النقد الاجتماعي: قراءة في الأسس النظرية للممارسة النقدية
تلعب الممارسة النقدية الجادة دوراً أساسياً في تطور المجتمعات وازدهارها للانتقال بها إلى حالٍ أفضل، من خلال تسليط الضوء على مكامن الخطأ والخلل فيها بهدف الإصلاح والتقويم تحقيقاً للصالح العام، الذي يعود بنفعه على جميع أفراد المجتمع.
والسؤال المفصلي الذي يطرح نفسه علينا، كيف يمكننا تجسيد هذه الممارسة (النقدية) التي تسعى إلى تحقيق الصالح العام على أرض الواقع الاجتماعي؟ في حقيقة الأمر، قبل أن نحوض في غمار هذه الفكرة سنحاول تسليط الضوء على مفهوم النقد لتوضيح معانيه وغاياته وكيفية ممارسته، وما هي سمات العقل النقدي؟
ترتد كلمة النقد لغوياً إلى اللفظ الإغريقي Xpivier ويعني الحكم، وهو نفس ما يعنيه تعريفها القاموسي في لغات أوروبا القديمة والوسيطة، ويحدد لنا بوتومور دلالتين للمصطلح في اللغة الانكليزية الأولى هي الـ Criticism ويعني النقد بمعناه الشائع بمعنى الكشف عن الأخطاء، كما يعني الفحص الدقيق غير المتحيز لمعنى شيء ولمضمونه وقيمته، والثانية هي Critique وتعني النقد المستند إلى أسس منهجية واضحة المعالم. فالنقد يعني فاعلية نظرية وأداة إجرائية رئيسية في النظر والتفكير تستهدف مسألة الطرق التي تتكون بها القناعات بإظهار زيفها ونقصها وتجريحها([1]).
أطلق العلماء الاجتماعيون على القرن الثامن عشر الأوروبي اسم قرن النقد، وقد ارتبط هذا النقد بحركة دينية وفلسفية شاملة ابتدأت في انجلترا وفرنسا بتكسير الشكل التقليدي للمعرفة الفلسفية أي الشكل الميتافيزيقي وهو يرفع شعار محاربة اللاهوت والخرافات التي تكبل تفكير الإنسان الأوروبي وتقيد عقله، ونادت بإعطاء الحرية للعقل ونقد شامل لكل الأشياء والظواهر والمؤسسات والمفاهيم، لإخضاع هذه الموضوعات لمحك العقل وبالتالي الخروج بأوروبا من ظلام الجمود والظلم والأساطير إلى أنوار العقل والتقدم والحرية([2]).
تستعمل كلمة نقد اصطلاحياً في “معجم لالاند” لفحص مبدأ أو الظاهرة للحكم عليه حكماً تقويمياً تقديرياً، لذلك يطلق مفهوم العقل النقدي على الفكر الذي لا يأخذ بأي إقرار دون التساؤل أولاً عن قيمة هذا الإقرار سواء من حيث المضمون أو الأصل. ويطلق النقد إما على اعتراض وإما على استقباح يدور حول نقطة خاصة، وإما على دراسة إجمالية ترمي إلى دحض أو إدانة عمل ما([3]).
ويمكن اعتبار النقد مجرد وسيلة وليس هدفاً لوسيلة توجيهية “مع” أو “ضد” وربما بينهما، فهو أحياناً يتضمن الرفض وأحياناً أخرى يشير إلى المعرفة الإيجابية للحدود. فهناك من يذهب إلى القول بأن النقد خروج المزيف من الأصيل، وهناك من يذهب إلى أن النقد هو توجيه السهام لنقاط الضعف، وهناك من يحاول أن يستخدم النقد كبنية أساسية لبناء صرح فكري أساسه التخلص من الأفكار الزائفة والضعيفة ([4]).
وفي النهاية، لا نقصد بممارسة فعل النقد التجريح ولا السباب ولا التنقيص من القيمة الإنسانية أو غيرها، بل تجسيد حرية الفكر وحرية النقد. والنقد الحقيقي هو الذي يغوص في المعاني ويفككها ويبحث عن يقين يستطيع من خلال إدراك حقيقة الأشياء والمعاني بموضوعية بعيداً ع الذاتية ([5]).
يؤكد لنا تاريخ التنظير السوسيولوجي* أن الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع، ظهرت كرد فعل طبيعي ومنطقي تجاه الأزمات والمشكلات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، التي كانت ومازالت تعتري الواقع الاجتماعي بكل تجلياته.
إن الدراسة التحليلية لحركات النقد الاجتماعي التي ظهرت ضمن إطار الاتجاهات النقدية عموماً، تكشف لنا عن وجود مستويين أساسيين لهذا النقد، ففي المستوى الأول نجد أن النقد الاجتماعي يعبر عن احتجاج اجتماعي شامل يستهدف التأكيد على ضرورة التغيير الأساسي والجوهري للأنماط الحضارية القائمة، إذ يبدأ هذا النقد بالتحليل السلبي لعيوب السياق الاجتماعي القائم ونقائضه، من خلال العمل على تجسيد حركة احتجاج تنظر إلى الواقع كشيء يمكن إعادة تشكيله وتغييره.
أي امتلاكها لتصور مثالي لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، بحيث يصبح هذا التصور بدوره الإطار المرجعي الأولي لتنفيذ ما هو قائم، فيؤكد هذا المستوى على ضرورة امتلاك الحركة النقدية لقوى اجتماعية تصبح هي الفاعل الثوري (الراديكالي) الذي ينتقل بالمجتمع مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، من خلال التأكيد على اكتمال حركة التحول الاجتماعي والحضاري([6]).
أما المستوى الثاني للنقد الاجتماعي فيمكن اعتباره أقل راديكالية وشمولاً لأنه يتبنى النقد الثقافي والتنويري فقط، أي أنه يهدف إلى عملية التغيير الثقافي والتنويري لتشكيل توجهات ثقافية وقيمية جديدة تحكم التفاعل الكائن في الواقع الاجتماعي والحضاري، ويظهر هذا المستوى من النقد الاجتماعي حينما تنحدر الحركات السياسية الراديكالية وتقتصر بأهدافها على النقد الذاتي والثقافي للمجتمع، أو عندما لا يكون الفاعل الثوري للمجتمع مهيأً لتنفيذ مهام النقد ومتطلباته.
هذا النقد قد يصبح هو المستوى المسموح به حينما يثبت الواقع ويؤكد صلابته أمام الانتقادات الموجه إليه، حيث يسعى هذا الواقع إلى استيعاب مضمون النقد بما يدعم بنائه وصلابته ويفقد النقد مبرره ومشروعيته. ويبرز هذا المستوى النقدي في المراحل التاريخية التي يكون فيها الواقع الاجتماعي قوياً، قادراً على استيعاب تناقضاته مؤكداً على وحدته وتكامله، أو حينما يقتصر النقد الاجتماعي على فضح وتفنيد ما هو قائم، وامتلاك القدرة على الانطلاق إلى ما ينبغي أن يكون عن طريق امتلاك نموذج مثالي ومستقبلي يتحرك نحوه المجتمع، أو حينما لا يمتلك التيار النقدي قوى التحول الاجتماعي([7]).
يوجه العقل النقدي أو “العقل الكلي أو العقل الموضوعي“، في مقابل ” العقل الأداتي ” ([8])، ممارسة الفعل النقدي في الواقع الاجتماعي، وكلمة نقدي هنا مبهمة إلى حد ما، وتعود إلى مفهوم كانط في النقد، فكانط كان يرى عمله باعتباره جزءاً من المشروع التنويري الغربي الذي رفض جميع الحجج التقليدية القائمة وأخضع كل شيء للنقد، ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد وإنما أخذ خطوة للأمام وأخضع العقل للعملية النقدية نفسها، أي أن كانط أخضع أداة الاستنارة الكبرى للنقد وبيَّن حدودها الضيقة، متجاوزاً بذلك عقلانية عصر الاستنارة، أي أن هناك عقلانيتين: عقلانية مباشرة سطحية، وعقلانية أكثر عمقاً، وهذا هو الذي ترجم نفسه إلى عقلانية العقل الأداتي وعقلانية العقل النقدي. والعموم يتسم العقل النقدي بما يلي:
- ينظر العقل النقدي إلى الإنسان لا باعتباره جزءاً من كل أكبر منه يعيش داخل أشكال اجتماعية ثابتة معطاة، مستوعباً تماماً فيها وفي تقسيم العمل القائم، وإنما باعتباره كياناً مستقلاً مبدعاً لكل ما حوله من الأشكال التاريخية والاجتماعية.
- لا يدرك العقل النقدي العالم ( الطبيعة والإنسان ) كما تدركه العلوم الطبيعية، باعتباره نتاجاً ثابتاً و وضعاً قائماً وسطحاً صلباً، وإنما يدركه باعتباره وضعاً قائماً وإمكانية كامنة.
- لا يقنع العقل النقدي بإدراك الجزئيات المباشـرة، فهو قادر على إدراك الحقيقة الكلية والغاية من الوجود الإنسـاني.
- العقل النقدي قادر على التعرف على الإنسان من خلال دوافعه وإمكانياته والغرض من وجوده.
- بناءً على ما تقدم نجد أن العقل النقدي قادراً على تجاوز الذات الضيقة والإجراءات والتفاصيل المباشرة والحاضر والأمر الواقع، لذا يمكن تسمية العقل النقدي بـ (العقل المتجاوز)، فهو لا يقبل الواقع بصورته المطلقة الجامدة، وإنما يمكنه القيام بجهد نقدي تجاه الأفكار والممارسات والعلاقات السائدة والبحث في جذور الأشياء وأصولها وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح وهذا هو الجانب التفكيكي في العقل النقدي.
- يدرك العقل النقدي الحقيقة الكلية والإمكانيات الكامنة ليست كعوامل مجردة متجاوزة للإنسان (الفكرة الهيجلية المطلقة)، وإنما هي كامنة في الإنسان ذاته، والعقل النقدي قادر على رؤيتها في كمونها هذا أي أن الإنسان يحل محل الفكرة المطلقة.
- لا توجد الحقيقة في الواقع بذاته وإنما تقع بين الواقع الملموس، كما يحدده المجتمع من جهة والخبرة الذاتية من جهة أخرى. لذلك فالوضع الأمثل هو وضع التوازن بين الذات والموضوع وهذا ما يقدر على إنجازه العقل النقدي وما يفشل فيه تماماً العقل الأداتي.
- يعتبر التاريخ عملية كاملة تتحقق من خلالها الذاتية الإنسانية، أي أن التاريخ هو الذي يرد إلى الإنسان (خالق التاريخ) وليس الإنسان هو الذي يرد إلى التاريخ، لذلك فإن المجتمع في كل لحظة هو تجل فريد للإنسان، وتحقق الإمكانية الإنسانية في التاريخ هو الهدف من الوجود الإنساني.
- يمكن إنجاز عملية انعتاق الإنسان وتحريره من خلال التنظيم الرشيد للمجتمع المبني على إدراك الإمكانية الإنسانية الذي يعتمد على الترابط الحر بين جميع أفراد المجتمع الذين يتاح لهم نفس الإمكانية لتنمية أنفسهم بنفس الدرجة المعطاة للجميع الأمر الذي يؤدي إلى القضاء على الاستغلال وانتفائه فيما بينهم.
- يمكن للعقل النقدي أن يساهم في هذه العملية من خلال الجهد التفكيكي الذي أشرنا إليه. كما يمكنه أيضاً القيام بجهد تركيبي إبداعي، فهو قادر على التمييز بين ما هو جوهري وبين ما هو عرضي، وعلى صياغة نموذج ضدي ليس انطلاقاً مما هو معطى وإنما مما هو متصور وممكن في آن واحد ويمكن على أساسه تغيير الواقع، أي أن العقل النقدي يطرح أمام الإنسان إمكانية تجاوز ما هو قائم دائماً انطلاقاً من إدراكه لما هو ممكن بداخله، أي أنه يفتح باب الخلاص والتجاوز أمام الإنسان وهو عكـس التكـيف والإذعـان للأمر الواقع (على طريقة العقل الأداتي)([9]).
وفي هذا السياق، لابد لنا من الاستشهاد بالمقولات النظرية النقدية لماكس هوركهايمر([10]) باعتباره من أهم رواد مدرسة فرانكفورت النقدية هذا من جانب، ومن جانب آخر باعتباره مؤسس النظرية النقدية.
تسعى النظرية النقدية عند هوركهايمر إلى تحقيق ثلاث مهام: أولها الكشف في كل نظرية عن المصلحة الاجتماعية التي ولدتها وحددتها، وهنا يتوجه هوركهايمر، كما فعل ماركس، إلى تحقيق الانفصال عن المثالية الألمانية ومناقشتها على ضوء المصالح الاجتماعية التي أنتجتها.
وتنحصر المهمة الثانية للنظرية النقدية في أن تحافظ هذه النظرية على وعي بكونها لا تمثل مذهباً خارجاً عن التطور الاجتماعي التاريخي. فهي لا تطرح نفسها باعتبارها مبدأ أخلاقياً، أو أنها تعكس أي مبدأ أخلاقي خارج صيرورة الواقع. والمقياس الوحيد الذي تلتزم به هو كونها تعكس مصلحة الأغلبية الاجتماعية في تنظيم علاقات الإنتاج بما يحقق تطابق العقل مع الواقع، وتطابق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة.
أما المهمة الثالثة، فهي التصدي لمختلف الأشكال اللا معقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل وأن تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركهايمر بالعقل الأداتي([11]).
بناءً على ما تقدم يذهب عالم الاجتماع المعاصر الفرنسي ديدييه إريبون ( 1953- ) أن التفكير النقدي عبر المجتمع ( في المستوى الثاني ) لا بد أن يتجاوز وجهة نظر الفاعلين الاجتماعيين والمعنى الذي يقدمونه ويضفونه على أفعالهم الاجتماعية التي لا تمثل سوى نوعاً من الإيديولوجيا التبريرية للوضع القائم وتحقيق المصالح الخاصة الشخصية.
وبرأيه، لتفعيل دور النقد الاجتماعي علينا أن ننجز قطيعة إبستمولوجية مع الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا ونعيد بناء مجموع النظام عبر فكرنا، ومعه الميكانيزمات (الآليات) التي تسمح بإعادة إنتاجه، وعبر ذلك إجراء القطيعة مع الطريقة التي تجعل المُسيطَر عليهم يدعمون القوى المسيطرة، مثلاً عبر اختيارهم للإقصاء الاجتماعي بمحض إرادتهم.
ويوضح إريبون أن أهمية الرؤية النقدية وقوتها لا تكمنان في قدرتها على تسجيل ما يقوله الفاعلون عن أفعالهم، بل في تمكينها الأفراد والجماعات من التفكير في وضعهم بشكل مختلف، وعبر ذلك بتجاوز الجمود الاجتماعي وبتغيير نظام الأشياء.
في هذا الرؤية يحاول إريبون تحييد الأفكار ووجهات النظر الفردية النخبوية التي تسعى إلى السيطرة على الواقع الاجتماعي وإضفاء نوعاً من القداسة الاجتماعية والدينية أيضاً عليها، وهي في حقيقة الأمر مجرد أفكار فردية ذات أهداف ومصالح وغايات تبريرية تعود بالنفع على فئة معينة هدفها الأول والأخير إحكام السيطرة على الواقع الاجتماعي والسياسي وتطويعهما لصالحها.
وهكذا يحاول إريبون الوصول إلى رؤية نقدية حقيقية تتجاوز رؤية الفاعلين الاجتماعيين الضيقة لتشمل تلك الرؤية كل مكونات المجتمع. ويترتب على ذلك أن يكون النقد بنائياً وليس تأويلياً، على اعتبار أن الأخير لا يقيم وزناً للأبنية الاجتماعية ولا بطرق تشكُّلها، بل يهتم فقط بالتفاعل القائم بين الوحدات الاجتماعية الصغرى، كما أنه لا يستطيع تقديم رؤية في التغيير الاجتماعي بعيدة المدى، ومعنى ذلك أنه لا يستطيع بالمقابل تقديم نقد حقيقي للواقع الاجتماعي ” لأنه يعتمد بشكل أساسي على رؤية الفاعلين الاجتماعيين والمعنى الذي يضفونه على أفعالهم من خلال عملية التفاعل الاجتماعي الذي يعتمد بشكل أساسي على اللغة والمعنى الذاتي”([12])، مما يصبح عرضةً للتضليل والتزييف من قبل النفوس الانتهازية والوصولية.
وهذا ما يحدث في حقيقة الأمر في معظم المجتمعات النامية بشكل عام والمجتمعات العربية بشكل خاص التي لا يتجاوز فيها النقد حدود الفاعلين الاجتماعيين أي القائمين على العملية السياسية والنخب الثقافية الموالية لها، مما يؤدي إلى تحيّز الفاعلية أو القصدية وتحيّز التأكيد والوقوع في الذاتية والابتعاد عن الموضوعية لترسيخ دعائم النظام الاجتماعي القائم وإبقاء المجتمع بعيداً عن التيارات النقدية الحقيقة التي تفضي إلى التغيير والتطوير… لذا يجب أن يكون النقد غاية مجتمعية وليس فردية لصالح فئة معينة. أي النقد من أجل الصالح العام.
ولتفعيل هذه الممارسة يقترح المفكر الألماني يورغن هابرماس 1929 – ) أحد أعلام مدرسة فرانكفورت النقدية أن تقوم عملية النقد في الواقع الاجتماعي على أسس ومبادئ الفعل التواصلي المرتكز بدوره على العقلانية التواصلية، التي تمارسها ” ذات قادرة على الكلام والفعل بهدف التوجّه نحو التفاهم بين الذوات “([13])، مما يؤدي حكماً إلى عدم اللجوء إلى العنف أو إلى إلغاء الآخر والسيطرة عليه، وذلك بفضل قدرة ” الفعل التواصلي الذي يحدد العلاقات داخل مجالات عمومية قائمة على المناقشة والحوار متخذةً من المبادئ الأخلاقية أساساً لها، أطلق عليها هابرماس أخلاقيات المناقشة “([14])، التي تحكم العملية التواصلية حسب معايير متفق عليها([15]).
ولكن تلك الأخلاقيات ليست مذهباً ولا نسقاً من القيم والمعايير الجامدة أو الثابتة ([16])، والدليل على ذلك، في أنه إذا تشكك أحد المشاركين في العملية التواصلية في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو إذا تعرضت أحد ادعاءات الصلاحية للشك، أو لم يستطع المشاركون في التواصل تبريرها أو الدفاع عنها بالحجج العقلانية، فإن ادعاءات الصلاحية نفسها تصبح موضع سؤال، مما يؤدي إلى اختلال التواصل أو توقف، وفي هذه الحالة لا بد للمشاركين في التواصل إعادة فحص تلك الادعاءات من جديد ومراجعتها مراجعة نقدية لتصحيح أخطائها، ومعنى ذلك أن العملية التواصلية تخضع لما يسمى بديمقراطية الحوار([17]).
وهكذا يعتمد هذا التفسير على البعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار، ” وفقاً لشروط وقواعد أخلاقية تنفي قهر الذوات أو السيطرة عليها أو خداعها مما يتيح لهم الفرص بالتساوي للمشاركة في الحوار والنقاش وصنع القرار “([18])، كما أن الإجماع لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل.
وفي هذا الصدد، يجب علينا أن نذكّر، أنه لا يصح للناقد أن يمارس نقده في كل شيء وهو لا يمتلك معرفة في المجال محل النقد، ذلك أن أدوات النقد بمعية الإلمام بالمادة محل النقد لا بد منهما، لتكون مسألة النقد شمولية، وبدون ذلك لا يمكن أن يسمى نقداً إذا افتقد الناقد العلم بالمسألة.
أما عن غاية ممارسة النقد الاجتماعي، فيجب أن تكون واضحة المعالم، فحري على من يمارس النقد أن يستعد لوضع البدائل المناسبة، فإن ذلك يحقق له التوغل أكثر في المسألة محل النقد، والنظر في حيثياتها وأبعادها المختلفة، ويساهم من خلال ذلك في ترقية المجتمع، ذلك أن النقد بهذه الصورة تكون إيجابية، وأن الناس ليسوا على مستوى واحد من النشاط الذهني والتقبل، ولذا نجد لدى المجتمعات المتقدمة عدة مستشارين ونقاد، وهذا ما يحقق لهم النجاح لوجود الأدوات اللازمة للنقد، وأنهم على استعداد لسد الثغرات ومعالجتها عند حدوث طارئ، وهذا ما تفتقده معظم المجتمعات العربية والإسلامية فيما يتعلق بالنقد البناء الذي يؤدي إلى الازدهار والتطوير والتحديث نحو حياة أفضل.
([1]) توم بوتومور: مدرسة فرانكفـورت، ترجمة: سعد هجرس، دار أويا، بنغازي، 2004، ص (205).
([2]) محمد نور الدين آفاية: الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة: نموذج هابرماس، دار إفريقيا للنشر، المغرب، ط1، 1991، ص (28).
([3]) أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، مجلد:1، 1966، ص (237-238).
([4]) أبو النور حمدي أبو النور حسن: يورجين هابرماس “الأخلاق والتواصل”، دار التنوير، بيروت، 2009، ص (20).
([5]) عبد العزيز الدخيل: حوار بعنوان: لا توجد ليبرالية عربية أو ليبرالية أمريكية، توجد ليبرالية فقط.. وهي انعتاق العقل من القيد وقدرته على التفكير، حاوره: نادر الحمامي، مجلة الفيصل، العددان: 523- 524، رمضان – شوال 1441ه، مايو يونيو 2020، ص (69).
* لمزيد من المعلومات حول مفهوم التنظير السوسيولوجي انظر: حسام الدين فياض: ماهية التنظير السوسيولوجي، الحوار المتمدن، العدد: 7365، 8 / 9 / 2022. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=767886
([6]) علي ليلة: الفكر النقدي في علم الاجتماع – جماعاته وتياراته، من مقدمة كتاب: النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع (الآراء الفلسفية والاجتماعية للمدرسة النقدية)، تأليف: زولتان تارد، ترجمة: علي ليلة، المكتبة المصرية، القاهرة، 2004، ص (10-11).
([7]) علي ليلة: المرجع نفسه، ص (11).
([8]) لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم- محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ع)244(، شهر يناير، 1999، ص (316).
([9]) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع- دراسة في النظرية السوسيولوجية المعاصرة، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص (53-54 ).
([10]) ماكس هوركهايمر: النظرية التقليدية والنظرية النقدية، ترجمة: مصطفى الناوي، مراجعة،: مصطفى خياطي، عيون المقالات، المغرب، ط1، 1990.
([11]) توم بوتومور: مدرسة فرانكفـورت، مرجع سبق ذكره، ص (206-207).
([12]) انظر: حسام الدين فياض: نظرية التشكيل البنائي لدى أنتوني جيدنز ( محاولة للتوفيق بين البنية والفعل في فهم المجتمع الإنساني)، المجلة العربية للعلوم ونشر الأبحاث – مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، فلسطين، المجلد: 4، العدد: 7، 30 يوليو 2020، ص (36).
([13]) أبو النور حمدي أبو النور حسن: يورجين هابرماس ” الأخلاق والتواصل “، مرجع سبق ذكره، ص (143).
([14]) حسام الدين محمود فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(396).
([15]) عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين وبحوث فلسفية أخرى، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط1، 2001، ص (100).
([16]) نور الدين علوش: المدرسة الألمانية النقدية- نماذج مختارة من الجيل الأول إلى الجيل الثالث، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2013، ص(85).
([17]) عطيات أبو السعود ، الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، مرجع سبق ذكره، ص (104).
([18]) هشام عمر النور: تجاوز الماركسية إلى النظرية النقدية، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2012، ص(41).