سرديات

القصة القصيرة .. المفهـوم والخصائـص

 

تُمثل القصة القصيرة في عالم الأدب اليوم، ما يُشبه صناعة رمزية خفيفة، فهي بمعية أجناس تعبيرية أخرى، ركن أساسيٌّ من أركان المتخيل الجمعي، إنها  لون من ألوان الأدب الحديث؛ الذي نشأ في أواخر القرن 19. ويعزى السبق في مقاربتها للنُّقاد الرومانسيين الألمان وذلك عندما أعلن “غوته Goethe” بأنها “حدث خارق”، إلا أن اتساع مجال هذا التعريف جرَّ عليها متاعب كثيرة، نظرا لتلبسها بالأنواع الأدبية الأخرى وافتقارها لقانون مُحدِّدٍ لنوعها. فهي كجنس أدبيٍّ لم تخضع لتعريف دقيق ومحدد، بل روجت لها القواميس مجموعةً من التعاريف المتباينة التي تجعل منها تارة نوعا تابعا للحكاية والرواية، وتارة مفارقا لها. يقول “جاك بوني”؛ “إنه لأمر بالغ الدلالة أن نصادف من خلال تسعة معاجم تم فحصُها في القرن التاسع عشر، أربعة منها تستعمل كلمة (حكاية) لتعريف القصة، وخمسة منها تُشدد على عبارة (رواية)، فيما واحد منها يجمع بين العبارتيْن معا”.[1]

 وقد كان من نتائج وضعية هذا الالتباس؛ أن ظل النقاد متهيبين ردحا من الزمن من الحسم في طبيعة هذا القادم الجديد، وإن كان غالبيتُهم يرونَ أنها “ذلك النص الأدبي النثري الذي يتناول بالسرد حدثا وقع أو يمكن أن يقع، أو هي حكاية خيالية لها معنى، ممتعةٌ بحيث تجذب انتباه القارئ، وعميقة بحيث تعبِّر عن الطبيعة البشرية”، إلا أن هذه الوضعية الغامضة التي بدت ملازمة للقصة القصيرة؛ لم تفل عزيمتها في تعزيز موقعها بين الأجناس الأدبية الأخرى، فسرعان ما راحت تبحث لنفسها عن إضافات نوعية تُميِّزُها وتُحدد خصوصيتَها حتى صارت أحسن الأشكال الفنية.

يقول عنها “خوليو كورتزار”؛ “توحي إليَّ القصة بفكرة الكرة الدائرية، هذا الشكل الكامل حيث لا يُمكن لأي نقطة أن تخرج عن المساحة العامة، بينما أرى أن الرواية تُشكل نظاما مفتوحا يَفسح المجال للتفرع  في ميادين مختلفة”.[2]

وليست مصادفة أن تفرضَ القصة نفسها كشكل تعبيري مُغر، استحوذ على اهتمام العديد من الكتاب، ولعل ذلك يرجع إلى قدرتها على التعبير بشكل مركز ودال على قلق عصرها وتوتره؛ وقد ساهم ارتباطها بالحركات الاجتماعية في انتشار صيتها عبر بقاع العالم في كل من أمريكا وروسيا وفرنسا، مما أدى إلى  إرساء أسسها الفنية الأولى على يد كل من “إدجار الان بو” الأمريكي و”أنطون تشيكوف” الروسي و”جي دي موباسان” الفرنسي، حيث لم تعد القصة بفضلهم، مجرد حكاية عادية للتسلية وتزجية الوقت، بل أصبحت جنسا أدبيا له شرعيتُه وطقوسُه ومغزاه.[3]

وفي نفس السياق نعثر على مقارنة طريفة بينها وبين الرواية عند “جول جانين” (Jules Janin)، إذ يعتبر سحرها ليس من قبيل الرواية، فالقصة القصيرة كما يقول؛ “هي سباق المنعرجات، فنحن ننطلق بالركض غير عابئين بالحواجز، حيث نعبر الأدغال الشائكة ونقتحم الخنادق، فنهدم الحائط منتهين بتكسير ضلوعنا، فنحن عموما ننساق مع الحكاية حيثما كانت”[4]. ولعل التعليل الحقيقي لهذا الإطراء الذي جاء به “جول جانين” ينتهي إلى كون القصة القصيرة تستغور الخبايا من موقع العين الراصدة، وبالتالي فهي في إلمام سريع واشتمالي تنجح في التقاط كل جزئية ولو دَقَّتْ تفاصيلُها، عكس ما هو سائد في الرواية التي تلجأ إلى تصريف العموميات.

وهذا ما صرح به “سترونج ((L.A.G. Strong” عندما أعلن أن “القصة القصيرة تعطينا فقط قطعة أساسية من الفسيفساء، نرى من خلالها الزخرف كاملا، لو كنا على قدر كاف من الإدراك[5]، وعزَّزه “أحمد المديني” في  طرحه قائلا؛ “إن القصة القصيرة تتناول قطاعا عرضيا من الحياة تحاول إضاءة جوانبه أو تعالج لحظة أو موقفا تستشف أغوارها، تاركة أثرا واحدا وانطباعا محددا في نفس القارئ[6].

و بهذا، فالقصة القصيرة  لا تحتمل أكثر من حدث، وربما تكتفي بتصوير لحظة شعورية واحدة نتجت من حدث بالفعل، أو متوقع الحدوث. ويمكن أن تعبر عنه في أقل عدد  من الكلمات.

وتؤشر هذه المنظومة من التعريفات الغاية في التنوع والاختلاف على الطابع المفارق للقصة القصيرة وأهدافها المعلنة، وأيا يكن حجم الفائدة التي يمكن استخلاصها من هذه التعاريف، فإنه من الثابت تاريخيا أن النقد عمد إلى تخصيص مكانة خاصة بالقصة القصيرة وجعلها محل حُضوة استثنائية، وإن السجال القائم حول شكل القصة وخصائصها النوعية، والذي توبع بفضول على امتداد القرن 19 ما كان لينتهي إلى ما انتهى إليه؛ لو لم تعش القصة القصيرة على التقلب والتغير المستمرين. فهي لم تنتظم في دائرة تقعيدات أرسطو، و لم تستجب لتصنيفات المنظرين وافتراضاتهم الجاهزة بل راهنت على مبدأ التحول والتجدد المستمرين كصفة ملازمة لها، وعلامة دالة على تفردها وتميزها؛ فاستطاعت بذلك أن تبني صرحا خاصا بها له مميزاته وخصائصه. و من تم استحقت أن تكون أنسب وسيلة تعبيرية لعصرنا في ثوابته ومتغيراته؛ قد استجابت لعوامل التطور ومقتضيات العصر، واستطاعت أن تغوص في بواطن الذات المتشظية، وأن تراكم قتامة صورة المجتمعات الحديثة عبر تشخيص الرؤى المشروخة.

  • الخصائص النوعية للقصة القصيرة

لقد تعاقبت على القصة القصيرة طول مسيرتها مجموعة من المفاهيم، واستطاعت بذلك أن تكون مرصدا لتعدد الأسماء وتلويناتها،  مما يعكس الاهتمام المتزايد الذي حظيت به من طرف النقاد، الشيء الذي عزز  مكانتها وحافظ على شعبيتها، وقد عبر الناقد “إيتمبلEtiemble” عن حيرته أمام هذا التعدد الاسمي قائلا :[7] ”إن أسماء القصة القصيرة وفيرةٌ كوَفرَةِ أسماء الله، وإن اسمها الحقيقي يبقى أيضا سرا من الأسرار فهي« Monogatari / Short Story / Histoire / novela / Tole novela / novelette ». 

ونفس الشيء نجده في الثقافة العربية حيث استُعمِل المصطلح تحت ترجمات عديدة، وهذا ما أشار إليه الناقد  “صبري حافظ” قائلا: “نجد أن النقد العربي لم يستقر على مصطلح ثابث لهذا الفن القصصي .. فهو يتذبذب بين مصطلحي الأقصوصة والقصة القصيرة ..” [8]؛ إلا أن هذا الاختلاف في التسمية لم يمنع من اتحاد الآراء حول الخصائص النوعية التي تميزها عن غيرها من الأجناس الأدبية، فالقصة القصيرة تتطلب قدرا كبيرا من التكثيف، الذي يعتبر مقياسا نوعيا وأداة مفهومية لاغنى عنها في تحقيق مقروئيتها، وهو المبدأ الذي دعت إليه الناقدة “فونيي” (Antonia Fonyi) تقول: “هناك في القصة مبدأ التركيز (concentration)، وتحبيك (recensement) جميع خيوط المحكي في عنصر مركزي، أو في لحظة ذات امتيازها (….)، ومع ذلك فالفائدة الجمالية لهذا الجنس، تكمن بالضبط في ليونتها وفي نفس الوقت في تماسكها، وتوتُّرُها التي تكفُلُه لها كثافتُها”[9]، إضافة إلى مبدأ القصر الذي اعتمد كمقياس لها، فالقصة القصيرة هي قصة نثرية تقرأ فيما بين نصف ساعة وساعة أو ساعتين[10] كما عرفها “إدجار ألان بو”، إلا أن هذا المعيار يبقى قاصرا على تحديد كنه القصة وتمييزها كما أشار إلى ذلك العديد من النقاد. لذلك سعى  “إدجار ألان بو”  السيد الأول للقصة القصيرة الحديثة كما تلقبه بذلك دائرة المعارف البريطانية إلى تحديد  شرطين فنيين  أساسين مميزين لا غنى لهذا الجنس الأدبي عنهما لخَّصهما في:

  • وحدة الانطباع أو الأثر
  • ووحدة البناء.

وتقتضي هذه الوحدة المركبة فيما يرى؛ ألا تكون في العمل كله كلمة واحدة لا تخضع، مباشرة أو بطريق غير مباشر، للتصميم  الواحد الذي تبنى عليه، والذي غالبا ما يقع التركيز فيه على الوحدات الوحدات البديلة المستنبطة من نظرية “بو” في القصة القصيرة وهي:

  1. وحدة الدافع أو التجربة
  2. وحدة التأليف أو البنية
  3. وحدة الأثر أو النتيجة.

 هذه الوحدة الثلاثية والاندماجية؛ هي التي تكون  العمود الفقري للقصة القصيرة وهي التي تصنع حبكتها وإيقاعاتها.[11]

إن أهم مقوم من مقومات القصة هو الاقتصاد والتركيز، سواء على مستوى الفضاء اللغوي من سرد ووصف وحوار، أو على مستوى الفضاء الدرامي من حركة وأحداث و أشخاص، أو على المستوى الفضاء الزمكاني، أو على مستوى الفضاء الدلالي.. فالذي يعني القصة القصيرة بالدرجة الأولى، هو اعتقال اللحظة القصصية الهاربة وإضاءتها ميكروسكوبيا، تاركة للرواية مهمة التوسعة، فللتركيز فائدة كبيرة في تماسك مبدأ الحكي، ولا يسمح بأي حال من الأحوال بالاستطراد أو التراخي.

أما روح القصة فيتمثل في ذلك الإحساس المرهف بمفارقات الحياة وألغازها، واختزالها الصامت للعالم الكبير دون أن يظهر على وجهها على شكل تجاعيد، فقد نجحت في تشخيص الرؤى المشروخة ومراكمة قتامة صورة المجتمعات الحديثة واستغوار الذات الباحثة عن القيم البديلة. ونجد الكاتب “أحمد بوزفور” في كتابه “الزرافة المشتعلة” يقول عنها في ص 12 :

صغيرة في الحجم فتراها من الخارج فتعتبرها مجرد قصة وقصيرة فوق ذلك: كبيرة من الداخل، بأحلامها وطموحاتها…”.

القصة بيت من لا بيت له، أسرة من لا أسرة له، صوت من لا صوت له.

القصة تقول بصوتها الخافت: أنتم يا من لا تجدون مكانا لكم في هذا العالم، أيها المطرودون والمهمشون، والمضطهدون، ادخلوا ملكوتي.

الكبير فيها يصغر والصغير يكبر … فالقصة هي طفلة خالدة، لا تكبر أبدا ولا تموت[12]

 ولعل الاتفاق المبدئي حول هذا المبدأ هو ما دفع بـ “عبد الله العروي” في ملاحظات هامة ضمنها الفصل الأخير من كتابه الإيديولوجية العربية المعاصرة حين اعتبرَ: “الأقصوصة هي الشكل الأدبي المطابق لمجتمعنا المشتت الذي هو دون وعي جماعي ..”[13] 

فالقصة القصيرة استمدت مشروعيتها من الإفلاسات المتلاحقة، وازدادت أهميتها مع ازدياد الأزمة لعصر لم يشهد في تاريخه مرحلة كالمرحلة الراهنة، فالقرن العشرون بعقوده الأخيرة استحق ويستحق أن يكون بلا منازع زمنا  لها.

فهي لم تكن بوقا لأي نظام ولم تؤجر ضميرها لمن يملك السلطة أو الثروة، بل انخرطت في تشخيص التحولات المتلاحقة لإيقاع عصر يتدثر بالشكوك والفوضى، محتفية في ذلك بتناسل الموضوعات وتشابكها وانفتاحها على الممكن والمستحيل، فكان التماهي بين الداخل والخارج والذات والموضوع.

  • خلاصة

لعل “القِصَر” كان من بين أهم العوامل التي جعلت الصحافة تفتح ذراعيها لاستقبال القصة القصيرة، والمساهمة في انتشارها إلى حد كبير، حتى صار لها موطئ قدم في مملكة الإبداع السردي الأدبي، فقصر النص هذا كان يتيح له الفرصة في النشر والمقروئية، وذلك لكون متعة القراءة تكون مكتملة غير “ممططة” على حلقات. فهي بمنطلقاتها الفكرية، وضرورتها الأدبية، مارست سحرا قويا استقطب على مدى قرن كامل خيرة المنظرين والمفكرين الغربيين والمبدعين مجسدة أزمنة روحية عميقة تمس كل نواحي الحياة في أعمال كل من: “غوركي” (Gorki) و”بابل” (Babel) و “توماس” (Thomas Mann) و”كافكا” (Kafka) و”فولكنر” (Faulkner) و”كامو”(Camms)  و”بورخيس” (Borges)… وغيرهم من الأقلام العربية المشهود لها ببراعتها في الرواية كنجيب محفوظ ، ويوسف إدريس، وإدوارد الخراط وجمال الغيطاني واحمد المديني واحمد بوزفور ،وإدريس الخوري ومحمد زفزاف … وغيرهم من الأسماء اللامعة التي استقطبها هذا الوافد اللامع. وليس هناك أصدق من الاعتراف بوفرة الإنتاج القصصي كدليل على شيوع هذا الفن .يقول “محمد برادة”؛”إن القصة غدت ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا من صراع وحيرة وتمزق وتعدد في الرؤية وطموح ..”[14]

وعموما؛ فقد نجحت القصة القصيرة  في مراكمة قتامة صور المجتمعات الحديثة عبر تشخيص الرؤى المشروخة، واستغوار الذات الباحثة عن القيم والأنساق البديلة فالقصة ذاكرة تجوب العصر متسقطة جيلا بلا ذاكرة. وهي على هذا الأساس تجازف إلى تخليق وعي قرائي من خلال ارتيادها لمناطق الظل في الكينونة، مستوعبة التناقضات والتداخلات والتعارضات وتعدد الاحتمالات والنوايا المضمرة والمعلنة والمونولوجات والأحلام والتأملات.[15]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] -Jacques Bony, Le récit nevralien, une recherche des formes ; ed. Jose Corti, 1990, p.84.

[2] -بعض آراء خوليو كورتازار في القصة، ترجمة سعيدبنعبد الواحد، مجلة قاف صاد، عدد2،2005، ص38.

[3] -العوفي نجيب، مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية، المركز الثقافي العربي،ط 1، 1987، ص 51.

 [4] محمد الزموري،” فخاخ الحلم والمرايا ” دراسات في القصة القصيرة ،ص 19

[5] ماري لويزبراث ، “القصة القصيرة الطول والقصر”، ترجمة محمود عياد، مجلة فصول ع.4 1982 ص 51

[6] أحمد المديني ،”فن القصة القصيرة بالمغرب” ، النشأة والتطور والاتجاهات ،ص47

[7] – R.Etimble, A.Fonyi  « Nouvelle »in Encyelopoeda Universalis, Corpus13, p 163.

[8] صبري حافظ :” الخصائص النوعية للأقصوصة”، مجلة فصول، ع4 ص19

P165 [9] « Nouvelle » in Encyelopoeda Universalis   R.Etimble, A.Fonyi  .

[10] نجيب العوفي  “مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية “،  ص 51

[11] نجيب العوفي  “مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية ” ص 55

[12] أحمد بوزفور ، “الزرافة المشتعلة “، ص 12.

[13] عبد الله العروي ،(الايديولوجية العربية المعاصرة) ،ط1. 1970 ص 280

[14]– برادة محمد،كتابة الفوضى والفعل المغير، مجلة آفاق، ع12،أكتوبر 1983، ص5

 

سميرة مصلوحي

سميرة مصلوحي؛ أستاذة باحثة في اللسانيات التطبيقية، حاصلة على شهادة الدكتوراه في اللسانيات بجامعة محمد الخامس الرباط. نَشرت العديد من الأوراق العلمية في مجلاَّت عِلمية مُحكمة، كما تَنشُر باستمرار في عددٍ من المواقع العربية الإلكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى