أعمال المفكر وحياته
منذ ظهور المدّ البنيوي، وسيادة “النزعة النصّية” التي كانت ترفع شعار: “النصّ ولا شيء غير النصّ”، لم يعد الاهتمام يولَى لحياة المفكر لفهم أعماله و”تفسيرها”.
في هذا الإطار، غدت عبارة هايدغر “أرسطو، فيلسوف ولد ومات”، شعاراً في تأريخ الفلسفة، وتعبيراً عن اتجاه في ذلك التأريخ يقتصر على الاهتمام بالنص من غير محاولة لإلقاء الأضواء عليه باللجوء إلى حياة المفكر والاسترشاد بوقائعها.
والظاهر أننا، حتى إن سلمنا بأن عبارة هايدغر هاته، قد تصدق على أرسطو، فإننا سنجد صعوبة كبرى في تطبيقها على مفكرين آخرين، أمثال نيتشه وكييركغارد وروسو، بل إننا لا نستطيع أن نتبناها حتى فيما يخص هايدغر ذاته.
فمن المعروف أن جلّ الدّارسين ما فتئوا يولون عنايتهم لحياة المفكر الألماني، ويطرحون الأسئلة تلو الأخرى عن علاقته بالنازية، ويتوقفون بشيء من التطويل عند خطابه بمناسبة تنصيبه للعمادة.
ولعل هذا يصدق على كثير من المفكرين، فهل يمكننا أن نتحدث عن غارودي ولوفيفر وسارتر وميرلوبونتي من غير أن نأخذ بعين الاعتبار علاقتهم بالحزب الشيوعي؟ وهل يمكننا أن نتحدث عن المدرسة النقدية الجديدة في ألمانيا من غير أن نأخذ بعين الاعتبار الفترة الزمنية التي ظهرت فيها؟ وهل بالإمكان التعرض لشيوخ الفلاسفة الألمان دون ربطهم بأحداث الثورة الفرنسية؟
قبل محاولة الجواب عن هذه الأسئلة، لا بد أن نميّز بين وجوه عدة لربط حياة المفكر بأعماله: فقد يقتصر الأمر على ذكر وقائع حياته.
لكننا قد نذهب أبعد من ذلك، فنتساءل عما ترتب عن فكره من نظام عيش، فنحاول الوقوف عند وقع هذا على ذاك. إلا أننا قد نذهب أبعد من هذا وذاك، فنسعى لمتابعة تداخل الحياة مع الإنتاج.
هذا المسعى الأخير هو ما يفرضه علينا فكر نيتشه على سبيل المثال، حيث نتبين أن المفكر ذاته لا يعمل في النهاية إلا على رفع وقائع حياته إلى مستوى المفهوم.
وهكذا نلفي أنفسنا، ونحن نعرض لفكره، نتعرف في الوقت ذاته على دقائق حياته، ونتابع تقلبات إحساساته ومشاعره، والعلائق الحميمية التي شدَّته إلى أصدقائه وأقاربه، وما عرفته تلك العلائق من توتر ومدّ وجزر.
وعلى الرغم من ذلك، فربما لا يكون الأمر متيسراً عندما تكون حياة المفكر من الرتابة ومن “الحياد”، حيث لا نرى لها أثراً مباشراً على أعماله.
لعل ذلك هو ما طبع الفلسفة عندما غدا الفيلسوف أستاذاً جامعياً، مثلما تكرّس الأمر في التقليد الألماني، ثم الفرنسي فيما بعد. هاهنا ربما تغدو عبارة هايدغر “ولد ومات” مفتاحاً كافياً لدراسة فكر أي مفكر من هذا القبيل.
فقليلون هم من يولون حياة كانط أهمية كبرى عندما يتحدثون عن فلسفته، وغالباً ما يقتصرون على بعض الخصائص العامة التي ميزتها، ككونه لم يغادر مدينة كونيسبرغ إلا يوم الثورة الفرنسية ليتسقط أخبارها، وكونه أخضع حياته لنظام صارم جعلت جيران سكناه يدققون ساعاتهم وقت خروجه لجولاته المشهورة.
ربما يصحّ الحديث عن تعميم هذا على معظم الفلاسفة – الأساتذة كهيجل، وه. ديلبوس وجان فال وغولدشميت وب. ريكور وف. آلكيي..
وعلى الرغم من ذلك، فإن تشعب حياة القرن الماضي، وتشابك المنظومة التعليمية مع، بل تورطها في القضايا الإجتماعية والسياسية والنقابية، وحتى الاقتصادية، كل هذا جعل الفيلسوف – الأستاذ يجد نفسه منخرطاً في قضايا تتجاوز حياته الجامعية، وأنه لا بد أن يعمل ويفكر و”يتفلسف” خارج أسوار الجامعة، وبعيداً عن الدّرس الأكاديمي.
هنا برز بُعد جديد صار من اللازم أخذه بعين الاعتبار عند دراسة فكر المفكر، وهو لا يتعلق هذه المرة ببُعد حياته الشخصية، وإنما ببعد حياته – مع.
هنا أصبحت القضايا الفكرية ترتبط، إن مباشرة أو بشكل غير مباشر، بحياة المفكر داخل المدينة، فوجد المفكّر نفسه معنياً بقضايا السياسة بأوسع معنى للكلمة، لا سياسة الفلسفة وسياسة المعرفة فحسب، وإنما سياسة المدينة، وسياسة البشر بصفة عامة.
لم يعد بإمكاننا، والحالة هذه، أن نكتفي بالقول، تمهيداً لدراسة فكر مفكر معين، “إنه ولد ومات”، وإنما سرعان ما نلفي أنفسنا نتحدث عن “مواقفه” و”الأوضاع” التي اتخذها إزاء قضايا تعطي حياته بعداً يتجاوزها كحياة شخصية، لتقذف به داخل “التاريخ”.
على هذا النحو لا يكفينا مثلا ونحن ندرس مفكراً مثل ميرلوبونتي، أن نتغافل عن علاقته بالحزب الشيوعي، وتقرّبه منه أو ابتعاده عنه.
والأمر أشدّ وضوحاً فيما يتعلق بسارتر، الذي امتدت حياته لترتبط بحرب الجزائر، بل بحرب فيتنام وقضايا القرن السابق بصفة أعم. والأمر يصدق أيضاً على المحدثين من المفكرين الذين ارتبط فكرهم بـ”أحداث 68″….
لم تعد الحياة المعاصرة إذاً تفهم من “حياة” المفكر وقائع ارتبطت بما هو شخصيّ، وإنما صارت الكلمة تؤخذ في معناها الواسع الذي لا يرى فرقا بين الخصوصي والعمومي، بين الذاتي والموضوعي، وبين الفردي والتاريخي.
عبد السلام بنعبد العالي: كاتب ومفكر مغربي حاصل على الدكتوراه في الفلسفة، وهو أستاذ جامعي بجامعة محمد الخامس بالرباط، له كثير من المقالات والدراسات العلمية، وقد نشرت له مجموعة من الكتب من بينها: (الفلسفة السياسية عند الفارابي).
(الميتافيزيقا، العلم والأيديولوجيا) (أسس الفكر الفلسفي المعاصر) (ثقافة العين و ثقافة الأذن). (ميتولوجيا الواقع). (الفكر في عصر التقنية) (بين الاتصال والانفصال). (منطق الخلل).