فكر وفلسفة

الاتصال والاجتماع والحركة المنظمة.. هكذا نظر المفكّر الإيراني علي شريعتي لفريضة الحج

يمثل المفكر الإيراني “علي شريعتي” أحد أبرز المفكرين الذين ساهموا في إثراء الفكر الإسلامي وتجديده في العصر الحديث، وذلك لما يحمله من مشروع تغييريّ، يدعو لإيقاظ الوعي وإعادة فهم الإسلام باعتباره دعوةَ تحرر ونهوض من نير الاستبداد.

ورغم بروز “علي شريعتي” كمفكر ومناضل سياسيّ، وغلبة الوجه الثوري في تراثه الفكري والاجتماعي فإنّ له وجها آخر غير الوجه السياسيّ وغير الوجه النضاليّ، وهو ما تمثّل في كتاباته الإسلاميّة التزكويّة، ونزعته الصوفيّة العرفانيّة التي تظهر في غير واحد من كتبه “الدعاء، الحج،… إلخ”.

وهذا ما حكاه “علي شريعتي” عن نفسه، إذ إنّ “شريعتي” يُقسّم كتبه على ثلاثة خطوط أساسيّة(1):
1- الإسلاميات “التزكية والتصوف”.
2- الاجتماعيّات “الثورة والتغيير”.
3- الصحراويّات “فلسفة الصحراء”.

وعطفا على ذلك، سنحاول في هذا التقرير تجلية شيء من تجربة “شريعتي” التزكويّة والعرفانيّة كما تجلّت في تجربة زيارته للحج التي بسطها في غير واحد من كتبه أيضا.

المفكر الإيراني الدكتور “علي شريعتي” (1933-1977م) (مواقع التواصل)

ولد “علي محمد تقي شريعتي” في (ديسمبر/كانون الأوّل) عام 1933 في قرية مزينان القريبة من مدينة مشهد في محافظة خرسان، وينحدر الدكتور “علي شريعتي” من أسرة متعلمة، فقد كان أبوه كاتبا ومفكّرا إسلاميّا معروفا، وقد كان لشخصيّة الأب “محمّد تقي شريعتي” والبيئة العلميّة التي نشأ فيها الدكتور “علي شريعتي” دور كبير في رسم معالم شخصيّته وهويّته العلميّة والدينيّة(2).

وفي عام 1955 التحق “علي شريعتي” بكلية الآداب جامعة مشهد وتخرج منها بدرجة امتياز عام 1958، وبعد ذلك أرسل في بعثة دراسية إلى فرنسا عام 1959 حيث حصل على شهادتي دكتوراه، الأولى في تاريخ الإسلام والثانية في علم الاجتماع. وأثناء دراسته الجامعية في مشهد تزوج “علي شريعتي” من زميلته “بوران شريعتي رضوي” عام 1956(2).

هذا ويعد “علي شريعتي” من أبرز رواد الحركة الإسلامية الإيرانية وفي مقدمة مفكريها، وقد لعبت جهوده وأفكاره دورا كبيرا في التعبئة الفكرية والسياسية التي سبقت الثورة الإسلامية عام 1979(2).

وتمظهر ذلك في انخراط “شريعتي” -مذ كان صغيرا- في العمل السياسي، حيث انضم هو ووالده في نهاية الأربعينيات إلى حركة كانت تضم جماعة من المثقفين الإيرانيين المتأثرين بالأفكار اليسارية -التي كانت تجد صدى واسعا في ذلك الحين- وهي حركة “الاشتراكيون الذين يخشون الله”، وكذلك انضم هو ووالده إلى تيار مصدّق الذي كان يعرف بـالحركة الوطنية عام 1954 وكان وقتها طالبا في المرحلة الثانوية.

وبعد سقوط مصدّق انضمّ إلى حركة المقاومة الوطنية التي أسسها آية الله الزنجاني ومهدي بازركان، وعندما ضربت بعنف سُجِنَ “شريعتي” ستة أشهر ولم يكن قد تخرّج بعد من كليّة الآداب سنة 1958(2). وفي منتصف الستينيات عاد الدكتور “شريعتي” إلى إيران، بعد تحصيله الدكتوراه في علم الاجتماع الديني، وأخرى في تاريخ الإسلام، وعلى الحدود الإيرانيّة ألقي القبض عليه، ثمّ أطلق سراحه بعد فترة، ثمّ عُيّن مدرّسا بجامعة مشهد.

كانت حسينيّة الإرشاد بالنسبة لـ”شريعتي” منبرًا لشحذ الهمم، والتعبئة الفكريّة والسياسيّة لجيل من الشباب التفّ حولها، فكانت محاضراته التي يلقيها تمثل سلاحا قويا في وجه “التغريب” و”عبادة الشاه” و”المفكّرين المزيّفين” و”رجال الدين الذين استغلّوا الدين ضد الدّين” (مواقع التواصل)

كانت نقطة التحول في مسيرة “شريعتي” هي حُسينية الإرشاد التي اُفتتحت عام 1969 لكي تكون مركزًا علميًّا ركّز فيه “شريعتي” كلّ نشاطه، إلى جانب عدد من العلماء والمثقّفين الإيرانيّين من أمثال مرتضى مطهّري(2).

وبالطبع، فقد كانت حسينيّة الإرشاد بالنسبة لـ”شريعتي” منبرًا لشحذ الهمم، والتعبئة الفكريّة والسياسيّة لجيل من الشباب التفّ حولها، فكانت محاضراته التي يلقيها تمثل سلاحا قويا في وجه “التغريب” و”عبادة الشاه” و”المفكّرين المزيّفين” و”رجال الدين الذين استغلّوا الدين ضد الدّين”(2).. فلم تجد السلطة بدّا من إقفال الحسينيّة عام 1973، ثم القبض على “شريعتي” ووالده، وإبقائه في السجن مدّة 18 شهرًا متعرّضًا لصنوف العذاب، حتّى تدخّل مسؤولون جزائريّون للإفراج عنه عام 1975(3).

بعد إخراجه من السجن وُضع الدكتور “شريعتي” تحت المراقبة ومُنع من أي نشاط، وفي (مايو/أيار) 1977 سمحت له السلطات الإيرانيّة بالسفر إلى لندن، وبعد شهر من إقامته في العاصمة الإنجليزيّة عُثر عليه ميتا في شقّته ميتةً غامضة أعلنت السلطة أنّها جرّاء نوبة قلبيّة!(3)

يمكن تلخيص فلسفة “علي شريعتي” ومشروعه الفكري بالعودة إلى إحدى تجاربه غير التقليدية في التعلم، حيث كان قد طلب من أحد حفّاري الآبار المحترفين أن يرافقه لحفر أحد الآبار “لقد كنت غارقا في الذهول بسبب الأداء الفني للمعلم -حفّار الآبار-، وبسبب المعجزة التي أبدعها بفأسه: جمال العمل، الكدح في الظلام، الجرأة المتمثلة في الغوص في أعماق الأرض، وسُمُوِّ المعنى -هذا العمل الممتلئ بالمعنى- المتمثل في البحث عن الماء، والقداسة الفائقة للحفر في قلب الظلم بعيدا عن سطح الأرض، بعيدًا عن الحياة. فجأة شعرت بدغدغة باردة ولطيفة بين أصابع قدمي العاريتين، وبالتدريج أصبحت الهمسات -أصوات تدفق المياه- تتكاثف وتتوسع آتية من كل مكان، لتنضمّ إلى بعضها البعض وتشكل صرخة واحدة، هذه الصرخات التي بدأت بالتعالي من كل مكان وهي تتحد مع بعضها البعض وبدأت تبدو غاضبة وثائرة وعدائية، إنه الماء”(4).

لعل هذه الصورة المجازيّة التي قدّمها “شريعتي” لتجربته في حفر البئر تُجسّد أنسب تعبير عن الدور والمهمة التي نذر “شريعتي” نفسه لها، والتي تمثلت في تعامله النقدي مع ثقافة الخضوع الدينيّة، التقليديّة، المحافظة، بما يقارب عمل حفّار الآبار الذي أيقظ بفأسه “الماء النائم” في الصخر في باطن الأرض(4).

وعلى هذا الأساس يتمحور مشروع “شريعتي” في نقد هذه الثقافة التي تُشكِّل الركيزة الأساسيّة في إنتاج -وإعادة إنتاج- حالة الخضوع المجتمعي التي يتم تكريسها بفعل التأويل المحافظ، والسكوني السائد(4).

وبالتالي فإن مشروع التحرر الاجتماعي والوطني يبدأ من استخدام منهجية نقد داخلية تكشف بداية عن هذا الدور المحافظ للثقافة الدينية ويعريه، ومن ثمّ يحول هذه الثقافة إلى ثقافة تحرر وثورة(4). وهذا ما تمثّل في نظريته المعروفة التي تحولت إلى عنوان من أهم كتبه، ونعني هنا (نظرية/كتاب) “دين ضد دين”.

يقول “شريعتي” في كتابه “العودة إلى الذات” موضحا شيئا من طبيعة منهجه التفكيريّ “ينبغي أن يطرح الإسلام بعيدا عن صورته المكررة والتقاليد اللاواعية العفوية التي هي أكبر عوامل الانحطاط، وينبغي أن يطرح في صورة إسلام باعث للوعي، تقدمي ومعترض، وأيديولوجا باعثة للتوعية بالتنوير”(5).

وبذلك يتمثل مشروع “شريعتي” تحويل الإسلام “من ثقافة مثبّطة إلى أيديولوجيا محفّزة”، ويرى عبد الجبّار الرفاعي “أن الهموم النضالية لـ”شريعتي”، ومحاولاته الواسعة لأنسنة الدين، والتشديد على المضامين الاجتماعية للإسلام، هي الباعث لمسعاه لتحويل الإسلام من “ثقافة إلى أيديولوجيا”، وربما تأثر “شريعتي” بأطروحات جماعة لاهوت التحرير، ودعواتهم إلى تحويل الدين إلى أيديولوجيا لمناهضة الاستعمار، وتحرير الأرض، وتنمية المجتمع، بعيدا عن مشاغل اللاهوت الكلاسيكي”(6).

ويمكن القول إنّ عمل “شريعتي” هذا يقرب من مشاريع “إعادة الفاعليّة” للذات المسلمة والعربيّة، بحيث يتقاطع مشروعه مع مشاريع ثلاثة من رجالات الفكر الإسلامي الحديث وهم: محمد إقبال، وسيد قطب، وإسماعيل الفاروقي.

نقطة البداية وحجر الزاوية في تفكير “شريعتي” “الديني” يتعلق بطبيعة نظره للعلوم الإسلاميّة من فقه وعقيدة وتصوف التي تتمحور حول محاولة استنطاق هذه العلوم والشعائر والعقائد لكي تُشكّل طاقة تحرّر، “تقاوم الاستعمار الخارجيّ والاستحمار الداخليّ”(7).

قدَّم “شريعتي” العبادات الإسلامية بصورة أكثر إيجابية، وابتعد عن التفسير الفقهي للعبادات كمناسك وشعائر مجردة، ومن ثم بحث عن تفسير حقيقة العبادة بهدف الكشف عن دورها في حياة الفرد والأمة

وفي ذلك يقول “شريعتي”: “عن طريق تغيير ما يتحول الإسلام من صورة تقليد اجتماعي إلى صورة أيديولوجية، من صورة مجموعة من معارف علمية تدرس إلى إيمان واع، ومن صورة مجموعة من الشعائر والطقوس والأعمال التي تؤدي لنيل ثواب الآخرة إلى أعظم قوة تُزوّد الإنسان قبل الموت بالمسؤولية والحركة والميل إلى التضحية ويتحول إلى مادة عظيمة تستخرج الوعي والعشق من صميم المجتمع”(8).

من هنا قدَّم “شريعتي” العبادات الإسلامية بصورة أكثر إيجابية، وابتعد عن التفسير الفقهي للعبادات كمناسك وشعائر مجردة، ومن ثم بحث عن تفسير حقيقة العبادة بهدف الكشف عن دورها في حياة الفرد والأمة ودورها في تشكيل الإنسان المسلم ودورها في مساعدة المسلمين من الخروج من أزمتهم المعاصرة(9).

وفي ذلك يقول “كانت العبادة في التاريخ عبارة عن سعي الفرد للارتباط بالله والتقرب إليه، وفي الإسلام يكون للعبادة شكل آخر يبدو أكثر وضوحا في الحج، فالعبادات في كل الأديان تتسم بتزكية الأخلاق وتهذيب الفرد، غير أنّ هذا لا يتجلى في الإسلام على شكل انزواء وتجرد من الحياة وبعد عن المادة وإغفال للدنيا وعدم الوعي بما يدور من حولنا، بل إنّ روح الفرد تصل إلى الله عن طريق مسار الطبيعة الماديّة والمجتمع والحياة الواقعيّة للناس وعن طريق المرور بمصير الآخرين”(10).

فقدَّم “شريعتي” رحلة الحج بوصفها رحلة مليئة بالحركة والمسؤولية تقود المسلم إلى التأمل وتنتهي به إلى معرفة قيود نظام الحياة العصرية القائم على المادية، وتمكنه من استعادة وعيه الذاتي(11).

لشعيرة الحج وروحه حضور لافت في فكر “شريعتي”، ويظهر ذلك في عموم منتوجه الأدبيّ والفكريّ، فقد خصَّص “شريعتي” ثلاثة كتب للحديث عن هذه الفريضة أو الشعيرة:

1 – الحج، الفريضة الخامسة -تُرجم إلى العربية-
2 – الحج، فلسفة المنسك والمعنى -تُرجم إلى العربية-
3 – موعد مع إبراهيم -لم يترجم-

وسبب هذا الحضور الكثيف لهذه الشعيرة مردّه إلى أمرين:
1- أنّ مدار فكر “شريعتي” يدور حول ثلاث قيم كبرى -كما يحكي عن نفسه-: التوحيد، الاستشهاد، الحج(12).

2- طبيعة منتوج “شريعتي” المتعدد والمتباين، إذ إنّ “شريعتي” -كما وصف نفسه- “كاتب من كل صنف، وفي نفس الوقت ليس من أيّ صنف”(13)،  لذلك تحتشد الكتابة الأكاديميّة في تجاور مع الخاطرة الأدبيّة والخطبة الحماسيّة والسيرة الملحميّة، فتغدو أفكاره أمشاجا وأخلاطا من الخاطرة والموعظة والرسالة والملحمة والخطبة.

وسنعمد في هذا الجزء المتبقي من التقرير إلى الوقوف على أبرز المعاني والقيم التي حاول “شريعتي” أن يتغيّاها في رحلاته للحج، فقد أدَّى “شريعتي” العُمرة ثلاث مرات، فيما أدى الحج أكثر من مرة، في عامي 1970 و1971(14).

يرى “شريعتي” أنّ للحج مقاصد كبرى تنتظم بها عقد الشعائر كلها، وتتجلى هذه المقاصد الكبرى في ثلاث أفكار أساسيّة عنده:

1- يرى “شريعتي” أنّ الحج عملية ارتقاء نحو الله، وذلك عبر استعراض خمس قضايا “الحج  في جوهره هو عملية ارتقاء الإنسان نحو الله، وهو المظاهرة الرمزية لفلسفة خلق آدم، وبعبارة أوضح وأقرب: إنّ أداء شعائر الحج هو استعراض لعدة معان في وقت واحد، فهو “عرض لقصة الخلق”، وهو “عرض للتاريخ”، وهو “عرض للوحدة”، وهو عرض لــ”عقيدة الإسلام”، وهو “عرض للأمة”(15).

2- يرى “شريعتي” أنّ الحج دعوة لكي يهجر الإنسان مظاهر الزيف التي تلفُّ حياته، وذلك بنزع الأقنعة الأربعة التي ما فتئ يرتديها الإنسان في حياته اليوميّة(15):

“انزع:
قناع الذئب الذي يرمز إلى الوحشية والطغيان
قناع الخروف الذي يرمز إلى الخنوع والذلة
قناع الثعلب الذي يرمز إلى الخديعة
قناع الفأر الذي يرمز إلى المكر”

3- يقول” شريعتي” إنّ خلاصة ما أدركه وفهمه من الحج ينتظم في ثلاثة مبادئ مهمّة، أولها: مبدأ “الاتصال”، والثاني: مبدأ “الاجتماع”، والثالث: مبدأ “الحركة المنظّمة”(16).

يترك الجميع أماكنهم ويلتقون معا لقاء فكريا في مكان معين، فيحكي كل منهم عن وضعه الاجتماعي، فأتعرف أنا على مئة بيئة أخرى وتتعرف مئة بيئة أخرى عليّ. إن توادد ولقاء هذه المجتمعات البعيدة عن بعضها يؤدي إلى إحياء الروح الاجتماعية والفكر الاجتماعي (رويترز)

فأما مبدأ الاتصال فيوضح معناه “شريعتي” فيقول “هو أن يجدد الإنسان في كل عام صلته بهذا المكان الأصيل والمليء بالذكريات لهذه الحركة العظيمة ومنبع التاريخ الديني العظيم، وأن يوطد صلته بالماضي، ويعرّف جيله على هذه القيمة الكبيرة والروح العظيمة التي تشع وتنبعث من إبراهيم -عليه السلام- على مر التاريخ، وأن يوطد صلته بالجذور والمنابع العظيمة والغنية التي يحاول أعداؤه دائما قطعها، ومن هنا يكون الحج دائما وكل عام عبارة عن اتصال البشر بالفطرة والمصير التاريخيّ والرسالة العظيمة لإنسانيتهم”(16).

أما مبدأ الاجتماع فيوضح معناه “شريعتي” فيقول “هو أن يترك الجميع أماكنهم ويلتقون معا لقاء فكريا في مكان معين، فيحكي كل منهم عن وضعه الاجتماعي، فأتعرف أنا على مئة بيئة أخرى وتتعرف مئة بيئة أخرى عليّ. إن توادد ولقاء هذه المجتمعات البعيدة عن بعضها يؤدي إلى إحياء الروح الاجتماعية والفكر الاجتماعي، إنّ التجمع يكون أصلا داعيا إلى التحرك الإنساني والوعي والنمو العالمي للاعتقاد البشري.

صحيح أنّ هناك مؤتمرات كثيرة تعقد وتنظم في العالم، لكنّ هذا التجمع يختلف عن كل هذه التجمعات الأخرى، فمن المزايا التي ينفرد بها الحج أنه مؤتمر لا كالمؤتمرات المعروفة، فعادة ما يتألف المؤتمر من جماعة تشترك في مواصفات ترتبط بالموضوع الذي ينعقد هذا الاجتماع لأجله، وهي عادة ما تضم النخبة من ذوي الرأي.

بينما الحج ملتقى واسع، يجمع مختلف أصناف المجتمع، وتسوده أعمال عبادية شاملة ينخرط فيها كافة الحجاج، من دون نظر إلى أعراقهم، ومواقعهم الطبقية، ومستوياتهم الثقافية، ومراتبهم الاجتماعية والوظيفية. إن لقاء بشريا من هذا النوع لا تعرفه أية مؤتمرات أو ندوات أخرى، ولا تحصد مكاسبه الكثير من الملتقيات في العالم”(16).

والمبدأ الثالث هو مبدأ الحركة والهجرة، فيوضح معناه “شريعتي” فيقول “إن أول شيء لفت نظري وجعلني أفكر في كلمة الهجرة هو التحرك الدائم في الحج، فمنذ أن يستعد الإنسان للذهاب للحج يكون في حالة حركة، ومنذ أن تبدأ مناسك الحج لا يوجد أي توقف، فلا يستطيع الإنسان التوقف ولا ينبغي عليه التوقف، فهو ينتقل من الميقات إلى الطواف إلى السعي وهكذا. هذا التحرك الدائم هو تذكار لتحرك إبراهيم في طريق محاربة “عبادة الأوثان” وإحياء التوحيد واستقرار العدالة في تاريخ البشرية. وهو تذكار لتحرك وسعي الإنسان البائس -المنتصر في النهاية- الذي هو هاجر. نعم إنه تذكار هاجر، تذكار الهجرة الدائمة الذي كانت ثمرته أن كان هذا البيت العظيم يوجد في جواره منزل هاجر جارية سارة، وهي الإنسانة التي عرفت في التاريخ على أنها ضعيفة لكونها امرأة، وأكثر ضعفا لأنها جارية، ولأنها الزوجة الثانية. كان منزلها هناك”(16).

وعطفا على المعاني الكبرى التي أشار إليها “شريعتي” أعلاه أشار إلى معان أخرى لا تقل فرادة عن تلك الذي ذكرها أعلاه.

 

يرى “شريعتي” أنّ “أداء الحج خلاص من شباك الحيرة المعقدة، والحج ما هو إلا مضاد لحياة اللامعنى واللاهدف في حقيقته”(17)،  ولذلك حاول الوقوف على أبرز المناسك التي تمرُّ بالحاج، وتبيين الفلسفة الثانوية فيها:

يقول “شريعتي”: بعد التجرد من الملابس ولبس الكفن الأبيض.. كل واحد يفني ذاته ويأخذ شكلا جديدا، هو شكل الإنسان كما خلقه الله، كل “أنا” تموت في أرض الميعاد لتنشأ “نحن”

النية:
“قبل أن تدخل الميقات حيث التحول العظيم وبداية الثورة لا بد من الإفصاح عن نيتك، فما فحوى هذه النية؟ وعلى أي شيء تنطوي؟ إنها نية تلبية دعوة رب الناس إلى بيت الناس، نية الانتقال من بيتك إلى بيت الناس، من الطبقية والعنصرية إلى المساواة والوفاء والحق، من إنسان تغطيه الثياب إلى فرد عارٍ لا يستر جسده إلا خرقة، من الحياة الرتيبة اليومية إلى الحياة السرمدية الأبدية. ومن هنا لا بد أن تؤكد على نيتك بقوة، وذلك لأنك ستبدأ تنمو خارج قوقعتك كما تنمو نواة التمر، لقد كانت حياتك في الماضي مزيجا من التقصير والجهل، كنت لا ترى لوجودك معنى، حتى في حياتك الوظيفية والعملية صرت عبدا تعمل بحكم العادة أو مقهورا بالأوامر، الآن تحول عن هذا النمط من الحياة، وعُد إلى فطرتك واعيا مؤمنا واثقا بالله الرحمن الرحيم، وانظر نظرة جديدة إلى الحياة وإلى الناس وإلى نفسك”(17).

الإحرام:
“ادخل إلى الميقات فردا، هنا يبدأ العرض، وفيه يجب على الإنسان أن يبدّل ملابسه. لماذا؟ لأن ثياب الإنسان تكسوه من الخارج ماديا كما تكسوه الشخصية من الخارج معنويا، فملابسنا هي التي تعبّر عن أنماط حياتنا، وتميزنا وتحدد طبقتنا ووجهة تفكيرنا، وهي التي تقيم الفواصل والحدود بين الناس، مما يسبب الفرقة بينهم في معظم الأحوال، وأكثر من ذلك فإن الملابس تجعل مفهوم “الأنا” يقتحم، وليس مفهوم “النحن”، كلمة “أنا” -في الملبس- تأتي في سياق يعبر عن “عنصري” أو “طبقتي الاجتماعية” أو “عشيرتي” أو “مكانتي” أو “أسرتي” أو “مقدرتي”. لقد صنعت سلالة قابيل من القتلة والقساة حواجز كثيفة في حياتنا، فتقسمنا وتفرقنا إلى سادة وعبيد، مستكبرين ومستضعفين، مستعمِرين ومستعمَرين، مستغليِّن ومستغليَّن، أقوياء وضعفاء، أغنياء وفقراء”(17).

الميقات:
يقول “شريعتي” موضحا فلسفة الميقات والإحرام “اخلع ثيابك الآن عند الميقات، وارتد الكفن المؤلف من قماش أبيض خالص. أصبحت ثيابك مثل ثياب أي فرد، وبدا الجميع في الزي الموحد، تحولت إلى جزء ينضم إلى الكتلة العريضة، وإلى قطرة تدخل في المحيط. لا تكن مختالا فلست هنا لتلاقي ندا أو نظيرا، بل تواضع وانكمش واخشع لأنك ستلقى الله، كن الحي الذي يقترب من الموت أو الميت الذي يستشعر وجوده”(17). ويضيف أيضا فيقول “كل واحد يفني ذاته ويأخذ شكلا جديدا، هو شكل الإنسان كما خلقه الله، كل “أنا” تموت في أرض الميعاد لتنشأ “نحن””(17).

 
المحظورات:
“ما يجتمع في هذه المحظورات هو أنها تذكرك بتجارتك أو وظيفتك أو طبقتك الاجتماعية أو منصبك أو مكانتك أو عنصرك أو حسبك، إنها الأشياء الجوهرية التي تحدد حياتك في دنيا ما قبل الميقات قبل أن تدخل الميقات، حيث التحول العظيم وبداية الثورة”(17).

بين الطواف والسعي:
“فريضة الحجّ هي التي تربط بين الطواف والسعي وتحل التناقض الذي أشكل على الإنسان عبر تاريخه، الماديّة أم المثاليّة، العقلانيّة أم الروحيّة، إرادة الإنسان أم إرادة الله، التوكّل على الله أم الاعتماد على النفس، هنالك يعلّمنا الله أنّ الإجابة هي: كلاهما”(17).

وختاما، فقد حاول “شريعتي” “صب البحر في إناء”(17) ليثير في نفسك التفكير، وليدعوك إلى أن تعود لفطرتك الأولى، للغاية من وجودك على ظهر هذه الأرض، وليقول لك في جملة جامعة:

“الكعبة هي الاتّجاه وليست نقطة الوصول، هي القبلة، الحجّ لا ينتهي بالكعبة ولكنّه يبدأ حينما تغادرها”(17).

 

 

المصدر : الجزيرة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى