السرديات والإنسانيات الرقمية
لا أحد يشك في وجود طلبة شباب باحثين جيدين، سواء في مرحلة الإعداد للدكتوراه أو بعدها، في كل الوطن العربي. ولا شك أيضا في أن هناك باحثين شبابا يمارسون التدريس في كليات الآداب العربية عامة، وفي أقسام اللغة العربية وآدابها على وجه الخصوص، في مستوى يؤهلهم للإسهام في تطوير الدراسات الأدبية والسردية العربية.
وعندما نشدد في الكثير من كتاباتنا على الخلل الذي تعرفه الدراسات السردية، فإننا نلجأ إلى ذلك للوقوف على الإكراهات والعراقيل الذاتية والموضوعية، التي تحول دون ارتقاء مجالات البحث الأكاديمي والعلمي في واقعنا الثقافي، ليس فقط من أجل ترتيب الجامعات العربية في مستوى مشرف للثقافة العربية، لكن بهدف الانتقال إلى مستوى البحث الأدبي والسردي العالمي.
قد يقول قائل، إن العدد الذي تنوّه به قليل جدا بالقياس إلى الكم الهائل من طلبة شعب اللغة العربية، وفي مرحلة الدكتوراه، الذين يعانون من مشاكل لغوية بسيطة، علاوة على الضعف الشديد في القضايا المتصلة بالمناهج والنظريات، واقتراح الموضوعات، والقدرة على إنجاز رسائل أو أطاريح يتوفر فيها الحد الأدنى المقبول.
هذا أيضا صحيح جدا. ويدفعنا هذا الواقع المزري إلى التساؤل عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى تكريس هذا الوضع المأساوي؟ ألا يتحمل الأساتذة الباحثون أنفسهم بعضا من المسؤولية؟
قد يرجعها البعض إلى السياسة التربوية والأكاديمية، وإلى المؤسسات التي تعاني بدورها من النقص، سواء على مستوى التوجيه والتدبير، أو الكفاءات التي يمكن أن تنهض بالتعليم العالي إلى المستوى المطلوب؟
قد تتعدد الأسباب، لكن النتيجة واحدة: المزيد من التقهقر والتراجع الذي لا يمس فقط قطاع التعليم بمستوياته المختلفة، لكن كل القطاعات الأخرى.
هل لنا أن نتساءل مرة أخرى عن دور المثقفين؟ أم أن علينا الاكتفاء بالقول إنهم هم أيضا وليدو السياسات العربية المتعاقبة، التي لا تسهم إلا في التقليد والتراجع، وفي خلق أجيال لا هم لها ولا وعي بالمجالات التي تشتغل بها.
ولا عبرة بما يقال من الكلام المرصع في ديباجات المخططات والبرامج والمقررات، عن التجديد، ومواكبة العصر، والانخراط في المستوى العالمي؟ كيف لنا الخروج من هذه الدوامة، وتلك الحلقة المفرغة؟
إن الإنسانيات الرقمية وهي تقدم مجموعة من الخصائص التي يمكن تقديمها من خلال الدراسات الأدبية الحاسوبية، تجد في السرديات الاختصاص الأكثر تلاؤما مع المقاربة الاحترافية المدعومة بواسطة الحاسوب.
وجدتني أعيد طرح هذه الأسئلة التي طرحتها مرارا، ويشترك معي الكثيرون في طرحها، وأنا أتابع ما ينجز في مجال السرديات العالمية، وآخر كتاب اطلعت عليه يحمل عنوان: «السرديات والإنسانيات الرقمية» (2021) ضمن منشورات جامعة هامبورغ، يضم الكتاب حوالي تسع دراسات كتبت باللغتين الألمانية والإنكليزية، بالإضافة إلى مقدمة ضافية.
لم يثرني الكتاب فقط بسبب الموضوع الذي يعالجه، لكن أساسا بطبيعة الاختصاصات التي يشتغل فيها المشاركون، واللغات التي يدرِّسونها، والأجيال المختلفة.
إن الموضوع واحد، وهو ثلاثي الأبعاد كما تحدده المقدمة التي شارك فيها أربعة باحثين حددوا «أفقها المنهجي في ثلاثة عناصر: القراءة غير العقائدية، والسرديات، والإنسانيات الرقمية».
والسؤال الذي طرح على المشاركين هو: ما هو الاختصاص الذي يمكن أن يكون بمثابة الجسر بين السرديات والإنسانيات الرقمية؟
لقد تعامل كل مشارك مع هذا الموضوع وفق اختصاصه، وكانت تحكمهم جميعا قضية مركزية واحدة، تكمن في تطوير السرديات في علاقتها بالإنسانيات الرقمية، من خلال البحث عن الجسور التي يمكن إقامتها بين اختصاص محدد هو السرديات، والإنسانيات الرقمية التي هي «شبكة اختصاصات»؟
إن الإنسانيات الرقمية وهي تقدم مجموعة من الخصائص التي يمكن تقديمها من خلال الدراسات الأدبية الحاسوبية، تجد في السرديات الاختصاص الأكثر تلاؤما مع المقاربة الاحترافية المدعومة بواسطة الحاسوب، وذلك لثلاثة أسباب هي: العمل السردي النثري شبيه باللغة اليومية عكس الشعر مثلا.
وثانيا لأن السرديات قد حددت مقولاتها بدقة عكس المقاربات الأخرى. وثالثا تؤكد المقدمة أن السرديات الكلاسيكية مع الشكلانيين الروس وجيرار جنيت وتودوروف، وغيرهم من السرديين الكلاسيكيين.
اهتمت أكثر بوصف خصائص النص، ونجحت في ذلك نجاحا باهرا، يجعل إمكانية حوسبة النص تتحقق بطريقة أكثر ملاءمة من غيرها من المقاربات.
وفي ضوء هذه الأسباب يتم استنتاج أن «السرديات الحاسوبية (كما نجدها في أعمال ماني 2013) هي الأساس المشترك الذي يربط بين الإنسانيات الرقمية والسرديات».
أعود إلى طلبتنا وباحثينا من الشباب العرب المتميزين، وإلى الأساتذة الجامعيين الشباب المتحفزين للبحث والقادرين عليه، وأتساءل: ما هي السرديات التي درسوها؟ وهل فعلا درسوها؟ هل يكفي أن نعيد ما كتب من تأويلات سردية، ومن مفاهيم تتصل بالحوارية والحجاج، والتلفظ وغيرها، والتي لم نعد إلى أصولها، لنعلن تميزنا وتفوقنا.
ونحن لا نضيف شيئا سوى أننا نكتب إنشاءات بليغة، وبلغة جيدة؟ لا يمكن لهذا الطالب الشاب، ولا لهذا الأكاديمي الشاب أن يكون باحثا، وذا اختصاص محدد، وقادرا على الانفتاح على الاختصاصات الأخرى ما لم يجدد نفسه.
ويبذل مجهودا مضاعفا، ويتجاوز الأفق الذي تكوَّن في نطاقه، ويعمل على مواكبة ما يجري في مجال اختصاصه. هل فكرنا في دراسات أدبية حاسوبية؟ وما هي السرديات التي يمكننا الانطلاق منها للذهاب إلى السرديات الحاسوبية؟