خَفِيَ في النَصّ وعلى بارمينيدس في لَحْظة تفكيره الأُنطلوجِيّ الناشئ مِن مَعانٍ دَعَا القِراءة/القِراءات إلى النَفاذ داخل عَمِيق المُحْتجِب المُلغَز.
لَقَد عادَ مارتن هيدغر إلى فَلسفة البِدايَات، إلى نَصّ بارمينيدس ضِمْن مَشْرُوعه الفلسَفِيّ القائم على نِسْيَان الكَيْنُونَة بالتفكير في الوُجود والزَمن والمَوْت والقَلق، وبِالحِرْص على تَجاوُز تأثِير المِيتافِيزيقا. وكِتابُ بارمينيدس هُو دَرسه الّذِي أَلْقاه خِلال سُداسِيَّة شِتاء (1942م- 1943م) بِجامعة فريبورغ (Fribourg-en-Brisqau) بَعْد أن قَرَّرَ ترجمة قَصِيدة بارمينيدس إلى الأَلْمانِيَّة مُفكِّرا في الإغريق وبالإغريق (1).
إنَّ بَدْء التفكير أو التفكير بِالبَدْء اسْتَلزَمَ العَوْدة إلى مَراجع ثقافة بارمينيدس في كِتابة نَصّه، وتَحْدِيدًا إلى هومير وهزيود وسوفوكل وأفلاطون…
وَمَوْضوع التفكير، هُنا، تَحَدَّدَ بِصِلَة الوُجود بالإنسان، والإنسان بالوُجود لِبَيان أنَّهُ لا حَدَّ للتفكير بالتفكير و”لِمَعرفة حَقِيقة الحَقِيقِيّ” (Savoir la vérité du vrai).
وإذَا النَصّ البارمينيدسيّ بِمَا يُثِيره مِن قَضايا أُنطلوجِيَّة بِبَدْء التَفْكِير ومَشْرُوعه المُستقبليّ مَثَّلَ دَلِيلًا على أنَّ الفلسفة، مُنذ نَشأتها الأُولى، إغرِيقِيَّةٌ غَرْبِيَّةٌ، كَما لهذا النَصّ صِفَة تارِيخِيَّة إذْ مَثَّلَ بدْءًا أو ما يُشْبه البَدْء، وِلادَةً لِمَشرُوع في التفكير الفَلْسَفِيّ الّذي سَيتواصل أكثر مِن خمسمائة وأَلْفَيْ عَام (ابْتِداءً مِن 540 ق.م- 560 ق.م)، إلى أَرْبَعِينات القَرْن الماضِي، زَمن قِراءة هيدغر لِبارمينيدس.
وما لَفتَ انتِباهَ هيدغر في مُحاضرته الأَلفاظ الثَمانِيَة الأُولى مِن الشذْرة السادسة في قَصِيدة بارمينيدس، وَبِتَأثير قِراءة نِيتشه أَيْضًا لِهَذا النَصّ التَأسِيسِيّ.
إنَّ القَصْد الهيدغريّ مِن الرُجوع إلى النَصّ، إلى أَصْله الإغريقيّ هُو تَمثُّل السِياق الإغريقِيّ ذاته عِند انتِهاج سَبِيل التَرْجمة مِن الإغريقيَّة إلى الأَلْمانِيَّة، وذلك للتفكير بالإغريقيَّة وتحقيق فهْم مُحايث للنَصّ الأَصْلِيّ.
فَبَحَثَ هيدغر في اللَّحْظة البارمينيدسيّة، وهي لحظة فارقة استثنائيّة في تاريخ الفِكر الإنسانِيّ الّذِي شهد بها نَشأة الفَلسفة ضِمْن سِياق ثقافِيّ معرفيّ إغريقيّ (2).
“صُبْح التَفْكِير” (Le matin de la pensée)، بِهَذه التَسْمِيّة تَمثّل هيدغر مَشْرُوع التفكير الأُنطلوجِيّ في الوُجود، وتَحْدِيدًا مَرْحلة التفكير الفَلسَفِيّ مَا- قَبْل السُقراطِيّ، أَوّل النُور، والشَمْس على وَشك أن تَبزغ، لَحْظة الفَجْر العَمِيق لِانفِتاح الوُجود فَلْسَفَةً، قَبْل تَوَلُّد المَفْهُوم (concept)، رَعْشة المَوْجُود (Etant) الأُولى، انفِصاله وتَواصُله مَعَ الوُجود في الآن ذاته، لَحْظة انبِثاق النُور مِن الظُلمة، تقريبا، بِمَا يُشْبه مَا حَدَث لِلْكَوْن ونَشأة العالم فِيزيائيًّا، بِانفجار آخر حَدَث، بِانبِلاج صُبْح وَعْي إنسانِيّ ناشئ للوُجود، لَحْظة سَعادة صَباحِيَّة بِبارمينيدس في اتِّجاهٍ وهيرقليطس في اتِّجاهٍ آخر، كَالمُتمَثَّل قِراءةً جَدِيدَةً بِنِيتشه ثُمّ هيدغر…
وإذَا التفكير الأَوّل، كَالماثل في النَصّ البارمينيدسيّ، وبالاستقبال الهيدغريّ بَعْد الاستقبال النِيتشهيّ، يتحرّك داخل العَتمة المُلْغَزة.
“الفتيان إلى اليَمِين، والفَتَيات إلى اليَسار”: شَذْرةٌ تَختصر ذلك الغُموض البِدائيّ، كَأوّل الفَجْر في يَوْم جَدِيد بِأوّل الأُفُق المُنفَتِح على أرسطو ثُمّ على كانط، بَعْد قُرون.
فَاعتبرَ هيدغر اللَّحْظَة البارمينيدسيّة بالغة الدِقّة لِكَوْنها لَحْظة فَجْرِيَّة، وَضَوْؤُها عِنْد حُدوثها ظَلَّ لَيْلِيًّا، وَذَلك بالاتِّجاه مِن… إلى…
وإذَا اللَّحْظة البارمينيدسيَّة، في التَقَبُّل الهيدغريّ، تَختصر زَمَنًا كان وزَمَنًا يَكُون وَسَيَكُون، إذْ هِي لَيْست لَحْظة تَفْكِير، وإنّما بَدْء التفكير، لِتَمِيل الكَفّة إلى ما سَيَحْدث بَعْد الّذِي حَدَث.
وعِندَ البَدْء تَتشكّل صُورَة المشروع، أَي التفكير الفَلسفِيّ الناشئ أَو بَدْء التفكير في التفكير بِالمِيتافِيزيقا استمرارا بالأُنطلوجِيَا وتَواصُلًا طِفْلِيًّا بِدائِيًّا.
كَذَا يُحِيل سُؤال التفكير (مَأتاه) بالضَرُورة إلى هذا البَدْء الأَوّل لِمَعْرفة حِكايَة البَعْض مِن الأَصْل، مِن جِينيالوجيا الذات الإنسانِيَّة المُفَكِّرَة بالوُجود وفي الوُجود، بِاستقراء مَا يَصِل ويُفارق بَيْن الفِكر واللُّغَة في التفكير الفَلْسَفِيّ المِيتافِيزيقيّ القَدِيم ومَا يَصِل ولا يُفارق بَيْنهُما في أُفُق التفكير الهيدغريّ الّذِي يَعُود في ضَوْء النَصّ البارمينيدسيّ أو عَتْمته شِبْه المُضِيئة إلى أَصْل الواحد، الكُلّ بِمُتعدّد أَجْزائه، إلى الهُوَوِيّ (L’identique) الماثل في صَمِيم هذا الواحِد وُجُودًا والواحد مَوْجُودًا، وإلى الاختِلاف بِناءً على القَوْل بالوَاحِد الكُلّ وبالأَجْزاء (العَدَد) ضِمْن بِنْيَة الواحد.
هوامش:
1 – Martin Heïdegger, “Parménide”, in “Œuvres Complètes”,
Gallimard, 1982.
2 – Martin Heïdegger, “Qu’appelle-T-on penser ? “, Traduit de l’Allemand par Aloys Becker et Gérard Grauel, presses Universitaires de France, 1973. (Epyméthée, collection fondée
par Jean Hyppolite), p5. Voir moinsModifier