الدراسات الثقافيةشعر

الشعر المغربي الرافد والتعددي

- عبقريته تكمن في لغته التي تختزن خبرات وتجارب: -

إذا كانت الهوية المغربية هوية مركبة متحركة متعددة ومنفتحة، فهذا يعني ـ بتعبير ـ آخر أنها جماع تشكلات سلالية وإثنية، وبشرية مختلفة. متعددة بغناها، ثرية بمكوناتها. ومعناه، أيضا، أن تلك التشكلات البشرية تستعمل وتستخدم ألسنا متغايرة، ولغات ولهجات بها قوام وجودها، وتواصلها، وتميزها، وحضورها الكياني في الزمان، وضمن مكان جغرافي ما تحديدا وتعيينا، نبتت فيه، أو نزلت به، عبر مدد متواصلة، مُيَمِّمَةً شطره، من جهات وفجاج بعيدة، فصار لها موئلا، ومسرحا حياتيا، ومستقرا أنطولوجيا، ومعاشا، صار وطنا.


وإذا كان الأمر كذلك، فبدَهيٌّ أن الساكنة المؤطرة جغرافيا وتاريخيا وثقافيا بالمكان المشترك، والحيز الترابي المتقاسم، تتفاهم وتتعايش، وتتساكن وتتواصل فيما بينها، بالألسن الناطقة، واللغات المتداولة، والعلامات السيميائية المخترعة. ما يقتضي ويستوجب تعلمها وتعليمها، والحرص على معرفتها لأنها المدخل الرئيس للمواطنة الحقة المسؤولة، والمهماز الضروري لدفع البلاد إلى آفاق رحبة انطلاقا من ثقافة مركبة متجذرة، وحضارة مندمجة لعبت في إرسائها وترسيخها اللغات واللهجات، والألسن المتعددة في طورها الشفاهي أولا، ثم الكتابي فيما بعد.

فهل نتكلم تلك اللغات بما هي مكونات الأُسِّ الهوياتي، والمرتكز الخصوصي، والبعد الثقافي الشخصي واللاشخصي، عنَيْتُ: العربية والأمازيغية، والحسانية؟ أو ـ في الأقل ـ هل نفهمها، ونتابع منجزها الثقافي والإبداعي والفني مُتَرجْمَاً، ما يُعين على إدراك وتحسس وجودنا المتميز، وخصوصياتنا، وإضافاتنا إن كانت لنا من إضافات؟

لا انغلاق للهوية، ولا انسداد لمكوناتها وروحها وجوهر وجودها، وملامح تشكلها، كما ألمحنا، ما يفيد أن تركيبتها الدينامية المتحركة، تنقدح وتغتني أغزرَ ما يكون بالمتح والنهل من حياض هويات أخرى، أي لغات وثقافات مختلفة متحدرة من جينالوجيا أشجار لغوية موازية، ومتباعدة، وعوائل لسانية غريبة لكن مضيافة ومستقبلة.

وما الهويات اللسانية ـ الثقافية الأخرى الغيرية التي لا مناص منها، إلا مشخصات وحصائل اللغات العالمية الحية التي أبانت عن مقدرة في إعدام الجهل والخرافة، وإيقاد مصباح التقدم، وسراج التنوير، كاللغة الإنكليزية واللغة الفرنسية، واللغة الإسبانية، والألمانية، والصينية والهندية راهنا وربما مستقبلا لما تفعلانه في اقتصاديات العالم، ورهانه العلمي والتكنولوجي الذي ما فتئ يتطور، ويحقق ما لم يكن واردا في الحساب المباشر، ولا منتظرا بهذا الإيقاع المتسارع، ولا متحصلا معرفيا في المدى المنظور.

وبناءً عليه، بناءً على إهمالنا ولاَمُبالاتنا بالغِنى اللغوي، والثراء اللّساني والمعرفي، سواء عندنا أو عند غيرنا، فإن إبداعنا ـ إذا اقتصرنا عليه في هذه السطور ـ يعاني فقرا معرفيا وجماليا، يعاني نقصا وضعفا في بنيته العامة، قد لا يظهر للقارئ المتعجل، ولكنه يظهر للمتمحص المتفحص، السابر، النباش، والغواص.

ومرد ذلك إلى اعتمادنا في مقروئنا المرجعي، ومطالعاتنا المصدرية، على مدونة إبداعية وثقافية واحدية اللغة، وفي أحسن الأحوال مزدوجة اللغة لا يتعدى فيها الازدواج، منسوب اطلاع سريع، أو مراجعة متن شعري مختلف اللغة ـ ولتكن الفرنسية ـ بشكل تأْتاء، متلعثم ومعطوب.

أما إذا سألتني، وسألت شاعرا يكتب بالعربية الفصحى، أو باللغة العامية (الزجل)، عن مستواه المعرفي ومدى اطلاعه على الشعر الأمازيغي المغربي ـ مثلا ـ فلن نحير جوابا. ستعقد ألسنتنا المفاجاة، أو سنهز الأكتاف، ونجيب بالهمهمة والإرجاف.

ومعنى ذلك، أنه يتوجب علينا أن نقرأ بعضنا بعضا، ونتعرف لغاتنا وألسنتنا التي لا نَعْيا من الثرثرة ـ دونما خجل ـ أنها أسنا الهوياتي، وبناؤنا الثقافي، وروحنا الإبداعي، وكينونتنا الوجودية.

الشعر كغيره من أشكال وأنماط التعابير الفنية والجمالية الأخرى، يقرأ في لغته وبلغته. فعبقريته وجماله، وجودته وروعته، وعمقه، وتاريخه، يكمن في لغته التي تختزن خبرات وتجارب، وتاريخية قرون مديدات متجذرات في اللاوعي، وفي الوعي الإنساني الأمازيغي، وفي أنثروبولوجياه، أي في الزرابي المبثوثة الملونة التي تخطف الأبصار، والرقصات البديعة التي تُرَقِّصُ القلب والجسد، والصيحات الجبلية الأطلسية والريفية الحادة والحارقة التي تجفجف الأشجار، والشعر المغنى والمكتوب المُوَقَّع بأدوات وآلات موسيقية مخصوصة أبدعتها عبقرية إنسان عاشر الطبيعة، وانسكن بها حتى انصهرا فتلألأت معاني ودلالات وموسيقى في ما أبدع، وأنتج.

ومثل هذا يقال عن الشعر المغربي الصحراوي الحساني، والشعر المكتوب بالفرنسية، وبالإسبانية، وبالإنكليزية.

فهل نحن ـ معشر الشعراء العروبيين ـ نقرأ، وإن في المناسبات، مصطفى النيسابوري، وعبد اللطيف اللعبي، ومحمد الواكيرة، والطاهر بنجلون، ومحمد خير الدين، ومحمد حمودان، والشعراء المغاربة الفرنكفونيين الجدد، لنقف على ما يكتبونه، ويجترحونه من لغة شعرية منطبعة بميسم مغربي، مشربة بالثقافة «المحلية»، ومزدانة بريش وعش الواقع المغربي، وملونة بمشاعر وأحاسيس الإنسان المغربي، وناطقة ـ مجازيا واستعاريا ـ باعتمالات ووقائع وأحداث، وتحولات ذاك الواقع المصبوب في اللغة؟

أظن أن الجواب مقرر معلوم. وقس هذا وذاك على جهلنا بما يُكْتَبُ مغربيا من شعر إسبانوفوني، وأنكلوفوني. وبالإمكان عكس المسألة بصيغة موازية ومقلوبة، فنقول: وهل الشعراء الأمازيغ والفرنكفونيون، والأنكلوفونيون والإسبانوفيون ـ على قلتهم ـ يقرأون الشعر المغربي الحديث والمعاصر، ويتابعون فتوحاته، أو مُراوحاته، أو نكساته؟

صحيح أن الشعراء المغاربة لا يشكلون مجموعة متناغمة مُصْمَتَة ومتكاملة ذات مواقف موحدة متقاطعة ومشتركة. فهم أنواع وأصناف بتعدد واختلاف مصادر معارفهم وثقافتهم، وقراءاتهم، ومرجعياتهم، وأذواقهم، واختياراتهم. ولكن أغلبهم ـ فيما يتصل بما أسلفنا في صدر الكلام ـ يتناغمون ويلتقون في عيب ومَثْلَبَة الابتعاد، والإهمال، واللامبالاة بذلك الشعر المغربي الرافد والمختلف، لا عن احتقار أو عن موقف نقدي استباقي عارف وعالم، وإنما عن كسل وخمول وتقاعس، وفتور هِمَّة.

وإذا كان التقارب النسبي محسوسا وملموسا بين الشعر المغربي في تعبيره الفصيح، والشعر المغربي في تعبيره العامي الدارج المصقول والماتع، فإن التباعد والتنائي هو قدر الشعر الآخر، الشعر المغربي المكتوب باللغة الأمازيغية، والحسانية، والفرنسية، والإسبانية، والإنكليزية، و«الإفريقية»، والعبرية، لأسباب ذاتية وموضوعية أخرى لا مجال للخوض فيها ضمن هذه السطور التي عَوَّلَتْ على الإشارة والوجازة.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى