نوادر أبي دلامة
أبو دلامة: زند بن الجون، رجل كوفي خفيف الظل أدرك آخر زمن بني أمية ولم يكن له نباهة في أيامهم، ولكنه نبغ في أيام بني العباس، فانقطع إلى أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور والمهدي، وكانوا يقدمونه ويفضلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره.
روي أنه لما توفي الخليفة العباسي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على خليفته المنصور والناس عنده يعزونه، فأنشد:
مات الندى إذ متَّ يا بن محمدٍ
فجعلته لك في التراب عديلا
قال: فأبكى الناس قوله. وغضب المنصور غضباً شديداً وقال: إن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. قال: يا أمير المؤمنين، إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرماً، وهو الذي جاء بي من البدو، كما جاء الله بإخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين».
فقال المنصور: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعلم ذلك؟ قال: هؤلاء وأشار إلى جماعة ممن حضر فوثب سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا:
صدق أبو دلامة، نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبي أيوب الخازن وهو مغيظ: يا سليمان ادفعها إليه وسيّره إلى ذا الطاغية يعني عبد الله بن علين، وكان قد خرج بالشام وأظهر الخلاف فوثب أبو دلامة وقل: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن أخرج معهم، ووالله ما أحب أن يجرب ذلك مني على مثل هذا العسكر.
فإني لا أدري أيهما يغلب: يمنك أو شؤمي، إلا أني بنفسي أوثق وأعرف وأطول تجربة. فقال الخليفة: دعني وهذا، فمالك من الخروج بد. قال: فإني أصدقك الآن، شهدتُ والله تسعة عشر عسكراً كلها هزمت، وكنت سببها، فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك تمام العشرين فافعل. فضحك المنصور وأمره أن يتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة.
وقيل: إنه خرج يوماً مع المهدي ووزيره علي بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظباء، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، ورمى المهدي سهماً فأصاب ظبياً، ورمى علي بن سليمان فأصاب كلباً فقتله، فقال أبو دلامة متودداً إلى الخليفة:
قد رمى المهدي ظبياً
شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان
رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما كل
امرئ يأكل زاده!
فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبو دلامة، وأمر له بجائزة.