اللغات السامية وتفرُّعاتُها

عربية “جوبا”

عربية جوبا؛ هي لهجة هجينة تكونت من امتزاج اللغات الأفريقية المحلية واللغة العربية في جنوب السودان في القرن التاسع عشر بين أحفاد العساكر وموظفي الخدمة المدنية مختلفي الأصول، وقد كانت مدينة جوبا كبرى مدن جنوب السودان مسرحا لتشكل هذه اللغة واقترن بها اسمها. ويعتقد بأنها منحدرة أصلا من لغة قبيلة باري.


وهي لهجة واسعة الانتشار، وتستخدم في التعاملات اليومية، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي أطلقت إذاعة ناطقة بهذه اللغة. وتعتبر جزء من اللهجة السودانية. حتى حضور المستعمر البريطاني في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ما يفسر انتشار اللغة وسرعة تداولها وكون أنها مفهومة بدرجة كبيرة لدى سكان أواسط السودان.


والدليل المهم على الحضور القوى للثقافة العربية في كيان سكان جنوب السودان، هو وجود نسبة كبيرة من السكان تكون لأسمائهم وأسماء آبائهم نصرانية ولكن أسماء أجدادهم أسماء إسلامية. مثال: بيتر مجوك عبد الله أو سايمون دينق حسين.


وقد أسهم «الجلابة»، وهم مجموعة التجار المصربين والسوريين والتجار الشماليين الذين وفدوا إلى الجنوب، في نشر اللغة العربية في غمرة تحقيق الأغراض التجارية باعتبارها وسيلة تخاطب مرنة ساعدت في التواصل المفيد بينهم وبين العناصر المستهدفة.


يتميز جنوب السودان بتعدد لغوي كبير، عشرات اللغات الحية، وتندرج تحت كل لغة لهجات يختلف عددها باختلاف اللغة والقبيلة وأفخاذها. يتحدث غالبا أهل الجنوب بلغاتهم المحلية، عندما يكون المخاطب من القبيلة ذاتها، لكن عندما يدور الحديث بين شخصين من قبيلتين مختلفتين فإنهما يتحدثان بعربية عامية، فيها أثر اللغات المحلية وخصائصها، والتي اصطلح على تسميتها «عربي جوبا»، وتكاد تكون هذه العربية هي لغة الخطاب اليومي، التي يتعامل بها المواطن البسيط، في حين يميل المسؤولون الكبار والساسة للحديث بالإنجليزية فيما بينهم.


ويستدرك الدكتور عبد الله دينق نيال على مفهوم هذا المصطلح في الشمال في إفادته للجزيرة نت قائلا «البعض يظن أن عربي جوبا هي العربية التي يتحدث بها أهل جنوب السودان، والحق أنها العربية التي يتحدث بها أهل جوبا وما حولها، هناك أكثر من لهجة عربية في الجنوب تختلف باختلاف المناطق والقبائل، ذلك أن لكل لغة من اللغات المحلية خصائصها؛ هناك حروف ومخارج موجودة في لغة، وغير موجودة في أخرى، لكن لأن جوبا العاصمة صار الأمر موصولا بها».


ويضيف نيال أن «اللهجة المسماة عربي جوبا هي العربية التي تتحدثها قبيلة الباريا، فبعض ملامحها من حيث المخارج وأصوات الحروف، وكذلك الحال في اللهجة العربية في مناطق أخرى من الجنوب». ويرى الدكتور شول دينق -وهو أستاذ اللغة العربية ومدير جامعة أعالي النيل بمدينة ملكال الجنوبية- أن العربية أو «عربي جوبا» لا تنبع أهميتها من كونها جسر تواصل بين المكونات الجنوبية، وأنها اللغة اليومية فقط؛ «فهناك بعض الجنوبيين، خاصة الذين كانوا في الشمال، فقدوا لغتهم الأم، وصارت العربية لغتهم التي يتحدثونها في منازلهم».


و رغم أن دستور جمهورية جنوب السودان ينص على استخدام الإنجليزية كلغة رسمية للدولة، فإن معظم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة مثل الإذاعات الخاصة والتلفزيون الرسمي تستخدم «عربي جوبا» في أغلب برامجها ونشراتها الإخبارية.


جاء الاسم «عربي جوبا» من ارتباطها بعاصمة جنوب السودان مدينة (جوبا)، التي تعد أكبر مدن الجنوب وأهمها وترتبط بدول شرق أفريقيا، زائير وأوغندا وكينيا. وترتبط هذه اللغة أيضاً بقبيلة «الباري»، وهم السكان الأصليون لهذه المنطقة، كما تضم في تعبيراتها العديد من مفردات لغة هذه المجموعة.


وتمت طباعة قاموس خاص بلغة «عربي جوبا» لترجمة معانيها بالإنجليزية، حيث درجت الكنيسة إلى كتابة التراتيل الدينية بلغة عربي جوبا وبحروف لاتينية، لكنها انتشرت أكثر عن طريق التداول الشفهي، لكون أغلب المتعاملين بها لا يجيدون الكتابة أو القراءة بالذات في المناطق الريفية، وربما تكون بذلك اللهجة العربية الوحيدة المكتوبة بحروف لاتينية.


ويستخدم الأميون الذين يشكلون 85 في المائة من السكان لغة «عربي جوبا»، كما يسميها الجنوبيون، إضافة إلى لغاتهم المحلية. يقول بيتر جيمس، الباحث المهتم بقضايا اللغة والثقافة بجنوب السودان، إن «استخدام عربي جوبا في وسائل الإعلام يبدو مفيدا بالنسبة للمستمع في جوبا المدينة، لكن قد لا يفهمها سكان الولايات الأخرى في جنوب السودان، وهناك نسخة مستحدثة من عربي جوبا يتداولها جميع سكان جنوب السودان».


يقول الاستاذ نورالدين مدني ابوالحسن*عندما اطلعت على كتاب”لهجة جوبا العربية” للدكتور بول دينق شول رئيس قسم اللغة العربية بكلية التربية في جامعة جوبا لم أفاجأ بنصاعة الأسلوب وبلاغته كما قال البروف عون الشريف في تقديمه للكتاب‘ لمعرفتي بأن بعض أبناء “جنوب السودان”يجيدون اللغة العربية أفضل من بعض الناطقين بها.


أذكر هنا على سبيل المثال الصحفي السوداني سايمون ماجوك الذي كان يكتب في أخيرة ”الصحافة” عن الأخطاء اللغوية الشائعة ولم يكن يعمل في قسم التدقيق اللغوي. الدكتور بول دينق شول بذل جهداً مقدراً في هذا الكتاب العلمي الذي جعل أساتذته في لجنة الإمتحان يوصون بطباعته لتعم الفائدة‘ وهو كتاب توثيقي حافل بالمعلومات المستقاة من الواقع المدعومة بإفادات مهمة من المراجع التي رجع إليها.


وأكد حقيقة أن اللهجات السودانية في “السودان” الواحد في ذلك الوقت‘ مردها الغالب اللغة العربية الفصحى كما قال بذلك عبد المجيد عابدين في كتابه عن أصول اللهجات العربية في السودان.


كما أوضح المؤلف ان إنتشار اللغة العربية في جنوب السودان بدأ منذ أربعينات القرن الماضي عبر مسارين‘ المسار الدارجي المستمد من الإحتكاك والتعايش والمسار المنهجي المستمد من التحصيل المدرسي. وبين عملياً كيف تداخلت اللغة العربية مع اللغات المحلية واللغات الأخرى‘ خاصة لغة الباريا التي أثرت فيها وتفاعلت معها وشكلت إلى حد كبير لهجة جوبا العربية.


قسم الؤلف الكتاب لعة فصول هي أصوات لهجة جوبا والبناء الصرفي لها ونظام الجملة فيها ودلالات المفردات بها وقال إن الدلالات الواردة في هذه الدراسة مجرد نماذج قلبلة على قدر كبير من الاستدلال. تناول في الكتاب الخصائص الصوتية لعربي جوبا والخصائص الصرفية والخصائص النحوية ثم الخصائص الدلالية وبين كيف أن اللغة العربية في جنوب السودان تاثرت بالفاض لغة الباري وبألفاظ لغة الدينكا واللغة الإنجليزية والتركية والنوبية اليوغندية والكنغولية إضافة لألفاظ مجهولة الأصل.


هذا الكتاب القيم يكتسب أهميته من الإسلوب العلمي الإستقصائي الذي إعتمده في بحثه عن عوامل إنتشار اللغة العربية في جنوب السودان بعيداً عن التصنيفات العقدية والإثنية. إضافة لذلك فإن هذا الكتاب يوضح بجلاء أن اللغة السائدة لاتعني تذويب ثقافات المكونات الإثنية الأخرى وإنما هي وسيلة للتفاهم والتعايش فيما بين هذه المكونات المجتمعية المختلفة دون هيمنة أو تسلط.

في كل دول العالم توجد لغة سائدة بين المواطنين دون ان يعني ذلك طغيان مكون مجتمعي بل يتعايش الجميع في سلام ووئام‘ وان الخلافات والاجندة السياسية السالبة هي التي تفرق بين أبناء الوطن الواحد.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى