الدرس الأدبي الجامعي
تتحقق الدراسات الأدبية العربية من خلال وسيطين اثنين: البحث الجامعي، من جهة، والإعلام الثقافي، من جهة أخرى. وبالنظر إلى ضعف الأداء الأكاديمي العربي، وانحسار الإعلام الثقافي، بالمقارنة مع ما كان عليه الأمر في عقود خلت، لا يمكننا إلا التسليم بضعف الدراسات الأدبية العربية، وتخلفها بالقياس إلى ما تعرفه البلدان المتطورة.
أثار الوضع العام الذي يعرفه الإبداع الأدبي، والدراسات الأدبية معا، اهتمام الكثيرين متابعين ومنخرطين في المجال الأدبي، ولكل رؤيته الخاصة إلى الواقع الذي يشخصه بالكيفية التي يراها مناسبة، إما بلعن الظلام، أو بالتفكير في إشعال شمعة.
لما كان الإعلام الثقافي غير قابل للتطور إلا بتطور البحث الجامعي، كان تعثر هذا الأخير مؤثرا في ذاك الإعلام. ولا يسعنا هنا سوى أن نذكر بأن فترة ازدهار الإعلام الثقافي العربي، في مصر الأربعينيات والخمسينيات مثلا، وفي باقي الوطن العربي خلال السبعينيات والثمانينيات، كان مرده إلى انخراط الباحثين الجامعيين في الحياة الأدبية العامة، من خلال الجرائد وملاحقها والمجلات الأدبية والثقافية.
وكانت تحذوهم في ذلك إرادة الانخراط في الحياة العامة، السياسية والاجتماعية، من الزاوية الأدبية والثقافية. فكان ذلك عنوان حقبة مهمة في تاريخ تطور الثقافة والإعلام والجامعة.
حين نتأمل اليوم واقع الجامعة وما تعرفه الدراسات الأدبية فيها نجدها متخلفة عما يزخر به الإبداع العربي المعاصر، من جهة، ومن جهة أخرى عاجزة عن مواكبة، بله اللحاق بما تمور به الدراسات الأدبية على المستوى العالمي.
فكيف يمكننا تفسير ذاك التخلف، وهذا العجز؟ وهل من سبيل إلى تطوير الأدب ودراسته ليأخذ مكانته اللائقة به في الحياة؟ إذا استرجعنا الفترات الزاهية في تاريخ الدراسات الأدبية العربية نجدها مرتبطة بوجود حركة عامة ينخرط فيها الجميع سجالا وحوارا واختلافا. فعندما هيمن الاشتغال بتاريخ الأدب منذ بداية تأسيس الجامعة العربية، وجدنا التأليفات المتعددة التي تتقدم إلينا من خلال تصورات متنوعة، مؤتلفة ومختلفة، وكل منها يسعى إلى الانخراط في الاهتمام العام المشترك.
لقد بقيت صورة الأستاذ ـ المؤسسة متجذرة في متخيل الأستاذ المنخرط في البنيات التنظيمية الجديدة، مع فارق جوهري هو أنه تنقصه الروح التي كان يشتغل بها نموذجه الذي «يقلده».
ويمكننا تأكيد الشيء نفسه عندما هيمن النقد الأدبي في الخمسينيات مع الواقعية، أو في الثمانينيات مع البنيوية. لقد ظهرت اتجاهات متعددة، وكل منها يرمي إلى التطوير والتميز. صحيح كان العمل فرديا، ولكن كانت تنظمه رؤى مشتركة حددت الإطار العام، وأبقت خصوصية المشتغلين بالدراسة الأدبية ليبرز كل ما عنده من إمكانات الاختلاف وفرض الذات.
وإذا قارنا وضع الأمس بما هو قائم اليوم، نجد اختلافات شبه جذرية على مستوى النظام الذي بدأت تعرفه الجامعة العربية، وبنياتها التنظيمية: لقد برزت إلى الوجود فرق البحث، والمختبرات والمراكز. وصارت، تبعا لذلك، إمكانات ترقية الأستاذ مبنية على الانخراط والمشاركة فيها، وكلها دالة لمن ألقى السمع وهو بصير، إنها دعوة، أو دعوى بالأصح، إلى انتقال فكرة الجامعة، في مجال الدراسات الإنسانية والأدبية، على سبيل المثال، من «العامل الفردي» الذي كان يعني التركيز على «الأستاذ ـ المؤسسة»، (طه حسين نموذجا)، إلى «العمل الجماعي» الذي تغدو فيه «المؤسسة» (الفرق، المختبرات، المراكز) مبنية ليس على الأستاذ، ولكن على الباحثين المنخرطين في البحث المشترك (الأساتذة)، ويؤازرهم في ذلك الطلبة أيضا، وعمادهم في ذلك «المشروع العلمي» الذي يشتغلون به جميعا.
لم تتحقق الدعوى، ولا الدعوة. بقي العمل الفردي سائدا مع انعدام وجود الأستاذ ـ المؤسسة. وبقيت الفرق والمختبرات والمراكز «علامات»، متشظية بدون روح بحث، ولا رؤية علمية لأنها لم تتأسس على رؤية جديدة ومختلفة جذريا عما مورس في أزمنة سابقة.
صار الانتماء إلى هذه «المؤسسة الجماعية» فقط عبارة عن معادلة تضاف إلى السيرة الشخصية لـ»الباحث»، ليس في مشروع علمي، ولكن فقط للباحث الذي لا تهمه سوى الترقية الإدارية. وصار كل هم الجامعات العربية، بدون استثناء، وبفعل هذه التنظيمات الجديدة، وما صاحبها من تحولات جديدة، أن تنال حظوة في ترتيب الجامعات العالمية.
عندما نقارن «الأساتذة ـ المؤسسة» في الماضي، بما يجري اليوم، نجد الفرق بين الثرى والثريا. وحين نتأمل المجلات الثقافية ومنشورات الجامعات بالأمس، لا نرى إمكانيات لتفضيل الغد على الأمس. لقد بقيت صورة الأستاذ ـ المؤسسة متجذرة في متخيل الأستاذ المنخرط في البنيات التنظيمية الجديدة، مع فارق جوهري هو أنه تنقصه الروح التي كان يشتغل بها نموذجه الذي «يقلده».
سئل المرحوم الفاضل أمجد الطرابلسي مرة: لماذا لا تؤلف الكتب، وأنت أهل لذلك أكثر من غيرك؟ فأجاب: إنني أؤلف «الرجال». وكل «الأساتذة ـ المؤسسة» في المغرب الذين درسوا عليه، يعترفون بفضله عليهم، ويؤكدون أنه فعلا مؤلف رجال.
إن ما كان يهم الأستاذ ـ المؤسسة هو تكوين الأجيال، والانخراط في الفضاء الاجتماعي والسياسي والثقافي بهدف تطوير المجتمع، وهنا نبل رسالة «الأديب»، كما كان يسمى. لم يكن منشغلا بالكتابة من أجل الترقية أو الشهادة. كم من الأساتذة تقاعدوا ولم يقدموا شهادة الدكتوراه ومع ذلك يذكر الكل عطاءهم المتميز والجاد.
إن تأسيس الفرق والمختبرات والمراكز بدون مشروع علمي ورؤية علمية دعوى باطلة.