العروي والجابري .. مواجهة فكرية غير مباشرة
يستطيع المهتم بالفكر الفلسفي في المغرب أن يتأكد من قوة الحضور الرمزي، لكل من عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري في الثقافة المغربية والعربية، فقد استطاع كل منهما أن يبني رصيداً هائلاً من النصوص والأسئلة والمواقف، وشكل إسهامهما المتواصل في الفكر العربي، خلال العقود المنصرمة، علامة غنى، لا تقبل الجدل.
في كتابه «الفكر الفلسفي في المغرب.. قراءات في أعمال العروي والجابري» يبحث د. كمال عبد اللطيف كيفية نظر كل منهما لمساهمة الآخر الفكرية، وذلك بالاعتماد على نصوصهما، وقد بدت صورة كل منهما في مقالات الآخر متماسكة واضحة المعالم.
يشير عبد اللطيف إلى أن الصمت المتبادل بين الباحثين يتضمن موقفاً غير معبر عنه، فمرآة كل منهما لا تسع صورة الآخر، ولعله لا ينعكس فيها كما هو، بل كما يتصوره الآخر، كما أن اختلاف نظرة كل منهما في الجواب على سؤال النهضة وكيفية تجاوز التأخر،
بل واختلافاتهما في كيفية التعبير عن إشكالات الفكر ومفاهيمه، تعتبر مسألة طبيعية، إضافة إلى كونها مسألة مشروطة بمعطيات تتجاوز الأفراد، الذين يجسدونها في نصوصهم، هذا هو معيار الاختلاف الفعلي.
في «مفهوم العقل» للعروي يرد اسم الجابري في سياق لا تذكر فيه الأسماء، بل تذكر المواقف والاختيارات، وذلك أثناء نقده لنزعات الفكر التوفيقية الانتقائية، التي تواصل انتعاشها وانتشارها في فضاء الفكر العربي المعاصر، إنه يرد ضمن تيار كبير.
وفي سياق آخر، لا يرد فيه اسم العروي، يتحدث الجابري في «بنية العقل العربي» عن سهولة المواقف الراديكالية في التاريخ، مستخدماً لغة الاستعارة، حيث يقول: «ما أسهل الهروب إلى الأمام» أي ما أسهل اتخاذ مواقف، تتجنب رؤية الواقع كما هو، فتهرب إلى الأمام، وتتخلى عن التاريخ تحت اسم مساعي ومبادرات تأسيس التاريخ الجديد، التاريخ الذي يقطع مع الموروث في كليته، ليتبنى موروث الآخرين وثقافتهم.
الموقف السليم في نظر الجابري هو الموقف الأكثر تاريخية، الذي لا يغفل طبيعة التناقضات التي تواجه الواقع، ويسعى لاستيعابها انطلاقاً من بناء المواقف المعتدلة، وهنا يرى عبد اللطيف أننا «نجد أنفسنا في المواقف المذكورة أمام صورتين متناقضتين، صورتين يصوب فيهما النظر نحو زاوية محددة، ألا يمكن أن نرى في الصورتين عناصر إيجابية، تؤشر على صعوبة وتعقد القضايا الخلافية في كتابات المفكرين؟
يوضح عبد اللطيف أن أعمال العروي لم تنل ما تستحق من الاهتمام، رغم قيمتها التاريخية والنظرية، وإذا كان الرجل ظل حريصاً على الحضور الفكري المتميز باختياراته في الدفاع عن الحداثة والتاريخ في المجال السياسي، وسعيه لبلورة رؤية عقلانية في المجال الفكري، فإن منجزاته النظرية لم تقابل بالمتابعة والجدل الذي يكافئ جدية وقوة هذه المنجزات.
ما يهم العروي هو جذور الإشكالات وأصولها، والجذر في نظره قائم في درجة التأخر التاريخي المتواصل، في مختلف مظاهر الواقع العربي، وتجاوز هذا الوضع مرهون في نظره باستيعاب المكاسب التاريخية للبشرية، والعمل على إغنائها في ضوء التجارب المحلية.
وتمتلك أعمال الجابري حضوراً قوياً في المجال الثقافي المغربي والغربي، وهي تروم الدفاع عن الحداثة، من مدخل نقد التراث، ونقد آليات التفكير العربي والثقافة العربية المعاصرة، إنها تتجه لنقد العقل العربي دفاعاً عن مشروع في النهضة العربية، موصول بالماضي، دون أن يكون ماضوياً، متطلعا لتمثل أصول وأسس المعاصرة، دون أن يكون ناسخاً ولا مقلداً ولا تابعاً.
كان الجابري في منتصف السبعينيات، من القرن الماضي، قد بادر إلى مناقشة أعمال العروي، بحكم الأسبقية الزمانية، التي خولت للعروي موقعاً خاصاً في الفكر العربي في نهاية الستينيات إثر صدور كتابه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» و«أزمة المثقفين العرب» و«العرب والفكر التاريخي» بالفرنسية،
ونشر الجابري سلسلة مقالات في نقد تاريخانية العروي، ومن تابعوا هذه المقالات أدركوا أن المسافة الفكرية بين الرجلين غير واضحة، ولعل الثاني وهو يساجل الأول كان يقف معه في الخندق نفسه، لأن الخلاف بينهما لم يكن حول الأسس والمبادئ والمنطلقات الفكرية، قدر ما كان خلافاً في التفاصيل والجزئيات.