يهود مصر في القرن العشرين .. كيف عاشوا ولماذا خرجوا ؟
“مصر جميلة، وقد أفسدت إسرائيل كل شيء”. العبارة على لسان جاك حسون، المصري اليهودي الودود الذي قابله إبراهيم أصلان على طاولة طعام في محفل ثقافي فرنسي بإحدى سنوات التسعينيات.
قال له الرجل إن أصوله تعود لقرية مصرية اسمها “خلوة الغلبان”. واستساغ إبراهيم أصلان اسم القرية، وقرر أن يكون اسمها عنوانًا لكتاب يؤلفه مستقبلًا وإن لم يكن قد عرف بعد عن أي فكرة سيدور الكتاب. بعد سنوات أصدر أصلان كتابه “خلوة الغلبان” ليضم عددًا من الحكايات الواقعية بتقنية سرد قصصي، وكان من بينها حكاية لقائه بجاك حسون، ملهم عنوان الكتاب.
لم تتجاوز حكاية أصلان عن حسون سطورًا قليلة، التقط فيها شيئًا من مشاعر تأثرت بلحظة فرح الرجل بلقاء مصريين ومحاولة الاحتفاء بهم ما لم تسمح به ظروف برنامج رحلتهم، مرورًا بارتباك الكاتب لمعرفة أن الرجل يهودي الديانة، انتهاء باقتراب عودته إلى فرنسا بعد سنوات وعزمه على الاتصال بحسون للقائه وتعويضه بمساحة أكبر من الوقت جبرًا لخاطره، قبل أن يقرأ خبر نعيه في مجلة “الوسط”، فيما لم تقدم حكاية أصلان عن حسون معلومات تتجاوز سطورًا قليلة جاءت في النعي.
استعدت حكاية “خلوة الغلبان” بينما أقرأ فيضًا من سيرة جاك حسون في كتاب الدكتور محمد أبو الغار الأحدث “يهود مصر في القرن العشرين.. كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟”(2021).
سنوات طويلة عاشها جاك حسون بعد هجرته إلى فرنسا يتوق إلى زيارة مصر، الأمر الذي بات مستحيلًا على أي يهودي مصري في الخارج، خصوصًا بعد العدوان الثلاثي عام 1956، إلى أن تم توقيع معاهدة السلام وبات الأمر سهلًا! وجاء حسون إلى مصر عددًا من المرات قائدًا مجموعات من اليهود يأتون للتعرف على ماضيهم وثقافتهم.
أخذ خلال إحدى زياراته حفنة من تراب مصر ونثره على قبر والدته في فرنسا، بعدما كان فشل في الفعل نفسه مع والده الذي رحل قبل أن يتمكن حسون من المجيء إلى مصر. كانت زياراته المتكررة رغبة في حفظ التراث اليهودي المصري “حتى لا ينسى أحد آباءه وأجداده”. وألف كتابًا عنوانه “تاريخ يهود النيل”، ترجمه يوسف درويش وصدر عن دار الشروق، يتعرض له أبو الغار باستفاضة ويشتبك معه بالتعليق والربط بينه وبين كتب آخرين.
وبينما تبدو عبارة حسون لأصلان، متهمًا إسرائيل بإفساد كل شيء، عبارة عامة وبديهية وعابرة، ربما تكون، عمليًا، أبلغ ما قيل في وصف واقع جدلية العلاقة بين اليهود المصريين، سواء في الداخل أو الخارج، وبين مصر، ذلك أن هذه العلاقة المرتبكة لم تكن كذلك قبل إقامة إسرائيل، بل كانت على النقيض بشكل لافت ومثير للتأمل.
وفي فصل خصصه أبو الغار لعلاقة اليهود المصريين بالثقافة، يحكي أن أبا إيبان، أول وزير خارجية إسرائيلي، والمولود في جنوب أفريقيا ودرس في إنكلترا، كان قد جاء إلى القاهرة وشارك في الحياة الثقافية في مصر، وكانت أكبر متعه حضور لقاءات المثقفين المصريين، وفق ما يقول في مذكراته، وهو ما ينقله عنه أبو الغار.
وقصة وزير الخارجية الإسرائيلي ليست الإشارة الوحيدة إلى عادية العلاقة بين الطرفين في زمن سابق، حيث “قدم العقاد ماكس نوردو، المفكر الصهيوني، إلى القارئ المصري، ورثاه بعد موته، وكان العقاد واعيًا بصهيونية نوردو، لكن ذلك لم يشكل له مشكلة قط”!. ويخلص أبو الغار إلى أن “الشعب والحكومة والمثقفين المصريين لم يظهروا أي عداء لليهود حتى قيام دولة إسرائيل أو قبل قيامها ببضع سنوات على أقصى تقدير”.
كتاب “يهود مصر في القرن العشرين”، هو الإصدار الثاني لأبو الغار في هذا الشأن، حيث تناوله في كتاب صدر عام 2004 بعنوان “يهود مصر من الازدهار إلى الشتات”، انطلق من بعض فصوله إلى الكتاب الجديد لتوسيعها مع إضافة مناطق جديدة. وكانت الفكرة قد بدأت في منتصف التسعينيات بعدما نشر أبو الغار بعض الكتابات عن الأرمن وحياتهم، قبل أن يتلقى نصيحة بتناول تاريخ اليهود المصريين، وبالفعل أصدر الكتاب الأول عن دار الهلال.
وهو يقول: “خلال هذه الفترة الطويلة بعد نشر الكتاب، صدر عدد كبير من الكتب عن يهود مصر في دور النشر العالمية، استطعت الحصول عليها جميعًا، وحصلت أيضًا على بعض المراجع القديمة التي لم تكن متوفرة لي أثناء الكتابة للمؤلف الأول.
وكانت رسالة الدكتوراه للباحث جويل بنين من جامعة بركلي وجدرون كرامر من جامعة برلين من أهم المراجع التي اعتمدت عليها، وكذلك كتاب شمعون شامير، السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة، بالإضافة إلى أكثر من خمسين كتابًا استطعت الحصول عليها وجميعها مدرج في مراجع هذا الكتاب. أما بقية المراجع الإنكليزية المهمة فقد بحثت عنها في المكتبات التي تبيع الكتب المستعملة في نيويورك، وحصلت على الكتب الفرنسية من مجموعة اليهود الشيوعيين المصريين في باريس”.
هكذا يأتي الكتاب الجديد، شأن المراجع الكبيرة فيما يتناوله، شبيهًا ببانوراما شديدة الاتساع، ويحيل القارئ إلى عدد مهول من الكتب والمراجع العربية والأجنبية التي تناولت تاريخ اليهود المصريين من زوايا نظر مختلفة، أشار أبو الغار إليها، ووضع في كتابه عددًا كبيرًا من الملخصات لهذه الكتب والمراجع،
فضلًا عن ضم الكتاب لمجموعة من الحوارات التي أجراها الكاتب مع بعض اليهود المصريين المقيمين في جنيف وباريس وفلوريدا، ناهيك عن حوار أجراه مع السيدة ماجدة هارون، رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، وطرح عليهم جميعًا الأسئلة نفسها، ودوّن إجاباتهم في أحد أهم فصول الكتاب.
يقع كتاب “يهود مصر في القرن العشرين” فيما يقترب من الخمسمئة صفحة، ليشمل كل الزوايا التي تخص تاريخ اليهود المصريين بطوائفهم الدينية والجغرافية وعلاقتهم بالتعليم والاقتصاد والثقافة، بداية من مصر القديمة ومرورًا بعصر محمد علي، ثم تطور مذاهبهم في العصر الحديث والصراعات الداخلية بين الطوائف اليهودية المصرية، مع تناول واسع للأماكن التي اشتهرت بتواجدهم، مثل حارة اليهود التي يعرفنا الكتاب بأنها لم تكن حارة بالمعنى الحرفي.
بل كانت كلمة “حارة” تطلق مجازًا على حي كامل بشوارع رئيسية ومتفرعة سكنها اليهود، مرورًا على يهود الإسكندرية والأقاليم، وتفنيد لطبقاتهم الاجتماعية وعلاقاتها بأماكن السكن، ودورهم في الاقتصاد الوطني منذ بداية نشاطهم الاقتصادي إلى تأسيس عدد من الشركات الكبيرة في مجال التأمين والنقل والتجارة، والإدارة اليهودية لعدد من المشروعات الكبرى، وتطور قوانين الجنسية المصرية بالنسبة لليهود وعلاقة ذلك بقوانين العمل.
هنا، أيضًا، عرض شامل لأهم المشاكل السياسية التي أدت إلى الخروج النهائي لليهود من مصر، بداية من الصراع الألماني اليهودي في مصر بعد صعود النازية، وصعود الإخوان المسلمين الذين توجهوا بعنف بالغ تجاه اليهود، ثم أثر قيام دولة إسرائيل، وما حدث لهم في الخمسينيات والستينيات.
وخصص أبو الغار فصلًا للإشارة إلى مجموعة منتقاة من المذكرات التي كتبها يهود عن تاريخهم في مصر وكيف هاجروا، مثل “الرجل ذو البذلة البيضاء الشركسكين” و”أرض مثلك” و”الخروج من مصر” و”عندما كنا عربًا” وغيرها، وصولًا إلى حكايات اليهود المصريين داخل إسرائيل وحياتهم هناك بعد حرب 73 ثم بعد معاهدة السلام،
فيما أفرد الكاتب مساحة للآثار اليهودية في مصر وأهميتها وضرورة حمايتها، وهي من المسائل التي لا يتوقف الجدل حولها، ذلك أنه إذا كانت الآثار عمومًا هي أهم شاهد على عصرها، فهي في هذه الحالة تعد الشاهد الوحيد على طبيعة تواجد اليهود في مصر خلال عصور سابقة، ما قد يقبله المنفتحون والمتفهمون لطبائع الأمور ويرفضه المتشددون.
وإن كان القارئ العام سيجد هنا شيئًا كبيرًا من القراءة المسلية المحتشدة بالمعلومات والحكايات التاريخية، فأتصور أن أي قارئ متخصص أو باحث في شأن يهود مصر وتاريخهم، في الداخل والخارج، من الصعب ألا يجد ضالته في هذا الكتاب، أو أنه في أضعف الأحوال، سيجد أفضل توجيه لما يحتاجه في إشارة لمرجع هنا أو آخر هناك.
ضفة ثالثة