تَعبِيرُ الرُّؤَى وتفسيرُ الأحلام – بين العلم والرَّجم بالغَيْب
ثلاثةُ نماذجَ تحليليّة: ابن سيرين، سورة يوسف، سِيغموند فرويد.
تفسيرُ الأحلامِ؛ ظاهرةٌ عامة في كل الشعوب والأمم، ضاربةٌ في ثقافة الشعوب قِدَمَ التاريخ؛ وحاضرةٌ في كلٍّ عصَرٍ وأوان. تعاطاها الأسيادُ والأشراف والحُكام والولاة والوزراء؛ ومَن له من العِلم والثقافة نصيب. كما تعاطاها العامة والسوقة والأميُّون. وظلَّ موضوع تفسير الأحلام؛ موضوعاً معزولا ومُنزويا يرتادُه ويتردَّدُ عليه زبناؤه في الظل.
وسنحاول في هذا المقال؛ استعراضَ ثلاثة نماذج تحليلية لتشريح هذا الموضوع وتقريبِه أكثر للقارئ العربي العادي؛ ورسمِ حدودِه المعقولة وضوابطِه المنطقية. وسننطلق من الأسئلة التالية:
- هل نحتاج حقاً إلى تَعبِيرِ رُؤانا وتفسيرِ أحلامِنا ؟
- ماذا ينفعُنا تعبيرُ الرُؤى وتفسيرُ الأحلام ؟
- هل الأحلام والرؤى مُحدِّدَةٌ لمصائرِنا ومآلاتِنا ؟
- هل الأحلام مسؤولة عن نجاحاتِنا وإخفاقاتِنا ؟
- لماذا نحلم ؟
- هل للحلم دور في حياتِنا؟ أم أنه أمرٌ عارِض؟
- هل الأحلام ضرورية؟
- هل الأحلام مفيدة؟
- هل يمكن استثمار الحلم في الكشف عن خبايا النفس البشرية ؟
- ابن سيرين
بالعودة إلى ما تم تأليفُه حول هذا الموضوع، سنجدُ كمًّا غيرَ يَسيرٍ من الكُتُب والمؤلَّفات التي تُفسِّرُ وتُعبِّر الأحلام والرؤى. ومن أشهرِها على الإطلاق؛ نجدُ كتابا عن “ابن سيرين” لم يَكتُبْهُ هو؛ ولكن أُلِّفَ عنه، فقد كتَبَهُ شخصٌ؛ قِـيلَ إنه تتبع تعبيرات وتفسيرات ابن سيرين؛ وجمَعَهَا في مؤلفٍ سمَّاهُ (تفسير الأحلام لابن سيرين)، غير أن كثيراً مِمَّا حَواهُ هذا الكتاب عن ابن سيرين حول تفسير الأحلام؛ يَصْعُبُ التأكد والتحقق منه، خاصة ما يتعلَّق بتَحَقُّقِ تفسيراتِه وتعبيراتِه للأحلام والرؤى، أما السؤال الأهم في هذا الموضوع فهو؛
- كيف يُعبِّر ابن سيرين الرؤى والأحلام؛ ولماذا ؟؟
لقد تجنَّبَ الذين كتبوا عن ابن سيرين ونقلواْ تعبيراتِه وتفسيراتِه؛ تجنبوا الإجابةَ على هذا السؤال، وقال بعضُهُم؛ إنه يُـؤَوِّلُ بالفِراسة. أي أن ابن سيرين يتأمل صاحب الرؤية أو الحُلُم؛ فيهتدي إلى التفسير الصحيح والتعبير المناسب بفِراسَتِه وحذاقتِه وبُعدِ بصيرَتِه، فيُفتي الرائي أو الحالِم في رُؤياهُ أو حُلُمِه.
والناظرُ في هذا الكتاب؛ سيجد تفسيراتٍ وتعبيراتٍ مُباشرةٍ؛ أشبهَ ما تكونُ بالفتاوى منها إلى تعبير وتفسير الأحلام، ولكنَّه لا يجدُ على الإطلاق ملامِحَ عِلمٍ أو بوادِرَ نظريةٍ، كما لن يجدَ الباحثُ أو الدارس أو الفاحِص لِتعبيرات ابن سيرين وتفسيراتِه؛ أيَّ رابطٍ منطقيٍّ أو علاقة معقولة بين الحُلُم وتفسيرِه أو الرؤيا وتعبيرِها. وللأسف؛ فقد انتشرَ هذا الكتاب انتشاراً كبيرا، وأصبح عند البعضِ مرجعاً مُعتمَدا في تفسير الأحلام.
الطريقة التي يُفسِّرُ بها “ابن سيرين” الأحلامَ ويُعبِّرُ بها الرُّؤَى؛ رأيٌ وليستْ عِلماً.
لقد امتلَكَ ابن سيرينَ من المؤهلات العِلمية والمعرفية؛ ما كان سيُمَكِّنُه من أن يَحْدُوَّ حَدْوَ أبي الأسود الدؤلي الذي وضع عِلم النحو، أو الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي وضع عِلم العروض، فلماذا لَـمْ يَفعل؟؛ ويضعَ لنا عِلمَ (تعبِيرِ الرؤى والأحلام)، عِلْماً قويماً يقومُ على قواعِدَ ومُحدِّدَاتٍ موضوعية وثابتة، ليكونَ آلةً ناجعةً نُعطِيها الحُلُمَ وتُعطينا تعبيرَه وتفسيرَه.
لكنَّهُ لمْ يَفعل!!. ربما لأنه لم يمتلك الوسائل والأدوات التي تمكنُه من ذلك. أو لَرُبَّما رَسَخَ في بالِه أنه يَستحيل وُضعُ عِلمٍ لتعبير الرؤى وتفسير الأحلام. رغم أنه كان يعتمد الرموز ويؤوِّلُها في تعبيراتِه. أما عن الثمرة المرجوة من تعبير الرؤى عند ابن سيرين؟؟
فالحقيقة أن تعبيرَ الرؤى عندَهُ وعند غيرِه ممن يتعاطون لهذا الموضوع في القنوات العربية وفي العالَم العربي بشكل عام؛ ليست له غايةٌ محدّدة؛ وإنما يفعلون ذلك بمنطق العرّاف أو قارئ الأبراج أو قارئ الكف والفنجان، الذي يُنْبِئُ السائلَ بما سيصيبُهُ من خيرٍ أو شرٍ أو نجاح أو فشل رجماً بالغيب.
مما يجعَل الحالِم والرائيَّ الأمِّيَّ أو العاميَّ أو محدودَ المعرفة؛ نَـهْباً لتأويلاتِ الـمُفسِّرين وسجينَ تفسيراتِهم. فهو بين خياريْن أحلاهُما مُرٌّ؛ فإما أن يَنْتَشِيَّ بالتأويلِ الإيجابي، ويعيشَ على أملِ تحقيقِه، أو يعيش في حالة من الخوف والهلع والرّعب والتَرَقُّبِ عندما يكون التأويل والتفسير سلبيا ويحملُ تَوَقُّعاتٍ سيئةٍ للرائي أو الحالِم.
المُفسِّرُ والمُعبِّرُ للأحلام؛ لا يَمتلِكُ دليلا على تفسيراتِه وتأويلاتِه، ورغم ذلك يَفرض على صاحب الرؤيا أو الحُلم الأخذَ بها كما هي؛ وتصديقَها دون أن يسألَ أو يتساءَل.
لقد كان تأويل ابن سيرين للأحلام؛ مبنيا على اجتهادٍ قائمٍ في مُعظمِه على المقابلة بين رموز القرآن ورموز الحُلُم من دونِ أيِّ مصوِّغٍ موضوعيّ، ومن دون أيّ ضابطٍ أو رابطٍ منطقيٍّ.
فابن سيرين فَسَّرَ رُؤية الخيط في المنامِ على أنه رَمْزٌ (للبيِّنَةِ) واستنتج هذا التأويل من قولِه تعالى: {حتى يَـتَـبَـيَّــن لكم الخيْطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر}[i]. فالخيط الذي قَصَدَهُ القرآن؛ هو شُعاع نور الفجر، ووَجْهُ المشابهة في هذا المثالِ لَفْظِيَّةٌ فقط وليستْ مادية.
نفسُ الشيء ينسحِبُ على الألوان، حيث يرى ابن سيرين؛ أن اللونَ الأصفر يُنبئ بالمرض، واللونُ الأحمرُ يُحيلُ على الظُّلْم والفتك والدم، واللون الأسود على الظلام والخوف و…، وهذه تأويلاتٌ وإسقاطاتٌ انطباعية وليست علمية. إذ لا علاقة ماديَّةً لِلَّوْنِ الأصفر بالسَّقَمِ، كما أنه لا علاقة للونِ الأبيض بالعافية أو الطُّهرِ أو التوبة. وأقسى ما يُمكن إنجازُه بهذا الصدد هو قراءة أو دراسة سيميائية تأويلية لعلاقة الدال بالمدلول لا أكثر.
ابن سيرين كان يُفتي في الرُّؤَى ولَمْ يَكُن يُؤَوِّل.
نفسُ الشيء يُقال على الرموز الأخرى التي أوردَها ابن سيرين (وغيرُه من المعبّرين) كالفواكه والخضر والأشياء والجمادات و…، وبالتالي؛ فالتأويل هنا اجتهادٌ انطباعيُّ ورأيٌ شخصيٌّ وليس عِلْماً. إنه رجم بالغيب (قد يُصيب وقد يُخطئ).
تأويلُ الرُّؤَى وتفسيرُ الأحلام بهذه الطريقة التي يُروَّجُ لها في القنوات العربية؛ نوعٌ مِن الرَّجْمِ بالغَيْبِ واستخفافٌ بعقول الناس؛ ولا يَستنِدُ إلى مُعطياتٍ عِلميَّةٍ موضوعيةٍ ومَنطقية.
- سورة يوسف
الـمُتأمِّلُ لموضوع الرؤى في القرآن الكريم؛ سَيُدرِك بسهولة ويُسر؛ حجمَ الاختلاف والتباين بين الطريقة التي يَعرضُ بها القرآن لهذا الموضوع، وحالة التعاطي الفوضوية وغير المنضبطة والمبالغ فيها لَدى الحالِم والـمـُفسر العربي على حدٍّ سواء.
وسنحاولُ تتبع الإشارات الدالة في حوادث تعبير الرؤى في القرآن الكريم؛ واستنتاجَ مجدّداتِها الكبرى من خلال السِّياق الذي وردتْ فيه دون إفراط ولا تفريط، ثم نَنْقُدَ بها الحالةَ الراهنة؛ وما آلتْ إليه في موضوع تفسير الأحلام.
ذُكِرَ مَوضوعُ تعبيرِ الرُّؤى في القرآن الكريم بشكل صريح في سورة {يوسف} في أربعة مواضِع:
- المَوْضِع الأول:
في مُفتتَحِ السورة؛ عند قولِه عزل وجل على لسان يوسف: {إني رأيتُ أحدَ عشر كوكباً والشمس والقمرَ رأيتُهُم لي ساجدين}. لم يُفسر يعقوبُ رؤيا ابنِه يوسف ولم يُؤوِّلها له، بل أمرَه فقط بعدم قصِّها على إخوتِه حيثُ قال: {لا تَقْصُص رُؤياك على إخوتِك}. ولو أوَّلَها له في هذا الموضِع لجاز ذلك، لأن يعقوب نَبيٌّ، ولكنَّه لم يفعل. على عكس ما يحدث اليوم من تسابق وتسارع الناس لتعبير أحلامِهم ورُؤاهُم؛ وتصدي كلِّ مَن هبَّ ودَبّ لتعبير الرؤى في القنوات الفضائية.
- الموْضِع الثاني:
وهو تعبيرُ رؤيا السَّجِينيْن اللذيْن دخلا مع يوسف السّجن؛ عند قولِه تعالى: {ودخل معهُ السّجن فتَيَان قال أحدُهما إنيَ أراني أعصِر خمرا وقال الآخر إنيَ أراني أحمِل فوق رأسي خبزاً تَأكُلُ الطيْرُ منه}[ii]، وقد عبَّر يوسف لهما رُؤياهما، فهل تعبيرُها هذا؛ علمٌ أم رأي ؟؟
القرآن الكريم حريصٌ على إبراز وتبيِينِ وتوضيح هذا الأمر، يُنبّئُنا القرآن الكريم قبل واقعة تعبير الرؤيا هذه، أن يوسف أُوتي حُكما وعِلما، وذلك في قوله تعالى: {ولـمَّـا بلغ أشدَّه آتيناه حُكماً وعِلما}[iii]، وبتتبع الآيات؛ سنجد أنه وقبل أن يَهُمَّ يوسفُ بتعبير رؤى السجينيْنِ، وضّحَ لهما أن تعبيرَهُ هذا؛ مُستنِدٌ إلى عِلمٍ فقال: {ذالكُما مِمَّا علَّمني ربي}[iv] أيْ أنه لا يتكلم برأيه وإنما بِوَحيّ إلهي؛ ولا يَعتمِدُ على فِراسَتِه وبُعدِ بصيرَتِه كما يفعلُ ابن سيرين، وإنما يتكلَّم بعِلمٍ آتاهُ الله إياه.
لذلك اختَتَم تعبيرَهُ لرؤياهُما بقولِه: {قُضِيَّ الأمر الذي فيه تستفتيان}[v] أي أن هذا التعبيرَ سَيَقَعُ قطعاً لا محالة، واستعمَلَ هنا الفعل الماضي للدلالة على أمرٍ سيحدثُ في المستقبل؛ يقيناً قاطعاً منه بحدوثِه ونفادِه. والقطع بالنتيجة عِلمٌ وليس رأياً. فالرأيُ قد يَصدق وقد يَخيب، أم العِلم فنتيجتُهُ مُتحقِّقَةٌ ومضمونة.
- الموضِع الثالث:
تعبير رؤيا الملك عند قولِه تعالى: {وقال المَلِك إني أرى سبعَ بقراتٍ سِمان يأكلُهُنَّ سبعٌ عجافٌ وسبعِ سنبلاتٍ خُضرٍ وأُخَرَ يابساتٍ يا أيها الملأ أفتوني في رؤيايَ إن كنتم للرؤيا تَعبُرُون}[vi]. واستعمالُ الـمَلِكِ للفعل المضارع (أرى) وليس الماضي (رأيتُ) دليلٌ على أن الحُلُم ذاتَه يتكرر باستمرار في منام الملك. لأن الفعل المضارع يُفيد الاستمرار في الزمن.
ويجمعُ هذا الموضع بين الرأي والعِلم في التعبير والتفسير، فالكهنة كانوا يُفتون بالرأي؛ فلما تعذَّرَ عليهم تعبيرُ رؤيا الملك؛ أسقطوا عنها صفة “الرؤيا” وألبسُوها صفة “الحُلم“؛ ونفواْ عن أنفسِهِم عِلمَ تأويل الأحلام؛ {قالوا أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلامِ بعالمين}[vii]. وتعمدواْ استعمالَ عبارة (عالِمِينَ) بدلَ (عارفين)؛ لأن المعرفة غيرُ العِلم.
فالعِلم أرفعُ منزلةً من المعرفة، وقد أرادوا بذلك أن يُوهموا الـمَلك أنهم يمتلكون عِلم تأويل الرؤيا؛ وليس فراسة تأويل الأحلام. وعبَّرها له يوسف عن عِلمٍ، واستخلَصَهُ الملكُ لنفسِه، وقال له يوسف اجعلني على خزائن الأرض؛ ثم أعطاه المسوِّغَ على طلبِه هذا فقال؛ {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}[viii]. فالعِلم؛ هو المقوّم الأساسي الذي يوجه أفعال وأقوال يُوسف عليه السلام وليس الرأي والفراسة والبصيرة؛ وإن جاز له ذلك باعتبارِه نبيًّا.
- الـمَوْضِعُ الـرَّابـــع:
في أواخر سورة يوسف عند قولِه تعالى: {ورفعَ أبويْه على العرشِ وخرُّواْ له سُجَّداً وقال يا أبتِ هذا تأويلُ رُؤيايَ مِن قَبْلُ قد جعلَها ربي حقاً}[ix]، ابتدأتْ السورة الكريمة برؤيا يوسف، وانتهت بتعبير يوسُفَ لرؤياه هو بنفسِه، والغريب في هذا؛ أن يوسف عليه السلام لم يعبِّرْها إلا بعدَ أن تحققتْ رغم أنه أوتِيَ علمَ تأويل الرؤى.
- ونودُّ أن نُشير هنا؛ إلى أننا نستقرئ الآيات فقط؛ ونَعْرِضُ بعضَ ما تتضمَّنُه من دلالات ومؤشرات ومعالِمَ واضحة.
هناك كمٌّ هائلٌ من الأسئلة ومن الإشارات الثاوية في قصة يوسف؛ لا ينتبه لها كثيرٌ من الناس في موضوع الرؤيا، فمثلا؛ أن يوسفَ لم يُعبّر رؤياه حتى تحقَّقَت أمام ناظريْه. كما أن الرؤيا حصلتْ ويوسف ما يزالُ طفلا، ولم تتحقق إلا بعد أن بلغ أشدَّهُ وأصبح مَلِكا، كما أن الأحداث التي وردتْ في قصة يوسف؛ لم تكن الرؤيا هي الموجِّهَ لها إطلاقا، والدليل؛ أنَّ يعقوب عليه السلام؛ لم يُعبِّر لابنِه يوسف رؤياه، كما أن يوسف لم يَسْعَ إلى تعبيرِها بعد أن لم يُعبِّرْها له أبوهُ يعقوب.
- يعقوب لمْ يُعبر رؤيا يوسف.
- يعقوب لمْ يُعَلِّم يوسفَ أو أحداً من أبنائِه تَعبيرَ الرؤى.
- المَلِكُ لمْ يَطلُب من يوسف تَعليم تَعبير الرُّؤى لحاشيَّته أو للناس.
- يوسف لم يُعلم أحداً تعبير الرؤى.
فباستثناء الـمَلِك والسجينيْن، لمْ يأتِ أيُّ شخصٍ آخر ليطلبَ من يوسف تعبير رؤاه. فخلال سورة يوسف كلِّها؛ لم تَرِدْ إلا أربعُ رؤىً فقط عبّرها يوسف كلَّها، هذا؛ إذا أخذنا في الاعتبار أن السورة غطَّتْ حياة يوسف من طفولتِه إلى أن صار مَلِكا. في المقابل؛ عبّر ابن سيرين آلاف الرؤى والأحلام إن لم نقل أكثر من ذلك بكثير. والكتاب الذي وُضِعَ عنه؛ يعتمدُ التقسيم الألفبائي في الأبواب نظراً لكثرتِ الأحلام والرؤى الـمُضمَّنة في الكتاب وغزارتِها.
- مصطلحات تعبير الرؤى التي وردتْ في سورة يوسف.
- التأويل: وهو المصطلح الذي استعمَله السجينيْن اللذيْن دخلا السجن مع يوسف {نبِّئنا بتأويلِه إنا لنراك من المحسنين}، وهو نفس المصطلح الذي وظَّفَه يوسف { فقال يا أبتِ هذا تأويلُ رؤيايَ من قبلُ قد جعلَها ربي حقا}.
- التعبير والفُتْيَة أو الفَتْوَى: وهو المصطلح الذي استعمَلَه الملك؛ {يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون}. وابن سيرين كان من أصحاب الفُتية في تعبير الرؤى، في حين كان منهج يوسف عليه السلام هو التأويل. والتأويل هو المصطلح العلمي الصحيح. يقول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام {ربي قد آتيتني مِن الـمُلك وعلمتني من تأويلِ الأحاديث}.
تأويلُ الرؤيا بالمفهوم القرآني؛ عِلمٌ مخصوصٌ بالأنبياء، شأنه شأن “عِلم منطِقِ الطَّيْر” الذي خصَّ الله به نَبِيَّهُ سُليمان عليه السلام. يقول الله عز وجل:
- {وكذلك يجتبيكَ ربُّك ويعلّمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمتَهُ عليكَ وعلى آل يعقوب}.
- {ربي قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث}.
- {وإنه لذو عِلمٍ لِما علَّمناه ولكن أكثر َالناس لا يعلمون}.
- سيغموند فرويد
سيغموند فرويد؛ عالِم طبيعيٌّ ماديّ، يؤمن بالنتائج الواقعية الملموسة، ويعتمد حصراً على المعطيات الطبيعية والتجريبية. وعندما قرر خوضَ غِمار دراسة الأحلام والرؤى، لم يكن هدفُه من ذلك تفسيرَ هذه الأحلام وحسْب، (كما فعل ابن سيرين ومَن أتى بعدَه). ففرويد بِحُكم تخصُّصِه في عِلم النَّفس، اضطرَ إلى توظيفِ الأحلام كوسيلة للكشف عن خبايا هذه النفس وفكِّ أسرارِها وفهم تصرفاتِها وانفعالاتِها.
تفسيرُ الأحلام عند فرويد وسيلةٌ فقط وليست غاية.
استطاعَ فرويد وعبْرَ مسارٍ طويل من الأبحاث والدراسات السريرية، التوصُّلَ إلى الشخصية المسؤولة عن تصرُّفاتِنا وسلوكاتِنا وانفعالاتِنا، وقد حدَّدَها في ثلاثِ شخصياتٍ رئيسية هي:
- الهو: وهي الشخصية في حالتِها البدائية؛ أي الغريزية التي تحكمُها الرغبة وتوجهُها الشهوة، وهي شخصيةٌ منفلتةٌ غير واعية وغير عاقلة، جامحة ولا تؤمن بالممنوعات أو المحرمات.
- الأنا: وهي الوسيط بيننا وبين العالم؛ وتمثِّل الإدراك الواعي والشخصية المتزنة والتفكير الحكيم والمنطقي والمنضبط.
- الأنا الأعلى أو الأنا العُليا: وهي الشخصية في صورتِها المثالية أو الكاملة، إنها الضمير. حيثُ تبدوا في قمة التحكم والانضباط والعقلانية والتحفظ. عنوانُها الأخلاق والمبادئ والقيم والاستقامة والصلاح و..، وتنبُذُ الأفعال والأفكار التي توجِّهُها الشهوة والغريزة.
الأنا العليا مثاليةٌ وليستْ واقعية؛ وتنطبقُ على الملائكة وليس على البشر، لأن البشر مفطورونَ على الخطأ، لذلك فهم مُطالبون بالتوبة.
- الأنا العليا؛ هي إحدى أهم الوسائل الإغوائية التي يعتمدُها الإعلام للترويج لبعض الشخصيات ورفعها إلى درجة الكمال، تماما كما تفعل بعض القنوات التي تُروّج لرجال الدين؛ حيث تُقدِّمُهُم لجمهورِها على أنهم ملائكة أو أقرب إليهم. هذا التقديم المثالي والكاذب؛ يجعلُ المشاهد العادي أو محدودَ المعرفة أو الأميَّ؛ يتأثر بهذه الشخصية الزائفة تأثيرا لا محدوداً؛ ما يجعلُه يبتلع بشكل غير واعٍ كل ما تقدِّمُهُ له.
مِن هذا التقسيم، استنتجَ فرويد أن الإنسان لا يوجِّهُهُ العقل وحدَه، وتصرفاتُه ليستْ مثاليةً طول الوقت، بل إن كثيراً من تصرفاتِنا تكون غير معقولة وغير منطقية، ويقف وراءَها اللاوعي، وبعضُها يقف وراءَهُ الشهوة. ويقصدُ فرويد بالشهوة هنا؛ الرغبة أو الغريزة. وبالتالي؛ فإن الوعي واللاوعي والرغبة؛ هم العناصر المسؤولة عن تصرفاتِنا وانفعالاتِنا وانطباعاتنا.
يستطيعُ الملاحظ أو القارئ العادي؛ فضلاً عن الـمُتخصص، أن يستشِفَّ منهجية فرويد هذه في التحليل النفسي، ويدرِك حمولَتَها العلمية وبوادِرَها النظرية، وبالتالي؛ فالنظرية التي سيضعُها فرويد عن الأحلام، (والتي سنتطرق لها بالتفصيل) تَصلُحُ لأن تكون نواةً يمكن البناءُ عليها لإقامة “عِلم تفسير الأحلام”.
بالعودة للأسئلة التي طرحناها قبلا وهي:
- هل نحتاج حقا إلى تَعبِيرِ رُؤانا وتفسيرِ أحلامِنا ؟
- ماذا ينفعُنا تعبيرُ الرُؤى وتفسيرُ الأحلام ؟
- هل الأحلام والرؤى حقا مُحدِّدَةٌ لمصائرِنا ومآلاتِنا ؟
- وهل الأحلام مسؤولة عن نجاحاتِنا وإخفاقاتِنا ؟
سنجدُ أن فرويد قد تعدَّاها بمراحلَ وأشواطٍ كثيرة، وطرحَ أسئلةً أخرى أكثرَ عِلمية، وتَمَسُّ قضيةَ الأحلام في الصميم، ومنها على سبيل المثال:
- لماذا نَحلم ؟
- هل للحُلُم دورٌ في حياتِنا؟ أم أنه أمرٌ عارِض؟
- هل الأحلامُ ضرورية؟
- كيف يؤثر الحُلم في الحالة النفسية للإنسان؟
- هل الحالة النفسية هي من توَّجِهُ الحُلم، أم العكس؟
- هل الأحلام مفيدة؟
- هل يمكن استثمار الحلم في الكشف عن خبايا النفس؛ وبالتالي مُعالجة الحالات النفسية المرضية؟
واضح من خلال هذه الأسئلة، أن الحلم بالنسبة لفرويد؛ مجردَ وسيلة للوصول إلى ما هو أبعد من ذلك، ألا وهو الكشف عن خبايا النفس البشرية. وهذا ما لا نجدُه بتاتاً عند المتصدِّين لتعبير الرؤى وتفسير الأحلام منذ ابن سيرين إلى اليوم. وتظلُّ التعبيراتُ عبارةً عن فتوىً يُلزِم بها المفسِّرُ؛ الرائيَ ويُجبرُه على تصدِقِها والتَّسْلِيمِ بها دون أي دليلٍ أو إثبات.
يرى فرويد أن الأحلام ما هي في النهاية إلا أعراضٌ لحالة نفسية معينة. شأنها شأن الحمى والرشح والزكام والضعف العام والأرق و…، إلا أن الأحلام تختص بالبعد النفسي وليسَ العضويَّ، وإن كان تأثيرُ النفسي على العضوي حاضراً ومرصودا.
لذلك سعى فرويد جهدَه إلى فك شيفرة الحُلم، وتحديدِ مدلولاتِها النفسية وانعكاساتِها السلوكية، واعتبرَ أن وضعَ اليد على هذه الشيفرة؛ سيُحقِّقُ نقلةً هائلة في الطب النفسي، وستُساهم في علاج الكثير من الحالات النفسية كالهستيرية مثلا.
يُنتج المحيط الذي يعيش فيه الإنسان؛ حالة من الصراع المختلط بين “الهو” الذي يسعى إلى إشباع الرغبات والغرائز وتلبية الشهوات، وبين “الأنا” التي تعمل على الحفاظ على نوع من التوازن بين الرغبة والجموح وبين السيطرة والالتزام، وتخوض “الأنا العليا” صراعَ المثالية، وتحارب الشهوة والمحرمات والغرائز وتطمح إلى الكمال.
هذا الصراع حسب فرويد، يوَّلِّدُ نوعاً من الصراع النفسيّ بين ما يُريده الإنسان باعتبارِه كائنا مفطوراً على إشباع غرائزِه ورغباتِه، وبين حدود الالتزام الذي تفرضه الأعراف والتقاليد والدين والمجتمع، باعتبار الإنسان كائنا عاقلا يجب أن يتنزَّه عن الدونية والحيوانية ويرتقي في مراتب السموُّ والكمال.
ويتجلى هذا الصراع حسب فرويد في الأحلام التي ماهي في النهاية؛ إلا انعكاسٌ للصراع الذي تخوضه النفس من خلالِ مكوناتِها الثلاثة.
يُرجِع فرويد الحُلم إلى اللاشعور أو الرغبة المكبوتة عند الإنسان كالأمنيات والمخاوف التي تشغَلُه طويلا أو قبل نومِه مباشرةً.
يلتجئ كثيرٌ من البشر إلى إيجادِ مُصوغاتٍ ورُخصٍ للتوفيق بين هذه المكونات، فتتجلى إما على شكل نِفاق أو كذب أو تدليس أو تَسَتُّرٍ أو غضب أو استسلام أو خنوع أو إدمان أو انعزال، أو تحرر أو خوف أو بكاء أو الشر؛ أو السادية أو…، وغالباً ما ينتهي هذا الصراع بغلبة إحدى المكونينِ إما “الأنا” أو “الهو“، أما “الأنا العليا“؛ فتظل مُبتغىً لا يمكن الوصول إليه بشكل تام وكامل.
ويشير فرويد؛ إلا أن النَّفْسَ تسعى إلى تحييد سلطة العقل، فالعقل لا يقودُ أفعالَنا وتصرّفاتِنا دائما، فالإنسان الغاضب أو الحزين أو الفرِح أو الخائف؛ يتصرف تصرفاً لا عقلانيا في أغلب الأحيان. فعندما يشتدُّ صراع عناصر النفس الثلاثة في الواقع (الأنا / الهو / الأنا العليا– حسب فرويد)، فإنها تُنَفِّسُ عن مكبوتاتِها في اللاوعي، أيْ في (المَنام). على شكل أحلامٍ ورؤىً وخيالات.
وهذا مُلاحَظٌ بشكل جلي وواضحٍ، فعندما يَشغَلُنا أمرٌ ما؛ فإننا نحلم به. فالطالب الذي يخاف من الامتحان ويترقَّب موعِدَه، يظلُّ يحلُمُ بأنه اجتاز الامتحان وأنه نجح أو رسب أو ظُلِم من أستاذِه، وهذا الحُلم؛ انعكاسٌ مباشر للحالة النفسية الغالبة عليه.
فإن كان مُتخوِّفا من أستاذٍ أن يظلِمَه إذا حرَسَه (مثلا) انتقاماً منه لفِعلٍ أو سُلوك اقترفَه في الفصل. فإن الحالة النفسية تشتغل على هذا الموضوع، وتقوم بتفريغِه في الأحلام والمنامات، كحالة دفاعية (محتمَلة).
كما أن الأحلام وحسب فرويد دائما؛ تُنبِئ بالصدمات النفسية التي تَحدثُ في الطفولة. وتتجلى من حين لآخر على شكل أحلامٍ ورؤىً؛ كمحاولة دفاعية نفسية لتفريغ هذه الصدمات النفسية والتخلص منها.
حسب فرويد دائما؛ يُحتمَل أن يكون مفعول الأحلام على النَّفسِ كمفعولِ المناعةِ على الجسم، كلاهُما أداة دفاعية.
- خلاصة
من خلال (نظرية) فرويد في تفسير الأحلام؛ يظهر الفرق بين التفكير العلمي في تأويل وتفسير الأحلام، والخرافة في التأويل السَّلفي الشعبي أو الصوفي أو الديني؛ في اعتبار الأحلام والرؤى موضوعاً للإفتاء.
وحسب فرويد دائما؛ فإن الأحلام؛ هي نتاجُ البيئة والحالة النفسية للحالم. وبالنظر إلى واقع كثيرٍ من الدول العربية اليوم؛ والتي تعيش هزيمة شاملة على كل المستويات، وحروبا طاحنة وأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وتنموية و….، أضف إلى ذلك تدني مستوى التعليم والصحة، وتفشي البطالة والفقر والجهل، وتعاظم الفساد المالي والإداري، وتحوُّل بعض الدول العربية إلى سجون كبيرة لتكميم الأفواه وقتل الحريات وممارسة الإرهاب الجماعي على المجتمع …، فطبيعي أن تكون أحلام ورؤى المواطن العربي مِن جنس الحالة التي يعيشُها وليس شيئا آخر.
أحلام الكوابيس؛ نِتاجٌ للضغوط النفسية والمادية والاجتماعية والاقتصادية و…، تبقى بِبِقاءِ المُسبِّب وتَـخِـفُّ أو تزُولُ بِزوالِه.
لا يُماري مُنصف في أن ما قدَّمَه فرويد في موضوع “تفسير الأحلام” يحمل كل مقومات وملامِح العلم، وإن كان ما يزال في بداياتِه الأولى. لكن المنهج العلمي واضحةٌ ملامِحُه، فيكفي أن فرويد لا يعتبر الأحلامَ غاية، وإنما مجرَّدَ وسيلةٍ يمكن أن نستفيد منها في حل لغز النفس والكشف عن خباياها وأسرارِها ومجاهِلِها.
ولو وُجِدَ من العلماء العرب أو المسلمون من يتصدى لهذا الموضوع برؤية علمِيَّة تجريبية بحتة؛ مستفيداً من الأسس التي أرساها فرويد في علم النفس، ومستثمراً للإشارات والملامِح الدالة على النَّفس في القرآن الكريم، وبما انتهى إليه علم النفس وعلم النفس الاجتماعي؛ بمنهج علميّ رصين؛ ومعتمداً المختبر والتحليلات والتجارب السريرية،
ومُتجرِّداً من كل الآراء والتأويلات والأفكار البالية التي راكمتْها الكتب الصفراء القديمة في هذا الموضوع الخطير جدا؛ ألا وهو موضوع “النفس البشرية”. لأمكننا اليوم أن نرى إسهامات عربية كبيرة جداً في علم تأويل الأحلام وتعبير الرؤى
[i] سورة البقرة، الآية 187.
[ii] سورة يوسف، الآية 36.
[iii] سورة يوسف، الآية 22.
[iv] سورة يوسف، الآية 37.
[v] سورة يوسف، الآية 41.
[vi] سورة يوسف، الآية 43.
[vii] سورة يوسف، الآية 44.
[viii] سورة يوسف الآية 55.
[ix] سورة يوسف، الآية 100.