سرديات

المدن في الروايات

تعتبر الكتابة عن المدن وعوالمها، من الأشياء الشائعة في الكتابة الروائية في أي مكان به من يكتب رواية، وهناك مدن حقيقية دخلت بشوارعها وضجيجها ومركباتها وأرقام بناياتها وحتى العمال الذين يشيدون عمرانها، ومدن أخرى خرجت من خيال الكتاب، وأصبحت فيما بعد معروفة بشدة لدى القراء كأنها صيغت بالفعل في الواقع، ويمكن زيارتها في أي وقت.

وأذكر حين قرأت “مائة عام من العزلة” لماركيز أول مرة، وتابعت مدينته “ماكندو”، منذ إنشائها في ذلك الوادي الكبير وحتى ازدهرت وأصبحت مطروقة بواسطة الزوار من سياح وتجار ورجال دين وموسيقيين وحواة، وفرق راقصة، أنه امتلكني يقين كبير أنني أمام مدينة موجودة بالفعل.

وربما يكون ذلك حقيقة، أن تكون تلك المدينة موجودة باسم آخر، لأن الكاتب في رأيي لا يخترع المدن من فراغ، ولكن يقرأ معطيات بيئته بدقة، ويشيد من تلك المعطيات عالمه الشبيه الموازي. هو يتحدث عن مدينة مخترعة، ولكنها موجودة بالفعل.

بالمقابل تجد أعمالاً أخرى تعرضت لمدن مثل نيويورك ولندن وباريس والقاهرة، وحتى مدن صغيرة بلا شهرة في العالم العربي والغربي مثل بعض أعمال بول أوستر، ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وغيرهم، وهناك أعمالاً كانت عبارة عن سير تاريخية للمدن، استعادتها بالكامل، واستعادت معها وقائع ربما عاشها الكاتب أو خبرها من مشاهداته.

والسؤال: مالذي يريده الكاتب حين يختار مدينة بعينها موجودة ومعروفة، ويكتبها كاملة في رواية؟

قطعًا ليس الهدف في الكتابة الروائية، مدينة الإسمنت والبنايات الشاهقة والمنخفضة، والشوارع المسفلتة والتي تملأها الحفر، وليس الهدف مدحًا للمدينة أو ذمًا لها، ولا تفصيل ثياب من حلم الكاتب ليلبسها لها، ولكن المدينة المكان الذي سيحدث فيه شيء ما.

ولا بد من مكان ذي إغواء يحتضن الحدث، ويسانده، ويتطور بتطوره، وغالبًا ما يكون ذلك المكان كما ذكرت، موجودًا في ذاكرة الكاتب، أو هو مكانه الذي يعيش فيه ويخبره تمامًا، حتى لو لم يسمه باسمه الواقعي وافترض له اسمًا بديلاً، أو تركه هكذا غامضًا بلا اسم، لكن تفضحه الخصوصية.

وهكذا يلم القارئ شتات ما يعثر عليه من بذور تخص مدينة من دون أخرى، ويتفاعل مع الحدث الذي يجري في المكان. وحين يكتب أحد عن القاهرة مثلاً، فمن المحتمل جدًّا أن يكون أحد الشخصيات قد ركب قطارًا من محطة باب الحديد، أو سار في شوارع وسط البلد المعروفة، أو عبر بميدان التحرير، أو صلى ركعتين في الحسين وهكذا.

وحين نكتب عن الخرطوم، نجد أسواقها الشعبية الخاصة، وملامحها المتعددة في شوارع مثل النيل والقصر، وربما ورد ذكر لمطعم معروف مثل مطعم أبي العباس، أو حتى بائعة شاي فقيرة، اشتهرت في المدينة، ولا بد أن تدخل في النصوص الروائية. وهكذا.

إذن المدن تمنح العالم الواقعي وتغري بعالم افتراضي مواز، وكلما كبر حجم المدينة وازداد ضجيجها، كانت فرصة كتابتها أكبر، وكلما حدثت تغيرات اقتصادية وعمرانية، في مدن بعينها، أصبح وجودها في الروايات حتميًا.

المدن أيضًا تمتلئ بالشخصيات المتنوعة، والمؤثرة، أكثر من القرى الريفية ذات العالم المحدود، والحكايات التي كتبت مئات المرات، ولن تكون عنصرًا جذابًا في صياغة نص طموح كما أعتقد، مثلاً شخصيات العمد والمشايخ، والمجاذيب، والريفيات المكحلات بالنظرات اليائسة، والأحلام المجهضة، هذه حكايات صيغت بأساليب عدة، ولا أعتقد أن ثمة جديد فيها، بعكس المدن التي تفرز في كل يوم حكاية، وفي كل منحنى إرهاصات نص يمكن تطويره إلى نص جديد ومختلف تمامًا.

وفي تجربتي الشخصية، فقد عشت معظم سنواتي المبكرة في مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، وبالرغم من وجود ثوابت معينة في تلك المدينة، لم تتغير بتغير الزمن مثل المستشفى الكبير في وسط المدينة، وصيدلية بيومي، وموقف الحافلات، وأكشاك بيع المرطبات التي يعود تاريخ بعضها إلى نهاية الستينيات من القرن الماضي.

إلا أنني ألاحظ في كل زيارة لي لبورتسودان تغيرًا ملحوظًا، وعوالم جديدة، هدت تلك القديمة، ونبتت على أرضها، وبالتالي كان ما كتبته في كتابي مرايا ساحلية، أصبح معظمه غير موجود الآن، لكني حين أجلس للكتابة، دائمًا ما تتراءى لي مدينتي التي أعرفها، وأكتب نصي بناء على معطيات سابقة أو جديدة استوحيها من التغيرات الجديدة.

ولأنني أتبع طريقة عدم تسمية المدن عند كتابتها، لكن الخصوصيات تظهر ويستطيع القارئ الذي يعيش في مدينة بورتسودان، أن يتلمس دروب النص بسهولة، وربما يستطيع قارئ بعيد لا علاقة له بالمكان أن يعثر هو الآخر على ما يرشده للمكان الذي يحتضن أحداث النص.

من المدن التي تغري بكتابتها أيضًا ولم يصلني نص كتبها حتى الآن برغم اعتقادي في وجوده، مدينة مثل كوالالمبور عاصمة ماليزيا. هذه مدينة في رأيي بمثابة معلم للكتابة، موحية بشدة، وفيها من الإغراء ما تمتلكه حسناء.

ولأن سكانها خليط من أجناس مختلفة، وزوارها يأتون من شتى بقاع العالم، إضافة إلى ضجيجها المستمر الذي لا ينتهي، ومؤكد أنها تصنع نصًّا غاليًا، بقي أن أعرف بماذا أوحت لكاتب من سكانها، ولم تصلنا إلى العربية رواية ماليزية، على حد علمي. وشخصيًّا ورغم أنني أمضيت فيها شهرًا واحدًا، أستطيع التأكيد بأنني أنوي كتابة نص يؤطرها كواقع، ويتخيل ما يمكن تخيله منها.

في النهاية أقول إن النصوص العظيمة تصنعها تغيرات عظيمة، ولا تأتي من الركود أو الفراغ وما تمنحه المدن المتغيرة من تفاصيل جديدة في كل يوم، يجعل لبهار الكتابة، نكهة متجددة هو الآخر.


د. أمير تاج السر – كاتب ورائي سوداني


خاص لمجلة فكر الثقافية

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى