فكر وفلسفة

عبد الكبير الخطيبي وجاك دريدا أو الخيوط الناعمة بين الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية

عندما نتحدث عن فكر الاختلاف لا بد أن نذكر رموزًا فكرية أسست له، تبنته أو قامت بنقده بغاية تطويره، نذكر مثلاً نيتشه، هايدغر، جيل دولوز، جان فرانسوا ليوتارد، فوكو، جوليا كريستيفا، جاك دريدا وأيضًا عبد الكبير الخطيبي.

هؤلاء جميعًا وغيرهم كون معهم الخطيبي صداقة فكرية وخلق معهم تواصلاً غير مباشر مهم، إلا أنّ جاك دريدا يظل المفكر والفيلسوف الوحيد من بين الذين وردت أسماؤهم الذي أنشأ معه الخطيبي صداقة إنسانية وفكرية في الآن نفسه امتدت لسنين طويلة.

هذا لا ينسينا بطبيعة الحال صداقات الخطيبي الإنسانية والفكرية مع كتاب ومفكرين آخرين ذوي صيت عال مثل: رولان بارث، جاك حسون، إدوارد سعيد، جان جينيه، صمويل فييبر، وكذا مع كتاب ومبدعين عرب لا يقلون أهمية هم أيضًا مثل محمود درويش، كاظم جهاد، أدونيس، عبد الوهاب مؤدب والقائمة طويلة بطبيعة الحال.


  • الصداقة الإنسانية والفكرية بين الخطيبي ودريدا

لا بد من التأكيد في البداية أنّ العلاقة بين مفكرين من طينة عبد الكبير الخطيبي وجاك دريدا لا يمكن في الحقيقة التفريق فيها بين الصداقة الإنسانية والفكرية. ويظل الخيط الرابط بينهما هو الود والمحبة والاحترام المتبادل على الرغم من الاختلاف في الرؤى والتصورات والأفكار في بعض الأحيان.

يقول الخطيبي:

“التقينا أنا وجاك دريدا بباريس في شهر شتنبر من سنة 1974 وتحديدًا بمقهى بساحة سان سولبيسla place Saint-Sulpice. أهداني مؤلفه «Glas » الذي كان قد صدر لتوه. وأنا بدوري كنت قد أرسلت له قبل لقائنا هذا عبر البريد مؤلفين صدرا لي في وقت واحد بمناسبة افتتاح السنــــــــــة الأدبية. ويتعلــــــــــــــــــــــــــق الأمر بكــتابــــــــــــي: Le livre du sang (سفر الدم) وVomito Blanco (الحمى البيضاء).

منذ تلك الفترة وإلى غاية وفاته في شهر أكتوبر من سنة 2004 أسسنا، بشكل أو بآخر لعلاقة متواصلة. علاقة يسودها الود والوفاء مثل نقطة تتأسس عليها حياتنا. كنا أصدقاء يعيشون عن بعد يعيش هو قرب باريس وأنا بالقرب من الرباط”.[1] (ترجمتي)

هي صداقة إنسانية وفكرية تؤمن بقيم الحوار البناء والاختلاف الخلاق. على ذكر فلسفة الاختلاف، يبقى تأثر الخطيبي بفكر الاختلاف أو فلسفته واضحًا وهو ما يفسر إذن مدى انجذابه إلى فكر صديقه جاك دريدا. وفي هذا الصدد يقول الباحث المتميز رشيد بوطيب في حديثه عن فكر الاختلاف أو فلسفته:

“أن نفكر في الاختلاف، يعني أن لا نفكر بمنطق الهوية، وأن لا نرجع الآخر والمتعدد إلى المثل والشبيه، لهذا فإنّه من غير المعقول أن نفهم تيار الاختلاف، كتيار واحدي ومحدد المعالم. فكر الاختلاف لا يمكنه إلا أن يكون مختلفًا ومخالفًا وليس واحديًّا.

ويمكن للمرء أن يعتبر مقالة هايدجر «الهوية والاختلاف» الوثيقة الأصلية لهذا العمل الفكري، هذه المقالة التي تظهر كيف طغى مفهوم الهوية على الفلسفة الغربية منذ أفلاطون، وكيف أنّ الكثير والمتعدد لا يمكن إدراكه إلا من خلال هذا المفهوم.

طبعًا، إنّ هذا التقليد الفلسفي يحتوي على أنظمة ثنائية وأخرى تعددية وثالثة ضد كل نظام ولكن «الاتجاه نحو الواحد» يمثل التيار الطاغي، وإذا ما دعت الضرورة إلى تدميره، فسيترتب على ذلك توديع عادات فكرية كثيرة. إنّ التصورات الفلسفية تبدو متأثرة بعمق، بفكر الهوية، ولا يمكنها والحال هذه، أن تدرك الاختلاف. لهذا فإنّ إطلاق صفة فلسفة الاختلاف هو في حد ذاته إشكال.

ولقد لاحظ ذلك أدورلو بوضوح، حين قال بأنّ مفهوم التفكير هو مفهوم مطابق لذاته. فالتفكير بواسطة المفاهيم، يعني التعميم وتمييز المشترك، والخاص وغير المتطابق، يجب حسب منطق هذا الفكر أن يسقط. ولأنّنا وحسب أدورنو لا نملك فكرًا آخر، يظل هناك طريق واحد أمامنا، أن «نخرج عبر المفهوم من المفهوم»، الخروج من الفلسفة يظل في حد ذاته فلسفة، لكنه خروج يحمل معنى القطيعة النهائية مع التقاليد.[2]


اعترف الخطيبي منذ البداية بتشابه رؤية جاك دريدا المتمثلة في نقد الميتافيزيقا الغربية مع منهجه الفكري القائم ليس فحسب على نقد الفكر الغربي، بل وأيضًا الفكر العربي والإسلامي. وجدد الاعتراف بهذه الحقيقة بعد أكثر من عقدين من الزمن من خلال “رسالته المفتوحة إلى جاك دريدا” [3].«Lettre ouverte à Jacques Derrida»

يؤكد الخطيبي من خلال هذه الرسالة المفتوحة إلى صديقه أنّه اعتقد دائمًا أنّ »التفكيك Déconstruction « (وهو منهج تبناه جاك دريدا) شكل من الأشكال الراديكالية لتحرير الفكر الغربي من النزعة الاستعمارية.[4]

على الرغم من اقتناع الخطيبي بفعالية منهج التفكيك الدريدي إلا أنّه اختلق آلية أخرى وهي “النقـد المزدوج Double critique” وهي آلية مكنته لا فحسب من نقد الفكر الغربي، إنّما أيضًا الفكر الميتافيزيقي العربي والإسلامي كما أسلفنا الذكر.[5]

ومكن هذا المنهج من خلخلة العديد من المواضيع التي كانت إما طابوهات أو مسكوتًا عنها أو غير مفكر فيها بتاتًا لأسباب قد تكون إيديولوجية، ثقافية، سياسية، اجتماعية أو غيرها وكان لا ينبغي بالتالي التطرق إليها من قبيل الجنس، التراث، الجسد، الوشم وغيرها.

جعل اجتهاد الخطيبي وبحثه المتجدد دريدا يعترف به واحدًا من أهم الكتاب والمفكرين العرب. ففي حوار أجراه الإعلامي والكاتب العراقي شاكر نوري مع جاك دريدا ونشر ضمن مقال حول الراحل بجريدة المدى، سأله عن رأيه في الكتاب العرب فأجابه كالتالي:

“أعتقد أنّ ما يكتب في هذا الميدان هام للغاية. لابد من ذكر صديقي عبد الكبير الخطيبي الذي أكنّ لأعماله احترامًا كبيرًا إنّه نموذج للمثقف العربي الذي يجمع بين التقاليد والمعاصرة. إنّها ظاهرة امتلاك اللغات العديدة .. والثقافات العديدة … وعندما يستطيع المثقف أن يعطي للجانبين، فعمله آنذاك يصبح ثمينًا. ليس هناك محو لهويته.. ولا اندماج في ثقافة الآخر. وأعتقد أنّ هذا النمط من المثقف هو المحرك”[6].


وسبق أيضًا لجاك دريدا أن قدم شهادة هامة ودالة في حق صديقه عبد الكبير الخطيبي اعترافًا له بمكانته المعرفية والفكرية العالية واجتهاده الدؤوب في مجال البحث العلمي أعادت نشرها دار “الاختلاف La différence” الباريسية لتفتتح بها أعمال الخطيبي الروائية والسردية الكاملة والتي بالمناسبة صدرت عام 2007 في شكل مجلد:

“مثل كثيرين، أعتبرُ عبد الكبير الخطيبي كأحد أكبر كتّاب عصرنا وشعرائه ومفكّريه الناطقين باللغة الفرنسية، وآسف لأنّه لم ينل الدراسة التي يستحقها في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية. يهمّني أن أشير إلى أنّ أعماله، المعترف بقيمتها بشكلٍ واسع في العالمين العربي والفرانكفوني، هي ابتكارٌ شعري هائل، وفي الوقت ذاته، تأمّلٌ نظري متين يرتبط، من بين موضوعات كثيرة، بإشكالية ازدواجية اللغة وازدواجية الثقافة.

ما يصنعه الخطيبي باللغة الفرنسية، ما يمنحه إياها بترك بصمته فيها، يتعذّر فصله عما يحلله من هذه الحالة، في أبعادها اللغوية، طبعاً، ولكن أيضاً الثقافية، والدينية، والأنتروبولوجية، والسياسية. حسّاسٌ بنوعٍ خاص لمسعاه (خصوصاً، لكن ليس فقط، بسبب أصولي المغاربية)، حاولتُ أن أقول ذلك، بطريقة تعبّر عن امتناني وقرابتي، خلال ندوة جمعتنا منذ بضع سنوات في “جامعة لويزيانا” (نظّمها الشاعران إدوار غليسان ودايفيد ويلس)، وخلال ندوات دولية أخرى.


عبد الكبير الخطيبي ليس فقط كاتباً “يتعذّر تجنّبه”، كما يقال، لمَن يهتم بالأدب الفرنكفوني لهذا القرن، بهذا الأدب حيثما يفيض، ويفكّر، ويحوّل الثقافة الفرنسية، وحيثما يشهد على التاريخ السياسي، والاستعماري، وما بعد الاستعماري، الذي يربط فرنسا بمستعمراتها ومحميّاتها السابقة.

فأعماله هي أيضاً “قدوة”، من جهة أخرى، لمَن يهتم بمشاكل “التعددية الثقافية” و”حالة ما بعد الاستعمار” كما يشغف بها اليوم، بشكلٍ مبرَّر، كمٌّ من المثقفين والجامعيين والمواطنين من جميع الأصول.”[7]

بالإضافة إلى الشهادات التي سبق ذكرها والتي خصت المفكرين معًا جاك دريدا والخطيبي، فيمكن أيضًا ولتوصيف أكبر أن نعرض لمؤلفين اثنين ساهما بشكل أساسي في تجسيد الصداقة الإنسانية والصداقة الفكرية اللتين تجمعان الإثنين. الأول أصدره جاك دريدا تحت عنوان: “أحادية لغة الآخر Le monolinguisme de l’autre” والثاني أصدره عبد الكبير الخطيبي تحت عنوان: “Jacques Derrida, en effet جاك دريدا، طبعًا”.


  • 1. كتاب جاك دريدا: “أحادية الآخر اللغوية Le monolinguisme de l’autre[8]

هو مؤلف في شكل حوار غير مباشر مع صديقه عبد الكبير الخطيبي يعود فيه بذاكرته إلى أشغال الملتقى الدولي الذي انعقد بلويزيانا بالولايات المتحدة الامريكية سنة 1992 والذي التأم فيه ثلة من الباحثين الذين يشتغلون باللغة الفرنسية والذين ينتمون إلى ثقافات متباينة وأمم مختلفة ليتدارسوا فيه أعمال جاك دريدا. لكن دريدا يؤكد وجود واحد من أهم المشاركين في هذا الملتقى العلمي ألا وهو صديقه عبد الكبير الخطيبي.

في هذا الكتاب، يؤكد دريدا أنّه يمتلك فقط لغة واحدة وهي اللغة الفرنسية التي هي لغة الآخر أي لغة الاستعمار والثقافة علمًا أنّ دريدا ازداد في الجزائر وينتمي إلى أسرة يهودية. وعلى الرغم من إتقانه لعدة لغات أخرى إلا أنّه يعتبر نفسه أحادي اللغةmonolingue، لا يستطيع التكلم إلا بهذه اللغة وفي الآن نفسه فإنّه يحتاج إلى أكثر من لغة[9].

وركز دريدا اهتمامه أساسًا بمؤلف عبد الكبير الخطيبي الصادر سنة 1983 تحت عنوان: “Amour bilingue” (حب مزدوج اللغة) والذي يتأسس حول مفهوم الخطيبي الخاص للغة، لغة يستعملها ويعي أنّها ليست لغته ولغة يعشقها بشدة لكنها عصية عليه.

يقول دريدا وهو مختلف مع صديقه في مفهومه لإشكالية اللغة تحديدًا وفي علاقتها أيضًا مع إشكالية الهوية:

“..فيما يخص عبد الكبير الخطيبي فيتخذ من جهته عما يسميه “لغته الأم” (الأصلية)، اللغة الفرنسية تحديدًا، مع أنّه يتحدث عنها بلغة أخرى هي اللغة الفرنسية أيضاّ، وهذا ما سارع إلى إفشائه علنًا عبر مقاله المخطوط باللغة الفرنسية، ما يجعل من “لغته الأم” (الأصلية) سرًّا لم يحسن الحفاظ عليه.


نعم، إنّ صديقي عبد الكبير الخطيبي لا يتردد في استخدام “لغتي الأم” (الأصلية) مع أنّ قشعريرة واضحة تصاحب نطقه لها، قشعريرة يمكن تبنيها بعيدًا عن ذلك الزلزال اللغوي الخفي الذي يؤسس لتلك الرتابة الشعرية (الترجمة الأقرب ربما هي: الاهتزاز أو الارتجاج الشعري vibration poétique) التي تطبع كل أعماله، مع ذلك يبدو أنّه لا يتوانى في استعمال تعبيره السابق “اللغة الأم” (الأصلية)”.[10]

  • ويضيف دريدا قائلاً:

“..فالخطبيي يحمل في أذنيه طنين لغة مضاعفة. مع ذلك، فإنّنا ما إن نفتح هذا السفر الكبير الذي يحمل عنوان “حب مزدوج اللغة Amour bilingue“، حتى نجد أنّ الخطيبي قد اتخذ أمّا له، أمّا واحدة وأي أمّ. فهذا الذي كان يتحدث بصيغة المتكلم بدا يجهر بصوته انطلاقًا من لغة أمه. إنّه يعود بذاكرته إلى لغة أصلية يكون قد “فقدها”، لكن دون أن يفتقدها.

إنّه ما زال يحتفظ بما فقده، في الوقت ذاته الذي مازال يحتفظ فيه بما لم يفقده أيضًا، كما لو أنّه كان في مقدوره ضمان خلاصه حتى وإن تم ذلك عبر خسارته الذاتية. لقد كانت لديه أم واحدة وأكثر من أم دون شك، لكن مع ذلك فقد أصبحت له لغته الأم (الأصلية)، اللغة الأم (الأصلية)، لغة أمّ (الأصلية) واحدة بزيادة لغة أخرى. هنا يمكنه أن يقول بأنّ له “لغته الأم” (الأصلية) دون أن يطفو إلى السطح أي أثر لأدنى اضطراب من أيّ نوع كان.”[11]


  • 2. مؤلف عبد الكبير الخطيبي: “Jacques Derrida,en effet جاك دريدا، طبعًا”:

صدر الكتاب سنة 2007 عن دار المنار بباريس ويتضمن رسومًا للفنان الإيطالي: فاليريو أدامي Valerio Adami.

يندرج هذا المؤلف ضمن ما يسمى بالصداقة الفكرية القائمة على مبدأ القبول بالاختلاف والمحبة والجدال المثمر والحجاج البناء وضمن ما يصطلح عليه برد الجميل ولكن في إطار عال من المقارعة الفكرية المتميزة والتواصل المعرفي الرصين.

ضم عبد الكبير الخطيبي في مؤلفه: Jacques Derrida,en effetوالمخصص لتوجيه التحية إلى صديقه أربعة نصوص إثنان سبق أن ألقيا بحضور دريدا. وكل هذه النصوص وإن كانت عبارة عن سجالات فكرية حول مواضيع شتى يتقاسمها الصديقان إلا أنّها تعبير واضح عن مدى المحبة التي يكنها الخطيبي لصديقه:

– “نقطة عدم الرجوع Le point de non retour

هذا النص خصصه الخطيبي أساسًا لإعطاء تصوره الخاص بصفة غير مباشرة حول ما جاء به صديقه دريدا من طروحات وأفكار حول اللغة، والآخر والهوية، والتي تضمنها مؤلفه الذي سبق ذكره والموسوم بـ: “أحادية لغة الآخر Le monolinguisme de l’autre” المرتكز على الافتراضين التاليين:

1- لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة فقط On ne parle jamais qu’une seule langue

2- لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة فقط On ne parle jamais une seule langue

دريدا يتكلم هنا بطبيعة الحال على اللغة الفرنسية. الخطيبي يضيف هنا بأنّها لغة الاستعمار بمعنى لغة الآخر وهذا مهم في إطار تحليل هذه الإشكالية وربطه بسياقها السياسي والاجتماعي الصحيح. هي رؤية تنتمي بشكل ضمني إلى الدراسات ما بعد الكولونيالية Postcolonial studies والتي تميز عمومًا كتابات عبد الكبير الخطيبي منذ “الذاكرة الموشومة” (1971).[12]


يؤكد الخطيبي أنّ دريدا يتكلم فعلاً على اللغة الفرنسية التي فرضها الاستعمار في الجزائر تحديدًا (دريدا ازداد في الجزائر كما نعلم) مقصيًا بذلك اللغات المحلية مثل اللغة العربية، اللغة الأمازيغية (تامازيغت) والتي تضم أيضًا اللغة التركية وغيرها.[13]

بالنسبة إلى الخطيبي، طرأت على اللغة الفرنسية موضوع الإشكالية تغييرات كثيرة وأصبحت تضم مفردات من اللغات الإسبانية، الإيطالية بفعل عامل الهجرة. يضع الخطيبي مجموعة من الأسئلة أهمها مدى التأثير الإيجابي ربما لعملية تهجين اللغة على الابتكار في مجال اللغة عمومًا والأسلوب بشكل خاص وأيضًا كيف تمت عملية محو الصفات مميزات وخصائص اللغات المحلية.[14]

النصوص الثلاثة الأخرى والتي لا تقل أهمية عن النص الأول، وتكتسي طابع الاحتفاء بجاك دريدا، ويتخذ فيها الخطيبي أسلوب السجال الفكري غير المباشر مع طروحات صديقه ورؤيته. وهذه النصوص هي:

  • – “رسالة مفتوحة إلى جاك دريداlettre ouverte à Jacques Derrida “:

والتي سبق أن تحدثنا عنها سابقًا وسبق نشرها في مجلة. وهذه الرسالة عبارة عن قراءة في كتاب جاك دريدا السالف الذكر: “أحادية الآخر اللغوية Le monolinguisme de l’autre. استهل الخطيبي هذه “الرسالة” بهذا الاستفهام الغارق في الرمزية المشعة:

كيف يمكن قراءة نصوصك؟ ربما مثل ضرب من القوة في البداية، فكر يفتح طريقاً للتمرد مع اللغة وضدها، اللغة الفرنسية. هذا الفكر يتفرع، هنا، انطلاقاً من عبارة ما، أو تناقض، ربما حنث باليمين، أنت تقول: “لا أمتلك إلا لغة واحدة، وهي ليست لغتي”.

لكن، من المعتاد التأكيد على أنّ اللغة الأم هي ملكية أصيلة لأمناء هذا الإرث، كيف السبيل إلى مقارعة إحساسهم بالانتماء لهذه الرابطة؟ هل نكتفي بالقول بأنّ اللغة لا تنتمي لأحد؟

لقد أعدت قراءة مؤلفك، أليست رغبة الكاتب أو المفكر هي أن ينقل إلى القارئ حياة مادية وغير مادية، مرقعة بعلاقة انفصال يتعذر هدمها، تنسجها اللغة ويسندها الإنسان! لعبة الحياة، لعبة الموت، ولعبة الميراث، مسؤولية راديكالية. غالبًا، لا نقبض إلا على الجانب المشرق منها، احتفال واستمتاع بالقراءة، بينما يخمد فعل الكتابة تحت أنقاضها، يتوهج من الداخل بأكبر أناقة ممكنة.


أتصور أنّ فن القراءة (علاوة على ذلك، كيف يمكن قراءة نص مغر صديق ما زال على قيد الحياة؟) يقوم باستضافة هبة الرغبة والنقل الفوري ويمنحها دون مقابل إلى قارئ مجهول. تخلد هذه الرغبة، تتجسد كل مرة في حياة القارئ الروحية، ليس لإغرائه، ولكن من أجل لفت الانتباه إليه. إنّه انتقال لا هو طبيعي ولا هو مصطنع. هو انتقال في شكل ابتلاء، تقص، بل هو بحث عن اللا متوقع إن لم نقل بحث عن اللامسموع.

ما إن يُكتب الكتاب حتى يسقط ضمن ماضي صاحبه، وأنا كقارئ، تشدني القوة الأخرى للماضي التي تتفجر في حاضري. ماض أنا مسؤول عنه (ولكن تحت قانون أي وصاية؟) وتقع على عاتقي مسؤولية تسلم هذا الإرث من أجل صيانته وتشكيله.

هي وصية لا تنتمي لأحد مثله مثل اللغة الأم. ألا يعتبر هذا من قبيل عقد بإعادة التملك، بتوقيع على بياض، وبدون فائدة، عرض غيرمقنع، هل هذا ممكن؟.ستكون إذن وضعية مثالية من أجل قراءة نصك بثقة”.[15] (ترجمتي)


  • – “الاسم والاسم المستـــــــــــعار Le nom et le pseudonyme:

يتكلم الخطيبي في هذا النص عن إشكالية اللغة ولغة الكتابة تحديدًا مذكرًا مرة أخرى بتجربته الخاصة مع الكتابة. هو نص أوتوبيوغرافي أبرز الخطيبي فيه بداياته الأولى مع مغامرة الكتابة وهو ما زال لم يتجاوز عمره 12 سنة وكانت محاولاته الأولى باللغة العربية.

الكتابة باللغة الفرنسية في نظر الخطيبي وكما جاء في هذا النص هي عملية ترجمة في حد ذاتها وفي إطار هذا التقسيم تتم عملية الكتابة إذن. هي ترجمة فورية كما يؤكد الخطيبي، يقوم من خلالها بالتقاط الإشارات والعلامات ونقل دلالاتها من اللغة العربية إلى لغة الكتابة التي هي اللغة الفرنسية. وربما تكون الترجمة حرفية في بعض الأحيان[16].


  • – “صيغ حول الصداقة Variations sur l’amitié“:

يتحدث الخطيبي في هذا النص عن مفهومه للصداقة ودائمًا في إطار تقديم التحية إلى صديقه الأبدي جاك دريدا. هذه الصداقة التي يتكلم عنها الخطيبي تأخذ عدة أشكال وصيغ. صداقة قد تكون فردية وجماعية. صداقة قد يصل مداها إلى مستوى التّحاب L’aimance. ويعرف الخطيبي التّحاب كالتالي: “أن تحب وأنت تفكر”.[17]

هذا المستوى الراقي من التواصل الوجداني والفكري يحيل إلى ما يسميه الخطيبي “بالصداقة الثقافية l’amitié intellectuelle”.


  • خاتمة:

ما يشد الانتباه في موضوع صداقة الخطيبي ودريدا هو أنّ الحدود الفاصلة بين صداقتهما الفكرية والإنسانية ليست سميكة. صداقة تنبني على الصدق، على المكاشفة، على الحوار البناء والمتجدد. صداقة تتأسس على مقارعة الفكر بالفكر دون تجريح مع تكرار العبارة التالية في كل جدال معرفي أو تواصل فكري بين هذين الرمزين الفكريين: “كما يقول صديقي عبد الكبير أو كما يؤكد صديقي دريدا..”

هي صداقة أبدية وإن غاب الرجلان عنا لأنّ فرضيات تأسست عبر هذه الصداقة، وطرحت إشكاليات ما زالت تغري بالكشف والبحث والتحليل العلمي الرصين. يقول الخطيبي: “الصداقة الفكرية لا تنقضي بموت صديق من الأصدقاء. على العكس من ذلك تستمر وتتناسخ بشكل متفرد من خلال التأبين وأيًضا عبر محنة طرد الأرواح الشريرة.”[18]


[1] Khatibi, Abdelkébir. 2007. Jacques Derrida, en effet. Dessins par Valerio Adami. Paris: Editions Al Manar, p.7

[2] رشيد بوطيب بوطيب، “ماذا تعني فلسفة الاختلاف”، جريدة الشرق الأوسط، عدد 8360، 18 أكتوبر 2001

[3] Khatibi, Abdelkébir. 2007. Jacques Derrida, en effet. Dessins par Valerio Adami. Paris: Editions Al Manar, p.34

[4] Ibid, p.34

[5] Abdelkébir Khatibi, “Double Criticism: The Decolonization of Arab Sociology“, in Halim Brakat, ed., Contemporary North Africa: Issues of Development and Integration (Washington,D.C.: Center for Contemporary Arab Studies, Georgetown University, 1958), p.10

[6] شاكر نوري، “رحيل الفيلسوف الشهير جاك دريدا”، جريدة المدى

[7] جاك دريدا، “ليس فقط كاتباً يصعب تجنبه”، ترجمة أنطوان جوكي، جريدة العربي الجديد، 16 مارس 2015

[8] Jacques, Derrida. 1996. Le Monolinguisme de l ‘autre. Paris: Galilée

[9] Ibid, p.25

[10] جاك دريدا، أحادية الآخر اللغوية، ترجمة عمر مهيبل، الجزائر: منشورات الاختلاف، 2008، ص 69

[11] نفسه، ص 71

[12] La Mémoire tatouée, roman, Paris, Denoël, coll. Lettres Nouvelles, 1971 et Poche Coll. 18/18, 1979

[13] Jacques, Derrida. 1996. Le Monolinguisme de l ‘autre. Paris: Galilée, p.24

[14] Ibid, p.24

[15] Ibid, pp.33-34.

[16] Khatibi, Abdelkébir. 2007. Jacques Derrida, en effet.Dessins par Valerio Adami.Paris: Editions Al Manar, pp.51-52

[17] Ibid, p.69

[18] Ibid, p.69


  • مراد الخطيبي

باحث وناقد مغربي، حاصل على ماستر في الترجمة (العربية -الإنجليزية-الفرنسية) والتواصل بين الثقافات، شعبة اللغة الإنجليزية من جامعة أبي شعب الدكالي، الجديدة، المغرب. يحضر رسالة دكتوراه في موضوع الخطاب السياسي والترجمة (شعبة اللغة الإنجليزية) بجامعة محمد الخامس بالرباط، نشر العديد من النصوص في مجلات وطنية ومواقع إلكترونية، وشارك في عدة مؤتمرات علمية. أصدر مجموعة من الدواوين الشعرية، منها: “بهجة الصمت” (2008)، و”هسيس الذاكرة” (2014).


مؤمنون بلا حدود

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page