ما علم المنطق؟
من أهم الكتب التي يمكن قراءتها، والتي تتناول فلسفة المنطق؛ كتابٌ بعنوان “ما هو علم المنطق ؟ للدكتور يحيى هويدي الصادر في طبعته الأولى سنة 1966 عن مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة .
الموضوع الذي يتناوله الكاتب؛ هو عبارة عن دراسة نقدية للفلسفة الوضعية المنطقية الجديدة التي يمثلها شليك وكارناب ونويرات والفلسفة المنطقية الذرية التي يمثلها ب. رسل و فتغنشتاين.
فمنذ الصفحات الأولى من الكتاب، يطرح المؤلف عدة أسئلة أهمها هل علم المنطق علم أم فن ؟ نظري ام تطبيقي؟. وصفي ام معياري؟ أما الأسئلة المحورية في جل الصفحات فهي تدور حول هل المنطق يبحث عن الحقيقة أم يبحث في الحقيقة ؟(هل هو بحث في الابستمولوجيا )؟
ففي بحثه يخلص الكاتب على ان المنطق يبحث في بناء المعرفة أي يبحث في الحقيقة ويقسم الباحث البحث في الحقيقة إلى قسمين رئيسيين :
– بحث عن الحقيقة يهدف إلى معرفة مطابقتها أم عدم مطابقتها للواقع .
– بحث في الحقيقة يهدف إلى معرفة مدى موافقة الفكر مع نفسه دون الاهتام أساسا بالبحث حول تطابقه مع الواقع . وهذا البحث الأخير وحده هو الذي تناوله كل من علم المنطق والرياضيات ( ص17).
وهكذا يكون علم المنطق علم يبحث في بناء ا المعرفة وفي بناء الحقيقة أو في الفكر من حيث توافقه مع نفسه وانسجامه الذاتي واتساقه الداخلي .
- عند القدماء
1- في العصور الوسطى
في العصور الوسطى لم يكن هناك تمييز بين الحقيقة والواقع ، فالحقيقة عند المدرسيين هي الواقع والواقع هو الحقيقة . أو ما يطلق عليه حقيقة الاشياء (ص18).
وبهذا المعنى يقول بوسويه BOSSUET في كتابه ” المنطق ” :الحق أو الصواب ما له وجود في الواقع ، والخطأ هو ما ليس له هذا الوجود في الواقع (ص18).
- 2-في العصر الحديث.
ففي هذا الاتجاه، بقي ديكارت محافظا على هذه المطابقة مطابقة الحقيقة مع الواقع ، ففي فكرة حول الصدق الإلهي ” يقول :إن الله واحد ، لا يمكن قد خلق عالمين مختلفين : عالم الأفكار و عالم الأشياء ، بل لا بد أن يكون ثمة تطابق بينهما ” (ص 19) .
إلا أن المؤلف يقول في موقع آخر إن نظرية ديكارت حول الحقيقة فهي مرة تقول بالتطابق ومرة تقول ان لها وجود مستقل (20) مما جعل اسبينوزا يقول إن فلسفة ديكارت هي فلسفة غير واضحة لأنه كان عليه أن يختار احد الطرفين.
فكان اختيار اسبينوزا الطرف الثاني بدل الأول ، واعتبر الحقيقة مستقلة عن الأشياء أو تحمل معيار صحتها في ذاتها الداخلي وفي انسجامها الداخلي ( 20) وتتميز نظرية اسبينوزا في الحقيقة بثلاث خصائص رئيسية:
الحقيقة عنده باطنة في الفكرة الصحيحة ، فالعقل عنده قادر الوصول إلى الحقيقة عن طريق تأمله في ذّاته وفي أفكاره في العلاقات التي تربط بين هذه الأفكار فيما بينها وتتولد عنه أفكار أخرى جديدة ( تأثر اسبينوزا بالرياضيات ) ان الحقيقة تحمل معها دليل صدقها .
يعتبر اسبينوزا أن الفكر (الحقيقة ) مطابق مع نفسه لكن لا يخاصم الواقع ؟
لقد كان اسبينوزا يومن أن هناك هوة بين ما يجري في الواقع وبين ما يتم بناؤه بناء مستقلا في عالم الفكر أو عالم الحقيقة . كان يومن بان ما يتم بناؤه في العقل بالرغم من انه مستقل عن الواقع فهو يجري على سنن ما يحدث في الطبيعة (23 ) . لأن الطبيعة عنده هي الجوهر وهي الله.
- نظرية الحقيقة عند هيغل
نظرية الحقيقة عند هيغل هي نظرية مضادة لنظرية اسبينوزا في الحقيقة. فإذا كانت فلسفة اسبينوزا تنقسم إلى نظرية في الحقيقة المنطقية – الرياضية والى فلسفة الطبيعة ، فان فلسفة هيغل تنقسم إلى فلسفة في المنطق وفلسفة الظاهرات.
المنطق عند هيغل يعني علم الغائب اوالعلم الالهي وهو عبارة عن تفكير المطلق في ذاته (26).
فاهم تعارض بين المذهبين مذهب اسبينوزا ومذهب هيغل في تصورهما للحقيقة؛
هو أن فلسفة اسبينوزا فلسفة الفصل والاستقلال بين الحقيقة ( الفكر ) و فلسفة الطبيعة ( الواقع ) ، في حين أن فلسفة هيغل هي فلسفة المزج التام بين علم المنطق وعلم الظاهرات.
- 3-المناطقة الذريون – المناطقة الوضعيون
انطلاقا من فكرة الحقيقة عند اسبينوزا باعتبارها ليست مطابقة مع الواقع بل في تطابق الفكر مع نفسه، رتب المناطقة الذريون والمناطقة الوضعيون على هذه الانطلاقة ؟؟ تقول بان لا علاقة للدراسات المنطقية بالواقع وبأنها تخاصم الواقع رغم اسبينوزا لم ينته إلى هذه النتيجة.(28)،
إن ما يميز هؤلاء هو أن مذهبهم العام ليس تخاصم الواقع ، بل إن مذهبهم هو إمكانية التحقيق في الواقع . فالقضايا التي اعتاد الفلاسفة أن يثيرونها ليست قضايا خاطئة بل فارغة من المغزى لان ليس لها ما يقابلها في الواقع الحسي، واستنادا إلى هذا المبدأ فرقوا بين اللفظة الفارغة من المعنى واللفظة ذات المعنى.
- مفهوم الواقع عند المناطقة الوضعيين
يقول يحيى هويدي انه كلما صادفت في كتبهم وفي فلسفتهم مفهوم الواقع أو الخبرة الحسية فان هذا الواقع ليس هو ما يقصده كل الناس حين يتحدثون عن الواقع، فالواقع عند المناطقة الوضعيين ليس ذلك الكتاب أو القلم أو الحجر، وليس هؤلاء الأشخاص الذين أراهم أمامي أو بجانبي (32).
إذن فما هو الواقع عند هؤلاء ؟
يقصد المناطقة الوضعيون الواقع اللفظي للجملة ويتحدثون عن العلاقات بين الكلمات المجردة من معانيه . فالجملة عند وتجنشتين مثلا تشير إلى معنى أنها مجموعة من الألفاظ أو الأسماء فقط (62) . فهو كذلك عندما يتحدث عن القضية فهو لم يقل إنها مرتبطة بالواقع الملموس ، بل يعتبرها صورة (لوحة ) للواقع.
ففرق بين القضية عند المدرسيين وعند كانط وعند المناطقة الذريين وعند رواد حلقة فيينا (67) فالقضية أو الجملة عنهم لا صلة لها بالواقع الملموس .
أما بالنسبة لمبدأ التحقيق (التحقق) عند المناطقة الوضعيين فهو إمكانية التحقيق على الواقع ، لكن ليس الواقع المحسوس، المعتاد الذي يعتبر الأشياء جواهر كما هو الشأن عند أرسطو وفلاسفة العصر الوسيط .
من بين المبادئ الأخرى التي أسس عليها المناطقة الوضعيون مشروعهم الفلسفي ، مبدأ استقلالية القضايا المنطقية على الواقع، ومبدأ الصورة )الشكل ) واستبعاد الميتافيزيقا من كل فروع المعرفة.
السؤال : هل صمد مشروعهم أمام الابستمولوجيات الأخرى التي عاصروها كفلسفة كارل بوبر مثلا؟
- خلاصة
1- فالكاتب حاول رسم الخطوط العريضة للفلسفة الذرية الوضعية المنطقية محاولا الكشف عن الأسس الرئيسية التي تقوم عليها . فبدأ البحث بعد بعض المقدمات بتحديد النشأة التاريخية لعلم المنطق باعتباره بحثا في بناء الحقيقة لا بحثا عنها، المتسقة مع نفسها المستقلة عن مراعاة المطابقة عن الواقع (علما أن اسبينوزا لم يرد ظهره للواقع).
2-حاول الكاتب الكشف عن أسس الفلسفة الذرية الوضعية المنطقية فحصرها في ثلاث أسس :
– أولها مبدأ التحقق، وهم لا يقصدون به التحقق في الواقع، بل إمكانية التحقق فقط .
-ثانيهما مبدأ الوجود المنطقي في فهمهم الخاص له.
-ثالثها مبدأ الصورنة ( من الصورة أو الشكل ).بالإضافة إلى مبدأ استبعاد الميتافيزيفا من جميع فروع العلم .
لكن هل صمدت هذه المبادئ التي أعلنوا عنها في بيانهم أمام الابستمولوجيات التي عصروها مثل ابستمولوجية كارل بوبر وطوماس كون مثلا ؟ الم تظهر صعوبات داخلية في تفكيرهم وفي منهجهم التجريبي؟