سرديات

التجريب والتجربة في الإبداع الأدبي

إضاءات حول المفهوم والتوظيف

 ما الذي يجعل منِ عملٍ أدبيٍّ ما عملاً تجريبيا ؟ أو بعبارة أوضح؛ كيف يُمكننا تمييزُ التجريب عن التقليد في الإبداع الأدبي؟


الإجابة على هذا السؤال بصيغتيْه؛ كفيلة بإزالة كثير من اللُّبسِ والتداخل والغموض حول مفهوم التجريب، وإتاحة إمكانيات أكبر للتصنيف والفرز والقراءة والتقبُّل.


التجريب؛ انزياحٌ مقصودٌ يُنجزُهُ الكاتب عن وعي، ويهدف من ورائه إلى تكسير النموذج المألوف وتجريب تقنيات جديدة؛ مُبتكرة وثورية. أما التجربة؛ فحالةً تراكمية مُستمرة لمجموع الخبرات والمهارات والتجارب التي راكَمها ويُراكِمُها الكاتب أو المبدع على طول مسارِهِ الإبداعي.


يتعدى التجريبُ مفهوم المدرسة الأدبية، إلى حالة وعي مُستمر ومُتواصل. والتجريب من وِجهة نظرنا؛ تقنية في الكتاب الإبداعية؛ تهدف إلى المزج بين مُختلف الأجناس الأدبية في متنٍ واحدٍ، وفي نسجٍ غيرُ منتظم وغير منظَّم (كما قد يبدو)، مُكسِّرٌ لأفق انتظار المُتلقي، مُنزاحٌ عن الدلالة والمعنى الظاهريْن، مُحرضٌ للقارئ على التفاعل معه وبدلِ مجهودٍ مُعتَبَرٍ في استنتاج معنىً يُتوصَّل إليه عن طريق التأويل وقراءة العلامات والمؤشرات الظاهرة والثاوية في النص.


يتأسسُ التجريب في الأدب على التجربة، وتشغلُ القراءة دورَ الميزان والموجه، ونعني بالتجربة هنا؛ مُحصلة الإنتاج والقراءة معاً، في حين نقصد بالتجريب عملية الإنتاج.


تتشكل ملامح التجريب شيئا فشيئا؛ دون أن تكون له محددات نهائية، إذ يتم تقويمُه من خلال تجربة الكاتب، هذه التجربة تختلف وتتفاوت من شخص لآخر، لكنها تتفق في كون الكاتب يُزاوج بين شخصية الكاتب عندما يُمارس فعل الكتابة (الإنتاج) والناقد عندما يُمارس فعل القراءة.


فعندما يَهُمُّ الكاتب بالتحضير لإنتاجٍ جديدٍ، يتحول إنتاج التجريب (تلقائيا) إلى خانة التجربة. ليحِلَّ محلَّه إنتاجٌ جديد. وهكذا دواليه.


إن التجربة وعاءٌ أو حيّزٌ قابل للزيادة والملء والتمدد، تتجلى من خلال الإنتاج (الأدبي أو النقدي)، أما التجريب فتمثلٌ مغايرٌ للإنتاج على مستوى “طريقة التعبير وإعادة تنظيم مادة الكتابة”[1] في الإنتاج عموماً والإبداع على وجه الخصوص.


أما فيما يتعلّق بالتحليل؛ فإن التجريب فيه؛ يقوم على تطوير التصور النقدي وابتكار أدوات جديدة للتحليل وتوظيفٍ أكثرَ انضباطا للمفاهيم؛ وتجاوز النماذج والأنماط الجاهزة (السابقة).


لا يمكننا تغيير التجربة؛ وإنما إغناؤُها بتجارب أخرى جديدة. أما التجريب فيقوم أساسا على التغيير والتطوير والابتكار والخرق والانزياح والهدم وإعادة البناء ،،،

  • التجربة: ثابتة؛ قابلة للإغناء.
  • التجريب: يتجدَّد باستمرار تبعاً لِغنى التجربة التي يَستمدُّ منها مقوِّماتِه.

إذا كانت التجربة مِلكا خاصا للكاتب، يستثمرُها لإنتاج نصوص مطبوعة ومدموغة وبالتجريب والانزياح. فإن هذه النصوص مِلكٌ للقارئ، فهو الوحيد الذي يمتلك صلاحية موضَعتِها وتصنيفِها، وإن كان الكاتب يَشترك في خاصية القراءة، فإن الحُكم على نصوصِه لا بد وأن تأتي من قارئ أو مُتلقٍّ خارجي؛ ونقصد به هنا (الناقد).


  • قراءة التجـريب

يَخلقُ التجريبُ نوعاً من النخبوية، مما يَحُدُّ من التلقي بنوعيْه؛ قراءةُ التذوق وقراءةُ النقد. ومردُّ ذلك إلى كون هذه النصوص التجريبية؛ تحتاج إلى جُهد في التأويل ينضاف إلى جُهد القراءة.

فهي نصوصٌ تشاركية لا تقدم أي شيء جاهز للقارئ، باستثناء المؤشرات التي يجب على القارئ اقتفاؤُها وتوظيفُها لفهم واستيعاب النص والوقوف على مضمونِه وآفاقِه التأويلية.


هذا الجُهد المُتَطلَّبُ في قارئ النصوص التجريبية؛ لا بد له من زادٍ معقولٍ لفك رموز وطلاسم وإشارات هذه النصوص. وهنا تحضر تجربة القارئ التي راكمَها.


تُتيح تجربة القارئ إمكانية تذوق هذا النوع من النصوص، وإعمال التأويل فيها. فيما تساهم تجربة الناقد في قراءة هذه النصوص وتحليلِها.

وهنا؛ سيحتاج الناقد إلى تحقيق التجريب في وسائلِه وأدواتِه التحليلية هو الآخر. إذ لا يمكن التعاطي مع هذه النصوص بالأدوات والتقنيات والوسائل القديمة ذاتِها التي يوظفها الناقد في تحليلاته للنصوص الكلاسيكية.


ينفُرُ كثيرٌ من القراء من هذه العينة من النصوص لصعوبتِها (كما يعتقدون)، ولفقر (تجربتِهم القرائية) أو ما يسميه الدكتور سعيد يقطين بــ “الخلفية النصية[2]، لأن النصوص التجريبية؛ نصوص ذات حمولة دلالية لامتناهية. وبالتالي؛ تظل مُلهِمةً ومُحافظةً على إشعاعِها وتأثيرِها الأدبي.

لذلك؛ تظل هذه الإنتاجات؛ نصوصاً نخبوية تتغذى وتغتني تبعا لغنى التجربة، وستظل التجربة هي الطريق الوحيدة الموصلة للتجريب كتابةً وقراءةً.


ولا يمكننا الحديث عن التجريب؛ إلا عندما نكون بصدد أعمال ونصوص وقراءات وتحليلات نقدية جديدة. فعُنصر الجدة معيارٌ أساسيٌّ في تصنيفِ الخطابيْن سواءً الأدبي أو النقدي.


  • محددات التجريب

بقي أن نُشير إلى أمرٍ آخر له حظُّه من الأهمية؛ ويتعلق بالممارسة التجريبية، أو بتعبير أدق “المحاولة التجريبية”. فكثير من النصوص التي تُكسِّر البنية العتيقة وتخرق النسق النمطيِّ القديم في الكتابة السردية والكتابة الإبداعية عموماً؛ لا يمكن اعتبارُها تجريباً. وأقصى ما يمكن أن توصف به؛ هي محاولات للتجريب.

فثمة محددات دُنيا لابد من توفُّرِها في هكذا نصوص؛ يمكن الاتفاق والتواطؤ عليها، حتى لا يختلط ما هو تجريبٌ حقيقةً بما هو تجريبٌ اسماً أو شعارا فقط.

وأوَّلُ وأهمُّ مُحدِّدٍ للتجريب؛ هو تجربة الكاتب وغناها وثراؤُها.

إن النصوصُ التجريبية نصوصٌ نخبوية ويجب أن تظلَّ كذلك، إنها نصوص للمتلقي المتخصص وليست للقارئ المتذوق فقط. والتخصص هنا نقصد به؛ القراءة الفذة والناقدة والمستمرة والمستشرفة لأفق التأويل. لأن هذا النوع من النصوص ذو ذوقٍ خاص.


آفاق التجريب في الخطاب الأدبي

  • التجريب: “آلية لتنشيط عملية التحول، وتجاوز القديم والتمرد على النموذج”[3]
  • التجريب: تجاوز للأشكال القديمة، وما يعتريها من عجز عن تقديم تصور وتأويل واستكناه لما يَستجدُّ مِن الظواهر.
  • التجريب: شكلٌ مِن أشكال التجاوز، وتفكيك البنية الجامدة للخطاب السردي.
  • التجريب: تفجيرُ أشكالٍ جديدة وغير معهودة.[4]
  • التجريب: وعيٌ مُطلق وشامل، وهو غير مسؤول عن أية نتائج، ولا علاقة له بفشل أو نجاح التجربة.
  • التجريب: الرمز، السريالية[5]، الدادية[6]، والمستقبلية.
  • التجريب؛ ليس مفهوما شاسعاً أو إطلاقيا[7]، بل هو تدبير خاص أو دليلُ استعمالٍ شخصيٍّ يُستخلص من متن كاتب معين، ومن وعيه الجمالي المُصاغُ داخل معمَلِه السردي.

  • 3-  بإيجاز شديد

في غمرات التقليد والتكرار وتدوير الخطاب الأدبي وإعادة إنتاجه، لا بد من انتهاج طريق آخر مُختلفٍ ومغايرٍ تماماً في الإبداع الأدبي والأبداع الثقافي عموما، وابتكار أدواتٍ تعبيرية جديدة وتجريب تقنيات سردية وفنية غير مألوفة وغير معهودة؛ لتحريك المياه الراكضة في الخطاب الثقافي عموماً والأدبي على وجه الخصوص، ومنحِه دفقةَ حياةٍ جديدةٍ ثورية ومُنزاحة، تخلُق نخبة جديدة من المتقبِّلين (المتلقِّين) والقراء (النقاد).


[1]  سعيد يقطيـن، القراءة والتجربة- حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب، دار الثقافة، الطبعة الأولى 1985، ص 19.

[2]  القراءة والتجربة، ص 142.

 نفسـه، ص14.[3]

 عمر العسري، القصة والتجريب دراسة في أعمال أنيس الرافعي، ص 11.[4]

[5] السريالية: اتجاه معاصر في الفن والأدب، يذهب إلى ما فوق الواقع، ويعوّل خاصة على إبراز الأحوال اللاشعورية. / السريانية: لغة آرامية من فصيلة السامية، وما تزال تُتحدث في بعض مناطق سورية والعراق. معجم المعاني الجامع ـ عربي عربي، النسخة الالكترونية.

[6] الدادية: تيار أدبي وفني نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، تحكمَتْ فيه نزعة السخط والثورة على كل القيم السائدة وما هو متعارف عليه من أشكال التعبير  السائدة، وما هو متعارف عليه من أشكال التعبير التقليدية. معجم المعاني الجامع ـ عربي عربي، النسخة الالكترونية.

[7]  علياء الداية، الوعي الجمالي في السرد القصصي، دار الحور – سوريا، 2012، ص31.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى