كُنا ستة على النبعة
للسوري في كل أرض يهاجر إليها بضعة أمكنة سورية مثله ، يجد في مدينة تركية حارة يسميها “العرقوب” كالحي الصناعي في حلب، و يجد حارة شعبية فيقول عنها هذه “الأشرفية” كأشرفية حلب، يعثر بمطعم للشواء في الأردن أو لبنان فيقول هذا مطعم “شيش كباب” الحلبي في بستان “گل آب”، في مصر وجدت مقهى بمدينة “ستة أكتوبر” قلت عنه هذا مقهى “المنتدى” المطل على ساحة “سعد الله الجابري” وسط حلب، و إلى جنوب تركيا قرب الحدود السورية “طفشت” أسرتي و استوطنت في بلدة “الإصلاحية” الصغيرة منذ آب اللهاب في عام ٢٠١٢ من حلب، و طفشت أنا بعائلتي الصغيرة في آخر يوم من كانون الأول عام ٢٠١٢ من “مصياف” إلى مصر أم الدنيا، ثم تركنا الدنيا و بهرجتها و لجأنا إلى تركيا قرب الأهل و الخلان و الدراويش .
تعوّد أبي – رحمه الله – أن يكون بيته في حي “الحمدانية” بحلب جامعاً لشمل العائلة في الأعياد، نلتقي كلنا أخوات و أخوة تحت سقف بيت واحد، و على عدة موائد طعام (لا تسعنا مائدة واحدة)، نفرح و ننزعج و نتسلى و ندردش أو نحرد، لكن تجمعنا الإلفة و المودة برباط مقدس نعلمه بالحدس، ربما رضعناه مع حليب أمي و عطف أبي، لا ريب.
لما دخلت الحرب إلى حارات البلد ، و نفوس الأخوة في الوطن، تفرقنا كل واحد إلى بلد : خمسة أخوة شباب يسكن كل واحد فينا في بلد، حتى في إقامتي المؤقتة في تركيا (لمدة عامين قبل لجوئي إلى النمسا) كنت بعيداً عن بيت الوالدين، هما يقيمان مع أخي صلاح في الجنوب، و أنا مع عائلتي الصغيرة في الشمال بمدينة “بورصة” القريبة من اسطنبول، لكنني كنت أزور الأهل في الإصلاحية بانتظام، و في الأعياد نحاول أن نجتمع كلنا (من يستطع إلى ذلك سبيلاً) من جديد تحت سقف بيت العائلة التركي الجديد، كان يزورهم أخي الكبير “ضياء” إذا سمحت له ظروفه، و يأتي “عماد” أخي الصغير على جناح أي طائرة و لو لبضعة أيام ، يبقى أخي الأكبر مني مباشرة “علاء” حبيس حلب، يعايدنا عبر “السكايب” و “الواتس اب” و يخفي شوقه و حنينه ببسمة زائفة قائلاً :
أنا بخير و كل عام وانتم بخير.
كذلك حال أخواتي البنات الثلاث، تأتي “خولة” من “أنقرة” عاصمة أتاتورك الحديثة، و تحاول أختي “عائدة” الحضور من “جدة” عاصمة السعودية البحرية، و تبقى أختي الكبيرة أمي الثانية “زبيدة” حبيسة حلب إلى جانب أخي علاء.
أحبَّ أبي و أمي و أخي صلاح بلدة الإصلاحية الشبيهة ببلدتنا “دارة عزة” شمال غرب حلب، أوجد فيها أخي صلاح لأبي “حيارة” تشبه حيارته (الحير أو الكرم) في الضيعة، و أوجد له “الكرم الأبيض” المشابه لكرم أبي شرق “قلعة سمعان” بعدّة أمتار، أوجد لأمي “البازار” و سوق “السبت” التوأم لبازار و سوق سبت الدراعزة ، أوجد لهما و له و لنا أرضاً غنّاء تدعى “النبعة” غرب الإصلاحية بقليل، يعزمنا أبي بمساعي أخينا عماد (و بمساعيه عشنا خارج البلاد) إلى حفل شواء في النبعة في كل عيد ، سواء حضر عماد من السعودية أم اعتذر، لكن لا بدّ من حفلة النبعة في كل عيد بالتأكيد .
ذات عيد كنا ستة أشخاص فقط على النبعة، و كان أخي عماد قد اعتذر مسبقاً عن الحضور في ذلك العيد السعيد، لكن أخي عماد المشهور بصنع المفاجآت السارة، فاجأنا عصر ذلك اليوم الجمعة بحضوره البهيح ، كانت الغصّة تملأ قلوبنا في كل حركة و “نَفَس أركيلة” أو سحبة دخان على غيابه، و كنت أغني في قلبي بأسىٰ و حزن مع “صباح فخري” مطرب حلب :
(كنا ستة على النبعة،
أجا المحبوب صرنا سبعة
طلب مني بوسة ما عطيته
قلت له حرام يوم الجمعة.. )
و ما أن رأيت سيارة أخي عماد تهبط إلى النبعة قبل غياب الشمس ، حتى أعلنت الغناء بصوت مرتفع فرح مسرور :
(كنا ستة على النبعة،
أجا عمّودي صرنا سبعة،
طلبت بوسة، و عطيتو،
بدال الوحدة سبعة..)
يوم أمس بعد عدة سنوات على وفاة أبي، عايدت اخوتي عبر الواتس اب ، حزنت لدموع أخي ضياء حبيس ظروفه العسيرة في رومانيا، و فرحت بذات الوقت لحضور أخي علاء فرحة أمي و أخي صلاح بزيارة عماد لهم في بيت العائلة قرب “غازي عنتاب”، كانت فرحتي كبيرة إذ رأيت روح أبي تهيم معهم على البلكون، و تقول كل عام وانتم بخير يا أبنائي.
كانت روحي و روح اخوتي المحاصرين في إقاماتهم البعيدة عن تركيا أيضاً تهيم مع روح أبي و تقول :
كل عام وانتم بخير.
جهاد الدين رمضان
فيينا في ١٢ آب / أغسطس ٢٠١٩
*النص خاطرة من مذكراتي.