رقمنة ومعلوميات

لعبة التحدي والخضوع

كنت في أواخر التسعينيات منشغلا بتتبع البرمجيات وشراء المجلات الإلكترونية العربية والفرنسية والإنجليزية التي تقدم إلى جانب معلومات حول المعلوميات والثقافة الرقمية أقراصا مدمجة تتضمن كتبا أو برمجيات ضرورية، أو ألعابا إلكترونية. وكان طموحي أن أتقدم في مجال صناعة البرمجيات.


ولما رأيت أن هذا التوجه قد يستغرقني لم أعد أهتم كثيرا بهذا النوع من المعلومات، واتجهت إلى الدراسات الأكاديمية المختلفة في المجال نفسه. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني من السنة التي نودع، وجدتني أعود إلى الفضاء الشبكي لأبحث عن الألعاب الإلكترونية وما يتصل بها.


كان الداعي ما قرأته في إحدى الجرائد الجزائرية عن إقدام مراهق على الانتحار بسبب لعبة تحدي الحوت الأزرق. صعقت للنبأ. ووجدت نتيجة التنقيب أن الأمر لا يتعلق فقط بهذا الطفل. لقد وقع لغيره من مراهقين في أوكرانيا وروسيا، والإمارات والسعودية، ما وقع له. وفي الأسبوع الماضي، أوردت الصحافة المغربية خبرا يتعلق باللعبة نفسها، وخطرها على المراهقين.


وفي ندوة حول القراءة والوسائط الجديدة في دار الشعر بتطوان (دجنبر) تحدثت عن هذه اللعبة، وكان السؤال الذي يشغلني: ما الذي يؤدي إلى أقصى درجات التفاعل، بين مبرمج اللعبة، واللاعب، واللعبة إلى حد الانتحار؟


اهتممت بالتفاعل النصي وبالوسائط المتفاعلة، ولم يكن يدر في خلدي أبدا أن التفاعل مع «النص»، أو «العلامة» قد يؤدي بقارئه أو سامعه إلى الإقدام على الموت، رغم أني كنت أعرف من خلال حكايات العشاق والصالحين في السرد العربي ما يثبت ذلك.

لقد كنت أعتبر ذلك حالات منفردة، ولا يمكن القياس عليها. لكن أن تحصد لعبة التحدي أرواح العشرات (130 في روسيا وأوكرانيا) في أقطار متعددة ومن فئة عمرية واحدة، فهذا يؤدي إلى الانشغال بالظاهرة، وطرح السؤال حولها، وحول «التفاعل» اللعبي الذي يتراوح بين التحدي والخضوع القاتل.

سوف لا أهتم كثيرا بمبرمج اللعبة، ولا بالمصير الذي لقيه، ولن أتخذ منه موقفا. فللإعلام وللمهتمين بالجرائم الإلكترونية مجال لذلك. إن ما يعنيني هو «التفاعل» في حد ذاته، وكيف يمكن أن يصل إلى درجة الموت جراء لعبة. وحين أصف «تحدي الحوت الأزرق» باللعبة فإني لا أعطي لـ»للعب» المعنى المتعارف عليه.

فكل شيء لعبة، من الاقتصاد إلى السياسة مرورا بكل المجالات. ولا يقتصر اللعب على الصغار، فالكبار يمارسون اللعب أكثر منهم. بل إن الحياة برمتها ليست سوى لعبة لها قواعدها، وقوانينها وليس الأحياء سوى قائمين بلعبة هي التشبث بالحياة في مواجهة الموت: الحقيقة الأزلية.

يكفي أن نتوقف على المعطيات التالية حول مبرمج اللعبة لندرك خلفيات إقدامه على «صناعتـ»ها. هو فيليب بوديكين من روسيا، 21 سنة، طالب علم نفس، إلى جانبه معرفته بالمعلوميات وصناعة البرمجيات. بعد خمس سنوات من التفكير والعمل أنتج هذه اللعبة بهدف التوجه بها إلى مراهقين ما بين الثانية عشرة والستة عشر عاما بحيث تؤدي اللعبة في النهاية إلى الانتحار برمي النفس من مكان عال، أو بالسكين، ومن هنا جاءت التسمية لأن الحوت الأزرق ينهي حياته بالانتحار.

بعد تحميل اللعبة، وتسجيل الدخول، يخير اللاعب بين قبول الاستمرار أو الخروج. ولا يعني القبول سوى التقيد بكل ما يطلب منه تنفيذه حتى النهاية: برنامج يومي (خمسين يوما). وفي كل يوم تقدم مطالب عليه أن يعملها، ولا يمكنه التراجع أو الانسحاب نهائيا.

يتطلب البرنامج الاستيقاظ يوميا في الرابعة وعشرين دقيقة صباحا، متابعة مقاطع فيديو تتصل بالعنف، وسماع مقاطع موسيقية تدفع إلى الاكتئاب، عدم التواصل مع الآخرين، إيذاء النفس بجرحها بأداة حادة، وبعث الصور الدالة على التنفيذ، التدرب على الوقوف في أماكن مرتفعة،،، وكل الذين انغمروا في اللعبة، عبر ممارسة «التحدي» و»الخضوع» لم يكن أمامهم في النهاية سوى الانتحار.

حين اعتقل بوديكين صرح بصدد ضحاياه بأنهم «مجرد نفايات بيولوجية، وكانوا سعداء بالموت. ما فعلته كان تطهيرا للمجتمع». هذا النص يمثل خلفية ومقصد إنتاج اللعبة، وهو يعبر بدقة عالية عن تصور للحياة والموت، ويستحق لوحده دراسة خاصة.


إنه يلخص بكلمة ما أسميته في دراستي للسيرة الشعبية بـ»دعوى النص». كما أن برنامج اللعبة اليومي يتطلب الوقوف على برنامجه السردي من لحظة «الأوان»، (طلب التسجيل)، إلى «القرار» (قبول اللعبة والانخراط فيها)، إلى النفاذ (الانتحار).


كانت إحدى الحيل التي يلجأ إليها الراوي الشعبي لإثارة جمهوره إيقاف العمل السردي في نقطة مفصلية تقض مضجع المروي له، فيستأنف الحضور في اليوم التالي لمتابعة القصة. ومرة ترك الراوي عنترة معتقلا، فلم ينم أحد السامعين، فراح يطرق باب الراوي ليلا مقدما له مالا ليحكي له ما سيقع لعنترة، وإلا فإنه لا يطرق له جفن؟


أثارت ألعاب الفيديو الباحثين في السرديات الرقمية، وتعتبر من أهم الإنجازات السردية الرقمية إلى حد بروز «سرديات لعِبية» تهتم بهذا النوع من الإبداعات التفاعلية. لا أريد الخوض في تحليل لعبة الحوت الأزرق، ومريم، وسواها من البرمجيات الرقمية المشابهة، وآثارها على أجيالنا الصاعدة. ولكني أريد طرح أسئلة حول العصر الرقمي الذي نعيش فيه، وكيف نتفاعل معه على المستويات كافة، من البيت إلى المدرسة فإلى السياسة.


ما هو التعليم الرقمي الذي نربي عليه أولادنا؟ ما هو التكوين الرقمي الذي يحصل عليه الأساتذة المتعاقدون الذين نتركهم نهب أطفال باتوا ضحايا اللعب الإلكتروني، وألعاب السياسات الرعناء المتعاقبة؟ حتى باتوا يجلدون معلميهم على مرأى من التلاميذ؟ أين التعليم الخاص الذي نطبل له ونزغرد؟ كم عدد المبرمجين الذين أهلهم ليساهموا في إنتاج المعرفة واقتصادها؟ وكم عدد المختصين في الاقتصاد والتدبير الذين جعلهم يؤسسون لتصورات تقطع دابر التخلف والتبعية.

وتجعل اقتصاداتنا وسياستنا في مستوى دول كانت بالأمس القريب أكثر تخلفا منا؟ ما الذي جعل بوديكين ينسل إلى بيوتنا ويودي بحياة فلذات أكبادنا التي تمشي على الأرض؟

ما الفرق بين ترامب وبوديكين؟ لا فرق في رأيي: كلاهما له برنامج سردي، ولا فرق بين «تحدي لعبة الحوت الأزرق»، و»لعبة النار والغضب». إن كلا منهما مبرمج بكيفية خاصة، حسب الدعوى النصية نفسها. كما أن كلا منهما يعتبر «الخاضعين» لـ»تحدي» لعبته مجرد نفايات بيولوجية (المراهقون الصغار)، أو حثالات (المراهقون الكبار)، لا تستحق الحياة؟ إن ترامب في برمجته يضطلع بـ»القِوامَة السردية» ( narrative agency) نفسها: يدمج لاعبي «السياسة العربية» بمنطق بوديكين نفسه: الاستفراد بدولة، أو دولتين، أو مجموعة دول عربية، في آن واحد.

حثهم على القطيعة مع بعضهم البعض، الإعلان على الولاء الدائم، تقديم سيناريوهات متعالية على القوانين الدولية، تأكيد الانغمار في اللعبة بشراء الأسلحة الأمريكية لجرح الذات، وإيذاء الشعوب، وعدم الانسحاب من اللعبة مهما كانت الآثار، وإجراء المناورات…

وإذا كان بوديكين قد فكر وخطط لبرنامجه خلال سنوات، درس فيها نفسية المراهق، فإن ترامب يعتمد في برمجته على تاريخ طويل في التعامل مع ذهنية الحاكم العربي، وهو يجره إلى لعبة التحدي، أي الخضوع لإرادته، بهدف تحقيق الانتحار، ليس الفردي، ولكن الجماعي للتاريخ والجغرافيا والحضارة العربية الإسلامية.

هل يكفي أن نلعن بوديكين، أو نشتم ترامب، وندين البرمجيات القاتلة؟ كلا. علينا تكوين مبرمجي لعب التحدي من أجل الحياة.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى