سرديات

كتابة الرواية والسيرة

 

حين يخطط كاتب ما لكتابة رواية، أو يشرع في كتابتها بالفعل، أول ما يخطر على باله ويبادر بكتابته سريعًا، ما مر بحياته من أحداث تفاعل معها، وبالتالي كانت لها الأولوية في الكتابة، أكثر من الأحداث التي يبتكرها الخيال الصرف، ودائمًا ما تحتل سنوات الطفولة، والشباب المبكر مساحات كبيرة في الروايات، بوصفها خامات وخبرات أولى، تطورت لاحقًا بتقدم العمر.

قد يستمر الكاتب في رصد أحداث حياته الحقيقية حتى تنتهي الرواية. وقد ينجو من فخها ويوظف خياله، ويخترع أحداثًا وشخصيات لم تكن من واقعه ولا صادفها في يوم من الأيام، فيسبغ على النص طعمًا آخر، وهنا نستطيع أن نسمي النص رواية.

إذا كانت كتابة الرواية عملاً شاقًا ومضنيًا، ويحتاج إلى كثير من الصبر لإنجازه، فإن كتابة السيرة أكثر مشقة في نظري. فإلى جانب رصد الأحداث ومتابعتها، ومحاولة الإمساك بخيوطها جيدًا حتى لا يضيع أحدها وينهار العمل، تأتي مسألة الصدق الذي لا بد منه، حين يكتب أحدهم سيرة ذاتية.

السيرة هنا لا تخص الكاتب وحده، لأنه لا يوجد إنسان يعيش في غرفة مغلقة بمعزل عن مجتمعه، ليكتب نفسه فقط. لا بد من أهل وأقارب ومحيطين بالكاتب، وتجارب متنوعة خاضها وسلطات تراقبه، وأشخاص ارتقى أو انحدر معهم. ولا بد من بيوت اطلع على خفاياها، وشوارع سار فيها بخير وبشر. وأخيرًا لا بد من أبواب مغلقة، وممنوع طرقها حتى برفق، سيضطر إلى فتحها جميعًا، لقراء لا يعرف عددهم، ولا مستوى فهمهم.

لذلك، لا نجد روايات كثيرة، استمرت سيرًا شخصية، حتى نهايتها بصدق. نجد في الغالب، شذرات من السيرة، تم تهجينها بكثير من الخيال، وتمت الإضافة إليها، أو الحذف منها، لتصبح بعيدة عن الصدق، وبالتالي بعيدة، عن رواية السيرة، وحين تنشر، يكتب على غلافها روايات، لمحو أي أثر لإدراجها سيرة محرجة، ربما تجر وراءها ردود أفعال، لم يكن الكاتب يحسب لها حسابًا.

هناك أيضًا محاولة تجميل السيرة الشخصية عند بعض الكتاب، وأعني هنا أن يكتب الروائي سيرة صادقة بالفعل، فيها شيء من أحداث حياته، لكنه لا يكتبها كاملة. هو هنا يكتب الوجه الصبوح من سيرته، ويغفل الوجه المتجهم أو الوجه غير المقبول. كأن يكتب أحدهم سيرة له في سجن، دخله معارضًا لسلطة ما، ويحذف شارعًا خلفيًّا موحلاً خاض فيه ذات يوم. أو أن يكتب قصة لقائه بزوجته، وكيف تعارفا وتحابا وتزوجا، وينسى عشيقات ضائعات، ضاع معهن في فترة من فترات حياته.

ولعل من الكتب التي أعتبرها صادقة في الأدب العالمي والعربي، لأنها لم تظهر وجهًا صبوحًا وتخفي آخر متجهمًا، السيرة التي كتبها الإسرائيلي عاموس عوز، بعنوان “قصة عن الحب والظلام” وصدرت منذ عدة أعوام، واحتلت مرتبة جيدة في توزيع الكتب. عاموس لم يكتب بقلم نظيف منزه عن شوائب السقوط الحتمي لكاتب يهودي من شرق أوروبا، عاش في أرض مغتصبة، باعتبارها أرضه.

فقد كتب بقلبه حقيقة. كتب عن حبه وعائلته وسكان شارع بيته وقراءاته وعلاقاته العاطفية والجنسية، ونظرته الأحادية المتطرفة للشعب الفلسطيني، الذي لم يستخدم في حقه نظرة الكاتب المثقف المتعالي على ماكينة الطحن الإسرائيلية، حين تطال شعبًا صاحب أرض يعذب فيها، ولكن تحس به يهوديًّا عاديًّا، بلا أي نظرة أخرى.

هناك أيضًا السيرة العظيمة لغارسيا ماركيز، التي ترجمها عن الإسبانية طلعت شاهين، بعنوان “عشناها لترويها”. وأعتقد أن ماركيز – وهو الكاتب الفذ- كان بإمكانه حذف كثير من مشاهد التشرد، والضياع من تلك السيرة الصادقة، لكنه لم يفعل وأبقاها هكذا، بكل ما فيها من إشراق وعتمة، من رمل صاف، ووحل تخوض فيه حتى الركبتين.

ومن أبرز نماذج تلك السير الصادقة، رواية المغربي محمد شكري الشهيرة “الخبز الحافي”. وحسب اعتقادي، فهي أول رواية سيرة كسرت كل حواجز التسامح التقليدي في المجتمع العربي، حين يصفح الولد عن أبيه برغم الظلم، ويصفح المواطن عن وطنه، مهما أذله. ولا عجب أن تلك السيرة، انتشرت بشدة، وقرئت باعتبارها من الأدب الممنوع، أو الفضائحي، في ذلك الوقت وإلى يومنا هذا.

ولو كان صديقنا الكاتب العراقي، صموئيل شمعون صادقًا في روايته “عراقي في باريس” – ولا أشك في صدقه- فقد كتب عملاً بديعًا آخر، نظيفًا من كل شوائب النقاء المصطنع، حيث كل الأشياء موجودة بمسمياتها، ولم يكن ينقص سوى أن يكتب على غلاف كتابه سيرة.

يحضرني أيضًا كتاب “بائع الكتب في كابل”، وهو سيرة لعائلة سلطان بائع الكتب الأفغاني الذي يملك مكتبة في وسط كابل، يبيع فيها لزبائنه، كل ما يستطيع إدخاله من كتب، كانت قراءتها ممنوعة في زمن يكاد أن يمنع فيه التنفس الحر.

السيرة له ولعائلته، وكتبتها صحفية أمريكية تعرفت على سلطان، وعاشت في وسط أفراد أسرته لمدة عام تقريبًا، واقتربت من خفايا تلك العائلة وشهدت أفراحها وأحزانها، طقوس الولادة عندها وطقوس الزواج والموت، وكثيرًا من الأشياء المدسوسة تحت نقاب النساء.

ومن خلال تلك السيرة أيضًا، نبشت الكاتبة أفغانستان في عهد طالبان نبشًا شديدًا، وعادت إلى بلادها بمحصول وافر. وسعى بائع الكتب – الذي وافق على دس الكاتبة وسط حريمه، والسماح لها بالكتابة عن أسرته من قبل- إلى مقاضاتها، وطلب تعويض كبير بعد أن انتشر الكتاب عالميًّا، بوصفها انتهكت خصوصية عائلة محافظة وعرضتها للعالم. وما ذلك التصرف من بائع الكتب إلا رد فعل كان متوقعًا. ولا أعتقد أن هناك من حرّكه، ولكن لينال نصيبه من الغنيمة الكبيرة التي غنمتها الكاتبة.

هناك أيضًا نوع من السيرة، هي في الحقيقة ليست سيرة، ولكنها متخيل لسيرة لم تحدث، يكتب عليها الكاتب، أنها سيرة، ويروج لها على هذا الأساس. الكاتب هنا، يسعى لجذب أكبر عدد من القراء، ومعروف أن السيرة الذاتية لأي شخص، له نصيب من الشهرة لها عشاقها وقراؤها. ومن أمثلة ذلك ما كان يكتبه الروائي الراحل، أرنستو ساباتو، باعتباره سيرة، وهو في الحقيقة متخيل صرف.

في النهاية، أعود لأشدد على مسألة الصدق في الكتابة، ما هو رواية، يكتب رواية، وما هو سيرة، يكتب سيرة، مهما كانت تبعاتها، وعلى الكاتب الذي يخشى فوران مجتمعه المحيط، أن يقنع بكتابة روايته العادية، التي تحوي شيئًا من السيرة، وشيئًا من خياله، حتى ينجو، ولا أظن أن السير المنقحة، يحترمها القارئ، الذي سيكتشفها بسهولة. لأن الحياة ليست كلها نجاحات، وليست كلها حدائق مزروعة وردًا.


د. أمير تاج السر / كاتب وروائي سوداني


خاص لمجلة فكر الثقافية

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى