علم اللسانيات الحاسوبية.. تعريفه ومجالاته (1)
استطاع الإنسان، عبر عصوره المختلفة، أن يجلي ما خفي عليه من ظواهر كونية، وبدأ في تطوير العلوم التي يمتلكها، وسعى إلى امتلاك معارف جديدة، في سبيل وصوله إلى قمة المعرفة. وكان مما وصل إليه الإنسان المعاصر، في ميدان الدرس اللغوي، ما عُرف حديثاً بعلم اللسانيات الحاسوبية، الذي يُعد الآن من أبرز العلوم اللغوية، التي ظهرت في العصر الحديث.
يتكون هذا العلم، من عنصرين أساسيين، أولهما اللسانيات، وهو العلم الذي يدرس اللغات الطبيعية الإنسانية في ذاتها ولذاتها، سواء أكانت مكتوبة منطوقة أم منطوقة فقط.. ويهدف هذا العلم أساساً إلى وصف أبنية هذه اللغات، وتفسيرها، واستخراج القواعد العامة المشتركة بينها، والقواعد الخاصة التي تضبط العلاقات بين العناصر المؤلفة لكل لغة على حدة. وثانيهما الحاسوبية، ويقصد بها، توظيف الحاسوب، بما يحتويه من إمكانات رياضية خارقة، وسعة تخزينية هائلة، في خدمة اللغة.
وضع العالم اللغوي David Crystal تعريفاً جامعاً للسانيات الحاسوبية، فقال: هو فرع من الدراسات اللغوية الذي توظف فيه التقنيات والمفاهيم الحسابية، بهدف توضيح المشكلات اللغوية والصوتية. إن كثيراً من المجالات قد تطورت، بما فيها إنتاج أصوات كلامية بوسائل اصطناعية عن طريق توليد الموجات الصوتية ذات الترددات اللازمة، وتمييز الكلام، والترجمة الآلية، وفهرسة الأبجديات، وأجراء اختبارات قواعدية، إضافة إلى مجالات أخرى تستدعي الإحصاء والتحليل.
يتفرع علم اللسانيات الحاسوبية إلى فروع متعددة لكل فرع مجالاته واختصاصته، وأكثر تلك الفروع أهمية للغة، هو ذلك الفرع الذي يقوم على الإحصاء اللغوي؛ فعملية تخزين المعلومات داخل الحاسوب، على سبيل المثال، لا يختلف هدفها، عن أي نوع من أنواع التخزين التي عرفتها البشرية.
نستطيع مما سبق، استنباط مجموعة من القضايا، التي يهتم بها هذا العلم الحديث؛ فالأساس الذي يقوم عليه هذا العلم، يتمثل في اللغة؛ أي اللغة التي وُجدت لتسهيل عملية التواصل بين بني الإنسان، بوصفها “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم” والمقصود باللغة هنا، أياً كانت، اللغة المكتوبة، واللغة المنطوقة، وما يمكن إفادة هذه اللغة به، سواء أكان ذلك، من خلال، رصد ظواهرها، ومعرفة أبنيتها، وتركيبها، والقواعد المنظمة لها، أم ترجمتها، وتحليل نصوصها، إضافة إلى تخزين تلك النصوص.
إن كلَّ ما سبق، يتم من خلال جهاز الحاسوب، هذا الجهاز الذي استطاع أن يجعل حياة الإنسان أسهل من أي وقت مضى، بما يتمتع به من قدرة خارقة، وسرعة فائقة، بل إنه أصبح يحل مكان الإنسان في كثير من المواقع، من خلال الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال لا الحصر.
ومن المعلوم أن هذا الجهاز المسمَّى “كمبيوتر” Computer “الحاسوب”، قد ظهر، فيما نعلم، في نهاية النصف الأول من القرن العشـرين، وعلى وجه التحديد عام 1948م، وأصبح استعمالُه، والتعاملُ معه، منذ ذلك الوقت، مُمكناً ومَيْسوراً، على تفاوت في ذلك، في كثير من مجالات الحياة العلمية منها، والإنسانية.
ويبدو أن استعمال هذا الجهاز، لأغراضِ البحث اللغوي، قد بدأ في الغرب، وعلى وجه التحديد، في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك في بداية الخَمْسينيات من القرن العشـرين، ثم انتقل الأمرُ، بعد ذلك، إلى أوروبا. وكانت المحاولاتُ الأولى لاستخدام هذا الجهاز، في دراسة اللغة، قد تمت في العام 1961م، في إحدى الجامعات السويدية، ولكنها كانت محاولاتٍ متواضعةً، وذاتَ طابعٍ محليِّ.
ويبدو أنَّ بدايةَ الاتِّصال بين جهاز الحاسوبِ، والدرسِ اللُّغوي العربي، كانت على يد أُستاذنا المرحوم الدكتور إبراهيم أنيس، الذي كان من أوائل العلماء العرب الذين وجَّهوا الأنظارَ والاهتمامَ إلى إمكانات الاستعانة بالتِّقْنيات الممكنة التي يقدمها الحاسوب، وتوظيفها، من ثمَّ، لخدمة الدرس اللغوي في العربية.
فهو يذكر، في ختام تقديمه لكتاب الأستاذ الدكتور علي حلمي موسى، “دراسة إحصائية لجذور معجم الصحاح باستخدام الكمبيوتر”، أنه انتهز فرصة زيارته للكويت، بوصفه أستاذاً زائراً للجامعة هناك، وتحدث مع الأستاذ الدكتور علي حلمي موسى، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة الكويت، بخصوص إمكانية الاستعانة بالحاسوب في إحصاء الحروف الأصلية لمواد اللغة العربية، بهدف الوقوف على نسج الكلمة العربية، فرحب د. موسى بهذه الفكرة وتحمَّس لها، وبدأ التخطيط لها وتنفيذها عام 1971م، وقد تمّ ذلك في كتابه الذي أشرنا إليه سابقاً، والذي تمت طباعته غَيرَ مَرَّة.
وعند النظر إلى كتاب د. موسى سابق الذكر، يُلاحظ أن هذا الكتاب، على أهميته العلمية، وسبقه في مجال علم اللسانيات الحاسوبية العربية، يحتوي على الجداول المستخرجة من الحاسوب، وقد بلغ عددها اثنين وتسعين جدولاً، وهذه الجداول، التي أَخذت مساحةً شاسعةً من حجمه، لم تُذيل بأيّ نوع من المعالجات لغوية، أو التحليلات العلمية. وهدف علم اللسانيات الحاسوبية، كما ذكرنا، توظيف الحاسوب ونتائجه في خدمة اللغة وعلومها.
يتفرع هذا العلم، كما ذكرنا، إلى فروع متعددة لكل فرع مجالاته واختصاصته، وأكثر تلك الفروع أهمية للغة، هو ذلك الفرع الذي يقوم على الإحصاء اللغوي؛ فعملية تخزين المعلومات داخل الحاسوب، على سبيل المثال، لا يختلف هدفها، عن أي نوع من أنواع التخزين التي عرفتها البشرية، سواء أكان ذلك على سعف النخيل، أم الحجارة، أم الورق.
كما أن عملية استرجاع البيانات وتبويبها، وطرق البحث المختلفة عنها في الحاسوب، على أهميتها، هي عملية آلية، يستطيع أيُّ مبرمج أن يقوم بها، إذا ما تم تزويده بما يريده المُستخدم، في حين يبرز علم اللغة الإحصائي Statistical Language هذا العلم الذي يُعطي دارس اللغة تقييماً كمياً “لبعض الخواص النوعية للغة، كمعدلات استخدام الحروف، والكلمات، والصيغ الصرفية، والموازين الشعرية، وأنواع الأساليب النحوية، أو التوزيع النسبي للأفعال المعتلة والصحيحة، أو للإفراد والتثنية والجمع، أو لحالات الإعراب المختلفة”.
من أحدث النماذج التي صدرت حديثاً في هذا المجال، ما قام به أ.د. محمد جواد النوري، بدراسات إحصائية لغوية حاسوبية، للغة العربية، معتمداً، في معطياته على المادة اللغوية لجذور الأفعال الثلاثية الواردة في المعجم الوسيط، الذي يُعدُّ نتاج هيئة علمية لغوية مرموقة في عالمنا العربي.
ومن هذه المعطيات، يتمكن الباحث اللغوي، بما يمتلكه من مخزون علمي في اللغة المدروسة، من تفسير تلك المخرجات التي جاء بها الحاسوب، بل إن حكمه العلمي، وتفسيره اللغوي، في كثير من الأحيان، يكون قريباً من المسلمات؛ لأنه يستند إلى مخرجات صحيحة، فنتائج الحاسوب إذا ما أدخلت بطريقة صحيحة، فإن نتائجها تكون سليمة 100 ، فغاية هذا العلم، ليس عمل الإحصائيات على أهميتها، بل هو تحليل تلك المخرجات، والإحصائيات، تحليلاً لغوياً علمياً، وهو ما تفتقده كثير من الدراسات العربية القائمة على هذا العلم.
وهكذا، يتضح لنا وجود ارتباط وثيق بين علوم اللغة وعلوم الحاسوب، ويقوم هذا الارتباط على ثلاثة طرق، كما يقول راستيي Rasteir، وتتمثل أولى هذه الطرق، في أن يكون فيها التحليل اللساني أولوية بالنسبة للمعالجة المعلومية أو الحاسوبية، ويسمح هذا النوع بتحليل أولي للمدونة تبعاً للمهمة المنتظر تنفيذها من الحاسوب. في حين، توجه الطريقة الثانية، وهي التحليل اللساني أو التحليل المعلومي في إطار استراتيجية استعمال البرامج الحاسوبية.
- نماذج من اللغويات الحاسوبية العربية:
من أحدث النماذج التي صدرت حديثاً في هذا المجال، ما قام به أ.د. محمد جواد النوري، بدراسات إحصائية لغوية حاسوبية، للغة العربية، معتمداً، في معطياته على المادة اللغوية لجذور الأفعال الثلاثية الواردة في المعجم الوسيط، الذي يُعدُّ نتاج هيئة علمية لغوية مرموقة في عالمنا العربي. وقد أخرج أ.د. النوري هذا العمل اللغوي الحاسوبي الرائد، في ثلاثة كتب، صدرت عن دار الجندي للنشر والتوزيع في2016، وهي:
1- لغويات حاسوبية: دراسة صوتية صرفية في أبواب الفعل الثلاثي في المعجم الوسيط، باستخدام الحاسوب
2- لغويات الحاسوبية، دراسة صوتية صرفية في جذور الأفعال الثلاثية.
3- لغويات حاسوبية، دراسة صوتية صرفية في الأفعال الثلاثية المزيدة.
علم اللسانيات الحاسوبية.. تعريفه ومجالاته (2)