أديبات في فصول – حفيظة قارة بيبان
« الأدب من البداية قدري»..« الكتابة الأدبية مغامرة دائمة»
- حفيظة قارة بيبان كما نقدّمها:
« حفظت » الكلم، فــ « قرّ» لها النظم والنثر طواعية، وفتّحت لها « أبواب » الشعر والأدب، ومتح الكبار والناشئة والصغار من بحرها، وهي « بنت البحر»، لقب يليق بها إذ ولدت ببنزرت وكان ذلك في 9 أفريل 1951، ويليق أيضا بمسارها الدراسي والثقافي، فقد درست بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس في المرحلة الأولى قبل أن تشتغل بالتدريس. وانضمّت منذ أواخر السبعينات إلى نادي القصة بتونس وإلى اتحاد الكتاب التونسيين بعد صدور كتابها الأول سنة 1984، وهي راهنا عضو (ة) بالهيئة المديرة لرابطة الكتّاب الأحرار بتونس. وعضو(ة) بالهيئة المديرة لجمعيّة أحبّاء الكتاب بالمدينة ذاتها، ورئيسة فرع رابطة الكتّاب الأحرار بمدينة بنزرت، وقد صدر مؤخّرا عن هذه الرابطة كتاب جامع لأعمال دورتين من الملتقى الدولي للرواية العربية ببنزرت موسوم بـ « التاريخ والسياسة والعنف في الرواية العربيّة الحديثة»، دار نقوش عربيّة، ط 2020.
تنوّعت كتابات « بنت البحر» بين القصّة والرواية والشعر واليوميّات والمقال. ونشرت في عديد الصحف والمجلاّت داخل تونس وخارجها. فضلا عن مساهماتها في الحراك الثقافي التونسي والعربي سواء بمداخلاتها في الملتقيات الوطنيّة والندوات الدوليّة في تونس والبلدان العربية، أو بالمشاركة في لجان تحكيم المسابقات الأدبية.
حازت على جوائز عديدة، إذ نالت سنة 2003 جائزتي « الإبداع الثقافي» لولاية بنزرت و«زبيدة بشير» بمؤسسة الكريديف (مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة) عن أفضل نص أدبي نسائي. وفي 2004 نالت جائزة « كومار» لروايتها الأولى « دروب الفرار»، ووسام الاستحقاق الثقافي الصنف الرابع. وضربت موعدا آخر مع جائزة « زبيدة بشير للإبداع الأدبي» عن مؤسسة الكريديف لسنة 2013 عن روايتها الثانية « العراء». ونالت كتاباتها اهتمام القرّاء والأكاديميّين، فترجمت بعض قصصها إلى الفرنسية والصينية وكتبت عن تجربتها الأدبيّة العديد من الأطروحات الجامعيّة، نذكر منها: «القصة النسائية في تونس: حفيظة قارة بيبان نموذجا»، الباحثة عفاف الشايب، المعهد الأعلى للتنشيط الثقافي، 2001- 2002، إشراف مصطفى مدائني. و« الشعرية في كتاب الطفلة انتحرت»، كلية العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة بتونس. و« المكان ودلالاته في رواية دروب الفرار »، كليّة الآداب والفنون والانسانيّات بمنوبة، وأطروحة جامعية عن رواية “العراء” ، كليّة الآداب والفنون والانسانيّات بمنوبة.
تعدّدت كتاباتها بين الرواية والشعر والقصّة واليوميّات. ونعرضها فيما يلي: أوّلا، الرواية: « دروب الفرار»، دار سيريس تونس، ط 1، 2003، ط ،2 2004. دار كنعان، دمشق، ط 3، 2006. « العراء»، دار نقوش عربيّة، ط 2012، ترجمت إلى الفرنسية. ثانيا، نصوص متفرّقة في الشعر والنثر:« رسائل لا يحملها البريد» شعر، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1989. وفي النثر« أجمل الفضائح»، الأطلسية للنشر، تونس، 2006. رابعا، القصة: «الطفلة انتحرت»، الدار العربية للكتاب، ط 1984. « في ظلمة النور»، منشورات قصص، ط 1993. « قهوة إكسبريس»، دار نقوش عربية، ط 2017. خامسا، قصص للأطفال: سلسلة حكايات للأطفال بنت البحر، دار سحر، تونس، ط 2009: «رؤى والنجمة» 8 ص، « رؤى وأمّنا الأرض» 8 ص، « الجبل الغريب» 8 ص، « أمل والجذع الحزين» 8 ص، « مرام والفراشة» 12 ص، « عروس فلسطين» 12 ص. سادسا، اليوميات: «النجمة والكوكوت»، مع الفنان حليم قارة بيبان، دار رسلان، 2018.
وللأديبة والشاعرة حفيظة قارة بيبان من النجاحات نثرا وشعرا فصول قادمة.. وفيما يلي محاورتنا لها
- القادح وبداية المسار الأدبي: متى وكيف تمّ ذلك؟
لقد كان الأدب من البداية قدري.. أذكر سؤال قريب لي وأنا طفلة ” ماذا تريدين أن تكوني؟” كان ينتظر أن أقول معلّمة أو طبيبة أو مهندسة مثلا.
ولكنّي انطلقت أجيب بكل جدّ وتأكيد “أديبة”. تفتّحت عيناه مستغربا وضحك عاليا في شبه سخرية قبل أن يقول:” يعني مثل فيكتور هيقو؟”. أجبت بكلّ تأكيد وثقة “نعم”. كان ذاك حلمي منذ وعيت في بيت يجلّ الكتاب ويقدّم لي في كلّ ركن قصّة وحكاية وتاريخا مثيرا من خلال الكتب والمجلاّت الثقافيّة التي تزدحم بها مكتبة بيتنا وتتناثر حيث يجلس أبي، المدرّس الزيتوني. طه حسين كان صديق طفولتي.. والكتاب كان شغفي الأوّل وعشقي الأبدي. ولكن، مع عوالم الكتاب الرحبة التي كانت تأخذني وانفتاح بيتنا على عوالم الفنون، المسرح الذي كنّا نرتاده كل ثلاثيّة، صحبة أبي رئيس جمعية النهضة التمثيليّة ببنزرت وقتها، مع ذلك كانت جدران التقاليد تعلو كلّما امتدّ عود الطفلة الصغيرة، في مدينة محافظة تعيش على ازدواجيّة مقيتة.
الإحساس الحادّ بذاك التناقض، كان مبعث علاقة صداميّة مع واقع المدينة. لم يكن للطفلة اليافعة من مهرب غير القلم والكتابة للسفر بعيدا وهدم الواقع المتردّي لإعلاء واقع أجمل وأبقى. أذكر أنّي طفلة كنت أكتب يوميّاتي، خواطري وأشعاري وأخفيها. في المعهد، بدأت أنشر قصصي الأولى في مجلة المعهد. ثمّ في مجلّة الفكر العريقة التي رحّبت بنصوصي..كذلك مجلّة قصص إلى جانب الصفحات الثقافيّة في الصحف التونسية كجريدة الصباح، إلى أن جاء كتابي البكر “الطفلة انتحرت” سنة1984 عن الدار العربية للكتاب. هذا الكتاب الذي بشّرني يوما أديبنا الكبير محمد العروسي المطوي بنفاده سريعا من معرض الكويت الذي كان ضيفه. آمل أن يعاد نشر هذا الكتاب قريبا.
- تقنيات الكتابة الأدبية: ما الأسلوب المستخدم وآليات السرد في عملية الكتابة؟
الكتابة الأدبية مغامرة دائمة. ورغم أنّ الأسلوب يتلوّن بشخصيّة الكاتب، بأحلامه ورؤاه وقراءاته، فإنه يفترض صياغة ربّما لاواعية حدسيّة أحيانا كما يقول مارتني. وهذا ما يجعلني في كلّ نص أكتبه، المضمون يفرض شكله. فتتعدّد التقنيات، بعيدا عن المباشرتيّة، كاستعادة الذكرى والتّداعي والتّناص واليوميّات والرّموز وغيرها من تقنيات جماليّة، مع اللغة الشاعريّة الموحية. وهذا ما جعل عديد النقاد ينعتون أسلوبي بالشاعريّ.
- الشأن المجتمعي وتجلياته: كيفيّة حضوره ومداه؟
كلّ كائن إنساني هو ابن مجتمعه. لا يمكن للكتابة الأدبيّة ألا تعبّر عن المجتمع الذي انبثقت منه وتأثّرت به- وإن بدرجات- بالنسبة إلي، صراع المرأة (خاصة في البدايات) والإنسان العربي عموما مع “مجتمع قامع مقموع” هو ما يتجلّى بوضوح في كتاباتي، بداية من مجموعتي القصصية البكر”الطفلة انتحرت” إلى كتابي الأخير “قهوة إكسبريس”. لعلّه يبرز بقوّة أكبر في روايتي “دروب الفرار”.هذه الرواية التي طبعت مرتين في نفس السنة في تونس عن دار سيريس وصدرت في 3 طبعات متوالية في سوريا عن دار كنعان، والتي ترصد حال المجتمع التونسي في الثمانينات وتكشف بوادر التطرّف الديني الذي تسلّل إلى بيت سكنته “شرود” الحالمة بإبداع نغم يوقظ المدينة، وإذا هي محاصرة في قلعة تحرم نساؤها النغم وترفع رايات التحريم والتكفير.
- الشّأن النسائي والنسوي: قضاياه إن وجدت؟
رغم مشروعيّة السؤال، فإنه يقلقني ويضيق بي. فأنا أكتب كإنسانة قبل كل شيء. أكتب للتعبير عن هموم الإنسان وأحلامه وانكساراته في صراعه مع واقعه المتردي. أكتب عن البحث عن الحرية، الحب، عن الأمومة الحاملة هم العالم، عن الأبناء الضائعين…قد تكون أغلب شخصيّاتي من النساء. ولكن بالغوص في أعماقهن، يتجلى الهمّ الإنساني والحلم بالتجاوز والانتصار، الذي نشترك فيه إناثا وذكورا.
المهمّ، في أيّ نص أدبي، عمق الرصد للتجربة وجمالية الكتابة، ليكون النصّ المقدّم معبّرا ومؤثّرا في الإنسان مهما كان جنسه. وهذا ما جعل الناقد العربي المعروف د فيصل دراج يقول عن روايتي “دروب الفرار” في تقديم الطبعة الصادرة بسوريا عن دار كنعان:« هذه رواية تعالج وضع المرأة العربية في مجتمع قامع مقموع دون أن تكون نصا نسويّا يضاف إلى نصوص نسويّة سابقة… إنّها رواية الإنسان المستنير الحالم بالحياة في مجتمع عربي مظلم شغوف بالموت. وإذا المرأة العربية المتحرّرة الذاهبة إلى الموت، مجاز حداثة عربية لفظت أنفاسها الأخيرة».
- التفاعل مع راهن الواقع التونسي والعربي في ظل الكورونا: كيفية تمضية الوقت والتفاعل مع هذه الجائحة في ظلّ الحجر الموجّه ؟
حساسيّة الكاتب دوما بالغة. لقد أدمنت في البداية – أسابيع-على متابعة أخبار الجائحة في العالم وفي بلدي قبل أن أقرّر مقاطعة الأخبار ودخول ذاتي الهشّة لأقدر على البقاء والكتابة، وأنا أشهد عجز الإنسان المتحضّر المغرور أمام فيروس لا مرئي متمرّد. الوقت ظلّ كما كان غالبا في البيت، مع الكتاب والورق والكمبيوتر. وإن كان الوعي بالحصار المفروض علينا قاسيا.
ولكن ما انضاف مع الجائحة والحجر الكامل ثم الموجّه، هو أعباء المسؤولية لربّة البيت، الزوجة والأمّ والكاتبة التي تشهد المزيد من انهيارات العالم المعاصر، وتحاول أن تحمي الذات والمحيطين بالتنظيف والتعقيم المتوالي لكلّ ما حولها. ولكن ، أيكفي ذلك للنجاة، لا من الفيروس الرهيب فقط، بل من مشهد عالم جديد مخيف جشع، يعلن فشل منظومات الأقوياء المتحكّمة فينا، وخيبة الإنسان المعاصر؟
مع ذلك، فإنّ لكلّ تجربة مهما كانت، جوانب إيجابية. تجربتنا الأخيرة كانت دعوة لإعادة النّظر والتفكير. كما كانت دعوة لإعادة علاقتي مع الزمن ومع أولويّات الراهن. في هذه الشهور الصعبة الماضية، أتممت إعداد كتابي “سارقة النار”، كما عدت من جديد إلى غمار رواية تنتظر الاكتمال.
- ما دعواك للناشئة في علاقتها بالأدب والحاجة إليه؟
الناشئة عندما تحبّ الكتاب وتتعلّق بالأدب، فإنهّا تصنع المدهش الذي يبهرنا أحيانا، نحن الكبار. هذا ما تؤكّده لي التجربة في لقاءاتي بالتلاميذ في المعاهد والمدارس في شمال البلاد وجنوبها. حتّى تبقى العقول متيقّظة، مبدعة، حرّة ويظلّ الوجدان غنيّا، فإنّ الكتاب الذي يفتح عوالم الخيال والجمال والمعرفة، لا غنى عنه لذلك. ولكن، أتكفي الدعوة لذلك؟ أتكفي أمام تهميش يكاد يكون كليّا للكتاب من إعلامنا المرئي خاصة؟ وأمام سلطة سياسية لا تري في الثقافة أولوية وطنية ولا سلاحا لتحصين الشباب من المخاطر التي تتهدده؟
مع ذلك، ليس لنا غير العمل الدؤوب لنشر نور المحبّة للكلمات، بالكتابة المتوهّجة الصادقة واستثمار كل الوسائل الحديثة للتّواصل مع الشباب وهذا ما دعاني لبعث موقعي الرسمي على النات وتقديم بعض من قصصي مصوّرة أو مغنّاة على اليوتوب، علّ نور المحبة ذاك يخصب في حقول بكر غنيّة لأجيالنا القادمة.
انتهت المحاورة ولم ينته يقيني في كلّ مرّة من تمكنّ كاتباتنا التونسيّات من آليّات سبر الذّات وفهم الوجود بشكل تتفتّح فيه كتاباتهنّ عن رؤية وتمثّل عميقين للواقع والمتخيّل.