التداولياتلسانيات

شيء في اللغة: الاستلزام الحِواري في التّداول اللّساني

تمثل اللسانيات التداولية إحدى المنهجيات التي تهيمن في أيامنا هذه على محاولات اللغويين إعادة النظر بصفة دائمة في قواعد تحليل الخطاب، ومعاييره.

وتعد التداولية Pragmatics من أحدث هذه المرجعيات في النصف الثاني من القرن الماضي. وثمة محاولات مطردة للإفادة من هذه المرجعيات لتحليل الخطاب في اللغة العربية، وإلقاء الأضواء على القواعد التداولية في ضوء المستجدات اللسانية المطردة، ومن بين اللغويين الذين تطرد محاولاتهم في هذا الاتجاه كلٌّ من طه عبد الرحمن وأحمد المتوكل في المغرب، والجيلالي دلاش ومحمد طروس ومسعود صحراوي ونعمان بوقرة ونوراي بو زيد من الجزائر.


وفي كتاب جديد ذي عنوان لافت للنظر هو “الاستلزام الحواري في التداول اللساني ” للعياشي أدراوي (منشورات دار الاختلاف، ودار الأمان، في الجزائر والرباط) يحاول المؤلف- مشكوراً – استئناف النظر في هذا الموضوع استئنافا يضع الأمر في نصابه.

فقد استهدف النظر فيه من زاويتين، أولاهما: تعود بنا إلى الماضي، وإلى التراث اللساني العربي، مؤكدا أن النظر التداولي لم يغب قطعا عن نظر اللسانيين العرب قديما، ولا عن اهتماماتهم. سواء في مجال البلاغة(السكاكي)، أو الأصول (الغزالي) أو النحو (الزمخشري).

وبهذا يرد المؤلف ردا قويا معززا بالأمثلة، والشواهد المحسوسة، على من ادعوا غياب الوعي بالاستلزام الحواري في الفكر اللساني العربي القديم، والزعم بأنه ابتكار خالص للسانيين الغربيين المحدثين، وفي هذا يلتقي تماما مع مسعود صحراوي في كتابه ” التداولية عند العلماء العرب “.

والثانية منهما: تتخطى بنا الماضي السحيق إلى العصر الحاضر، فتتناول الأمر من منظور المعاصرين الغربيين، من أمثال جون أوستن، وسيريل، وغرايس، وآن روبول، وجاك موشلار، وكارناب Karrnab.

والواقع أن المؤلف أدراوي يُسهم بهذا النهج، في سداد ما للقدماء من دَيْن ينبغي للمحدثين المتأخرين أن يعترفوا به، وألا ينكروه. فإذا كان المفهوم الذي يرتبط به الاستلزام الحواري مفهوما لصيقًا بالخطاب، وهو ألا يحمل الكلام الملفوظ – من حيث مرماه- على محمل الصياغة المعجمية، أو التواضع، والاصطلاح، حسب، فإن الكثير من الأقوال التي تلفظ في الحوار تقول شيئا وتعني غيره،

وأن ثمة ضوابط ومعايير ذكرها بعض اللغويين، يستند إليها المتلقي، قارئا كان أم سامعًا، في تسلمه الرسالة التواصلية، وفي مقدمة هاتيك الضوابط: السياق، بنوعيه المقامي واللفظي، ومبدأ التعاون بين المتكلم والمتلقي، وهذه الأمور من الأساسيات التي التفت إليها البلاغيون، والأصوليون، والنحويون. وذكروها مرارا وتكرارًا.

وقد توقف بنا المؤلف لدى تراكيب عرَض لها السكاكي، أبو يعقوب ( 626هـ) من البلاغيين المتأخرين، في كتابه مفتاح العلوم، كالاستفهام، والأمر، والنداء، والنَهْي، وغيره، مؤكدا أن كل نوع من هذه التراكيب قد يحتمل القولُ فيه معنى غير المعنى الذي يريده المتكلم، أو الكاتب.

والمعيار الذي يُحتكم فيه لتلقي ذلك المعنى الضمْني هو السياق التداولي. صحيح أن السكاكي لم يستخدم كلمة ” تداولي” ولكن تفسيره لما تتصف به استراتيجيات التلقي يؤكد أنه يعني- في ما يعنيه – ما يقصده المحدثون بهذا اللفظ. ففي قوله تعالى( ربنا ولا تحمل علينا إصرا ) أو (ربنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) فالظاهر من اللفظ هو الأمر، بيد أن السياق التداولي يوحي بغير ذلك، أي: بالدعاء، وشتان ما بين الأمرين.

كذلك قول الشاعر مستفهمًا : ” أطنينُ أجْنحة الذباب يضيرُ ” قولٌ في ظاهره يعني الاستفهام، في حين أن السياق التداولي يمنع إرادة هذا المعنى، ويوحي بمعنى آخر هو الاستخفاف بتهديد المهجو، ووعيده. وفي الاستفهام ضروبٌ وأنماط عديدة مثلما هي الحال في النفي، والنهي، والنداء، ما لا حصر له من الملفوظات التي ينم ظاهرها على شيء، والمراد بها من اللفظ شيءٌ آخر.

وعلى ذلك يكون السكاكي – بأمثلته المطردة، وتعليقاته المتواترة- قد أكد أن مثل هاتيك التراكيب تستلزم استبعاد المعنى (الوضْعي) أو(المعجمي) والالتفات إلى المعنى التداولي، الذي هو أقرب إلى الواقع اللغوي من أيّ شيء آخر.

ومن كتاب ” المُسْتَصْفى في علم الأصول ” لأبي حامد الغزالي(توفي 555هـ) يستقصي المؤلف العياشي أدراوي القرائن التي يستند إليها الأصوليون في الاستدلال على المعنى التداولي لصيغ عدة في مقدمتها الأمر، والنهي.

ومن تلك القرائن السياق الحالي، الذي يتضمَّن – بطبيعة الحال- سبب النزول، مثلما جاء في الأثر، أو في الروايات الثابتة، فعلى سبيل المثال- لا الحصر – في قوله تعالى (يا أيها النبيُّ لِمَ تحرّم ما أحلَّ اللهُ لك) فهو – هاهنا – استفهام لا يتطلب جوابًا، لا تصوُّرًا ولا تقريرًا، وإنما هو ضربٌ من النصح.

وفي جزء آخر من الآية نجد استفهامًا بلا أداة. وهو قوله تعالى(تبتغي مرضاتَ- مرضاة- أزْواجِك) فعلى الرغم من غياب أداة الاستفهام، تتضمَّن العبارة استفهامًا يُراد به العكس، وهو إنكار الامتناع عمّا أحله الله للنبي إرضاءً لأزواجه. وأما قوله في موضع آخر (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكمْ تسؤكُم ) فالظاهرُ- ها هنا – هو النهي، وبالرجوع إلى السياق يتضح أنه إنما قصد الإرشاد، والنصح، لا التحريم. كقوله ( ولا تقربوا الزنى، إنه كان فاحشة ، وساء سبيلا ) فالنهي، ها هنا، نهيٌ حقيقيٌ، يفضي إلى التحريم، ولا يحتملُ معنىً آخر.

ويستنتج أدراوي من هذه الأمثلة، وسواها مما عرض لبيانه تفصيلا، لا يخلو من تعقيبات سديدة، أن للأصوليين وعيًا عميقاً بالاستلزام الحواري، وأنهم لم يكتفوا بذلك، بل وضعوا المعايير الضابطة لتأويل المقولات، في الأمر، والنهي، مما له صلة باستنباط الأحكام الشرعية، وربطوا – فضلا عن ذلك- ممكنات الملفوظ، ودلالات الخطاب، بسياقات الأحاديث، وأسباب نزول الآي، وما فيهما من قرائن تصرف النظر عن المعنى(الوضعي) إلى المعنى ” التداولي ” المنوط أساسًا باللفظ.

وقد فرق النحاة، ومنهم جارالله محمود بن عمر الزمخشري(538هـ) في ” المفصل ” بين التراكيب التي يراد بها الأمر، أو النهي، على الوجه الذي يحدده واضع اللغة، وذلك الذي يراد به غيره. فعرض شارح المفصل ابن يعيش لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذابٍ أليم) قائلا: يُحملُ مثل هذا التركيب على الاستفهام، ومع أنه لا يقصد الاستفهام عن التجارة التي تُنْجي، وهل يُدلّون أم أنهم لا يُدلون، وإنما أراد الأمْرَ، والحثَّ على النجاة.

ومثل ذلك قوله في الآية (فهل أنتم منتهون) فإن الظاهر هو الاستفهام عن رغبتهم في أن ينتهوا أو لا ينتهون. بيد أن المعنى المضمر في الآية هو انتهوا، ومثل هذا قيل عن النهي، وعن الأمر، فمنه ما يكون التماسًا، ومنه ما يكون دعاءً، ونصحًا، وإرشادًا، وتوبيخاً، وتعجيزًا، أو للإباحة، والتخيير. وتبعا لما سبق، تعد آراء السكاكي في الخبر والإنشاء، وآراء الأصوليين، وفي مقدمتهم أبو حامد الغزالي، والنحويين وعلى رأسهم شيخ النحاة الزمخشري،

دليلا على أنهم أدركوا الآتي: إن ما يفهم من الملفوظات قد يكون مغايرا لما يدل عليه اللفظ الظاهر، وأن تداول هذه التراكيب في سياقات محددة، وضمن ظروفٍ، وشروط معينة تحيط بعملية التواصل الكلامي، هو المعيارُ الذي يُحتكم إليه في معرفة مضمون اللفظ الذي عليه المعوّل في الخطاب، وإليه يُعزى الفرقُ بين الخطأ والصواب.

وقد يأخذ القارئ على المؤلف قصْرهُ الوعي بالاستلزام الحواري على ثلاثةٍ نَفَر من القدماء؛ أحدهم بلاغي، والثاني أصولي، والأخير نحوي. إذ كان المأمول أن يتتبع هذا الاستلزام لدى لغويين آخرين أكثر وعيًا من هؤلاء بقيمة المعيار التداولي في تحليل الخطاب الكلامي. فعلى سبيل المثال، وليس الحصر، ثمة من نبه على وجود البعد التداولي لدى سيبويه صاحب (الكتاب في النحو) 180هـ ونجد ملاحظ متوافرة لدى الجاحظ 255هـ في البيان والتبيين، ويقعُ المتتبّع اليقظ على وفرة من الملاحظ لدى المبرد، وابن السراج، وابن جني في ” الخصائص “.

وأيا ما يكن الأمر، فإن الدارس المنصف لا بد أن يلتمس للأدراوي عذرا في سعة الموضوع في التراث اللساني العربي، فلو استقصى الأمر لدى الأصوليين وحدَهم، من أمثال الآمدي، وابن حزم الأندلسي الظاهري، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، وقبلهم الشافعي صاحب المذهب الفقهي المعروف، مُصنّف كتاب الرسالة، وغيرهم.. لألفى مادة غزيرة تحتاجُ منه إلى زمن طويل، وجهد كبير، أينَ منه هذا الكتاب صغيرُ الحجم، جمُّ الفائدة؟ .

  • الفكر اللساني

على أنه في الفصل الثاني الموسوم بـ ” الاستلزام الحواري في الفكر اللساني الحديث ” يلقي الأضواء على أراء بعض اللغويين الغربيين ممن عرفوا بريادتهم للتوجه التداولي. وفي مقدتهم جون أوستن Austin وسيريل Searle وغرايس Grice دون أن يتوغل عميقا في النبش بحثا عن أصول الظاهرة لدى اللسانيين الأميركيين أمثال شارلز موريس Morris وبيرس، وغير الأميركيين من أمثال: آن روبول، وجاك موشلار، وكارناب Karnab.

وكان أوستن قد أسهم منذ خمسينات القرن الماضي مع بعض لغويي أكسفورد – لندن في إرساء المنحى التداولي، عن طريق استبعاد المنطق الفلسفي الخالص من تحليل الخطاب، باعتمادهم ما يسمى نظرية أفعال الكلام Speech Acts Theory وذلك شيءٌ بسط حوله القول في كتاب نشره بعنوان كيف نصنع الأشياء بالكلمات How To Do Things With Words.

ففي هذا الكتاب يستبعد أوستن الوصف النحوي التقليدي، ولا سيما الخاضع منه للمنطق الرياضي عند برتراند رسل، جاعلا من الضوابط المقالية، والحالية، مقاييس يُعزى إليها ” صدق ” الأقوال، أو ” الما- صدق “. وقد توقف عند الألفاظ التي تحمل في منطوقها عملا ناجزا. فهي لا تقتصر على وصف الواقع، ولا تحتمل الصدق أو الكذب،

وهي أقوال تحمل في ثناياها إنجازًا لعمل ما، كالوعد بشيء، أو التعهد به، أو التوصية بإرث، فأفعال الكلام ليست وصفا بل إنجازا لشيء، فلو قال رجل لامرأته : ” أنتِ طالق ” مثلا، فهذا اللفظ ينجز عملا هو الانفصال عن الزوجة، انفصالا تامًا، والشيء نفسه لو أن ثريا قال، وهو يُحْتَضرُ : أهبُ ثروتي لحفيدي فلان.. فإن هذا القول ليس خبرًا، ولا هو وصفٌ للواقع، وإنما يهب المتكلم بمقتضاه ثروة لمن ذكر اسمه في ذلك الملفوظ الكلامي.

وقد سلط العياشي أدراوي الضوء على التطورات المتلاحقة التي طرأت على هذه النظرية، فعرض للتعديلات التي أدخلها كل من أوستن، وسيرل، وغرايس، في أزمنة متباعدة. شملت هذه التعديلات مفهوم الأفعال المنجزة، والمنطوقات الأدائية، والشروط التي ينبغي لها أن تتوافر في الخطاب ليُسْمح بإدراج الملفوظ في عداد الأفعال الناجزة، مشيرا لأربعة أضرب من الأفعال:
1. الفعل التلفظي

2. الفعل القضوي

3. الفعل التأثيري

4. وأخيراً الفعل الإنجازي الذي يغلب عليه أن يكون استفهاما أو امرا أو نهيا أو نصحا أو وعدا أو تعجبا أو تهديدا. إلخ..

على أن غرايس Grice هو الآخر لا يطيب له استخدام أستاذه أوستن لتعبير الفعل اللغوي المباشر، فقد يكون الملفوظ غير مباشر، وفي الوقت ذاته منطويًا على منجز عملي، مثال ذلك عند المؤلف أدراوي الآية الكريمة ( ربَّنا لا تزغْ قلوبنا بعد إذْ هديتنا، وهبْ لنا من لدنك رحمة) فقد تضمنت الآية فعلين مباشرين، أولهما نهي (لا تزغ)، والثاني منهما أمر (هبْ) لكن المعنى التداولي لهما معا هو الدعاء، فلا نهي في الآية، ولا أمر، إلا إذا توقفنا عند ظاهر النص حسب، وهذا ليس بشيء.

وفي سائر الفصل يستقصي أدراوي الأسئلة التي تنسجم مع شروط استقبال المدلول التداولي من الفعل غير المباشر. كالتعاون بين المتكلم والسامع، وإحاطة هذا الأخير بالظروف الخارجية والداخلية المتحكمة بإنتاج الخطاب، وملاحظة ما يحتويه من عناصر تساعد على تحقيق التلقي بفاعلية؛ كالنصية، والاقترانية، والاستدلالية.

فكل عنصر من هذه العناصر يتيح للمتلقي اكتناه المضمر في ما هو ظاهر دونما مشقةٍ، أو اضطراب تواصلي، وهذه الإيضاحات التي أضافها غرايس إلى نظرية المنطوقات الأدائية، والفعل اللغوي المباشر، تؤطر في رأي المؤلف الخطاب اللغوي بصفة عامة. فكل من المتكلم والمتلقي يراعي القوانين، والأعراف المتبعة في ما هو سائد من حوار نموذجي، يستتبع مثل هذا الفهم للملفوظات. علاوة على أن كلا منهما لا بد له من أن يكون على دراية بقواعد الحوار، وقوانينه.

وقد أضاف المؤلف العياشي أدراوي لفصليْ الكتاب أمثلة تطبيقية من العربيَّة، ونماذج، تفصحُ عن طبيعة الأفعال التي يسميها أوستن ” أفعال الكلام “، مما يزيل اللَّبْس عن بعض أفكاره، ويوثق بالشواهد بعض آرائه وأنظاره.وبذلك يستحق من الشكر أجزله، ومن الثناء أوفاه.

د. إبراهيم خليل – ناقد وأكاديمي من الأردن.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

تعليق واحد

  1. شكرا على مقالكم هذا الذي أشرتم فيه الى مبحث مهم من مباحث التداولية؛ متمثل في الاستلزام الحواري الذي يسميه البعض الاستلزام التخاطبي .
    سؤالي: – أي علاقة بين مفهوم الاقتضاء في التصور العربي القديم و مفهوم الاستلزام ؟
    – أي علاقة بين الاقتضاء و الافتراض المسبق ؟
    – ما معنى الاقتضاء عند الغزالي و هل تحدث عن وجود أنواع من الاقتضاءات ؟
    ما الفرق بين متضمنات القول عند غرايس و المجاز و الكناية عند العرب القدامى؟
    و شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى