“المهدي المنجرة” عالم المستقبليات الذي تحققت كل تنبؤاته

شكل سقوط الاتحاد السوفياتي بالنسبة للاستكبار العالمي، الذي تقوده الولايات المتحدة، فرصة سانحة لبسط السيطرة على مدخرات العالم الثالث، وتجويع شعوبها، والتدخل في شؤونها، فانبرى مفكرون كبار لفضح هذه الخطط الجهنمية الإمبريالية، مقدمين بدائل حقيقية.
من بين هؤلاء المفكرين الذين قالو “لا” بصوت مرتفع، واستشرفوا المستقبل في ظل هذا الوضع الدولي الجديد، موضحين انعكاساته الخطيرة على المنطقة والعالم الثالث بدقة استشرافية بالغة لا يتجاوز هامش خطئها 5%، نجد المفكر المغربي المهدي المنجرة، الذي صال وجال فكريا في كبريات الجامعات الغربية.
في حين منع من إلقاء محاضراته في الجامعات المغربية، لأن صراحته لم تكن محل ثقة المسؤولين في الرباط كما كانت بعيد الاستقلال.
- الواقع العربي في ظل النظام العالمي الجديد
لا يفرق المهدي بين الأمركة والعولمة في توصيفه لحالة العالم منذ فجر تسعينيات القرن الماضي -أي بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الاشتراكي- حتى الآن، ويرى فيه استعمارا جديدا كشف الوجه البشع للنظام العالمي الجديد الذي تقف خلفه واشنطن، بهدف المزيد من تشتيت وتخلف العالم الثالث لصالح الحضارة اليهودية والمسيحية.
هذه الحضارة، بحسب مؤلف كتاب “الحرب الحضارية الأولى“، هدفها من وراء العولمة، وعبر المنظمات الأممية والشركات متعددة الجنسيات، فرض قيمها وأخلاقياتها وأسلوب حياتها على الحضارات الأخرى، غير اليهودية وغير المسيحية، كالعربية الإسلامية مثلا.
وفي هذا الإطار، “لم تعد لدينا أية شرعية حقيقية دوليا، فالولايات المتحدة تقول إنها تعتبر قرارها ودفاعها عن شعبها هو الشرعية”، وتمنح لنفسها حق التدخل في أي مكان تريد، دون أي احترام لميثاق الأمم المتحدة.
ويرى الأستاذ المهدي المنجرة أيضا أن الأمة تعيش فترة تطرح عليها تساؤلات عميقة، تمثل امتحانا لهذا العالم الجديد الذى نريده، دون أن يخفي رؤيته التشاؤمية، لأن الوضع وصل مستوياته الدنيا من الانحطاط في المنطقة، وهو ما أطلق عليه مفهومي “الذلقراطية” و”الخوفقراطية” وغيرهما.
لا يمكن مجابهة هذه التحديات الحديثة التي فرضت على الأمة العربية بحلول ماضوية، ولا توصيفات قديمة، لذلك نحت المنجرة مفاهيم حديثة طافحة بدلالات عميقة ارتبطت باسمه، وفرضت نفسها في حقل التحليلات الإستراتيجية.
من بين هذه المفاهيم مفهوم «الميغا – إمبريالية»، وفكرة «الاستعمار الجديد»، كما وصف “الحرب الحضارية” قبل حديث صامويل هنغتينغتون عن صراع الحضارات. يقول المنجرة في كتابه “الإهانة في عهد الميغا إمبريالية“: “أصبح للميغا إمبريالية أسلوب جديد ولغة من تركيب جديد، والميغا حسب مدلولها تقتضي الانفراد بالقرار.
فهي لا تقبل إمبريالية أخرى منافسة على عكس ما كان في السابق، حين كانت الإمبريالية الفرنسية مثلا تقبل بوجود إمبرياليات أخرى ألمانية وبريطانية وإسبانية أو غيرها”، التي ساهمت بفعل جرائمها التاريخية خلال الاستعمار في سخط الجماهير العربية وخروجها للشوارع.
- الربيع العربي وسيناريوهات التجاوب معه
في كتابه المثير “انتفاضات في زمن الذلقراطية“، أكد المنجرة على أن الجهل والتفقير والتخلف وغياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ستؤدي حتما إلى انتفاضات الشعوب العربية على وضع لم يعد مقبولا، ولا يمكن أن يبقى للأبد، محذرا من أن تأخر الاستجابة لمطالب الشباب العربي سيجعل التكلفة مرتفعة مستقبلا.
وهو ما تحقق في العراق ونعيشه اليوم واقعا في سوريا واليمن نتيجة عدم إعطاء كلام المهدي ما يستحق من الأهمية، رغم أن الأمر يتعلق بأهم رجل في الدراسات المستقبلية على المستوى العالمي.
لقد لمح المفكر المهدي المنجرة إلى اقتراب ما عرف ب”الربيع العربي” في أكثر من مناسبة، إلا أن كتاب “عولمة العولمة” -الذي تناول مواضيع عدة هي في الأصل مقالات وندوات وحوارات– تناول فيه مستقبل الحالة العربية بعد 2011، تحديدا في المحور المعنون تحت “المجتمعات العربية: اختلالات الراهن وسيناريوهات المستقبل”، واضعا للزلزال الذي هز المنطقة 3 سيناريوهات لا رابع لها:
-
السيناريو الأول: الاستقرار والاستمرار
ينتصر هذا السيناريو لاستمرارية الوضع على ما هو عليه، ويحتاج إلى دعم من البنك الدولي، والجيوش الأجنبية التي تستوطن البلاد العربية، غير أن الاستقرار البيولوجي على حد تعبير المنجرة، يعني الموت وتعطيل الإبداع والخلق والابتكار، وهذا السيناريو الذي يسميه ”ستاتوسكو” غير ممكن في حياة الشعوب.
-
السيناريو الثاني: الإصلاح
سيناريو الإصلاح، الذي كان قد تعطل نظرا لاستمرار السيناريو الأول، يمكن له أن ينجح بنسبة 30%؛ إلا أن ذلك يظل رهينا بسرعة التدخل لإقامة الإصلاحات اللازمة، والوعي بالإكراهات التي تستوجب منا معالجة فورية وجذرية لمسائل مثل: الديمقراطية وشروطها الضرورية، والعمل على وضع دعائم المجتمع المدني إلى جانب تدابير من هذا القبيل.
غير أن هذا السيناريو، حسب الأستاذ المنجرة، كلما تأخر العمل به صار من المتعذر الإقدام على إصلاحات فاعلة وناجحة، لافتا إلى مسألة مهمة يغفل عنها كثر قائلا: “أنا لا أقصد هنا الثورة، ولا أبغي إشعال نار الفتنة، وإنما أدعو إلى اجتماع الكل سريعا على مائدة المفاوضات، وأن يتم التسامح في العديد من الأمور…
وإن كنت شخصيا، أرى أن المشكلة التي تواجه هذا السيناريو تكمن في عدم وجود قوة سياسية في أي بلد عربي قادرة على تقديم برنامج تغيير عن طريق الإصلاح”.
-
السيناريو الثالث: التغيير الجذري
يعني الثورة أو المواجهة أو التحولات الكبرى والعميقة، معترفا أنه لا يدري كيف سيتم هذا التغيير وما هي درجة سرعته، ربما تتخذ منحى شبيها لذلك الذي اتخذته ثورة الشعب المغربي ضد الاستعمار الفرنسي عام 1953 – ثورة الملك والشعب.
مثلت هذه الثورة لحظتها تغيرا جذريا، سواء على مستوى وعي الشعب المغربي أو على مستوى وضعية الاستعمار الفرنسي، الذي لم يتوقع قيامها بتلك السرعة التي تمت بها، ولعل مفكرنا كان يستشرف الوقت الوجيز الذي سقط فيه نظام الرئيس التونسي وتداعيات ذلك على القاهرة واليمن وليبيا وباقي الدول العربية التي تحاول تجاوز تداعيات “الربيع الديمقراطي”.
- شروط النهضة: رؤى استشرافية لما بعد الربيع العربي
يقول البروفيسور المنجرة: “عندما يسمح الفرد في كل شيء، ويستسهل معنى الحياة، ويسترخصها ويجعلها مساوية لعود ثقاب أو قنينة بنزين أو هما معا، لتتم عملية الموت من أجل الحياة الشريفة، وإيصال رسالة واحدة فقط مفادها أنني غير راض عن هذه الحياة،
إنه الملل من المعاناة، إنه الاكتفاء الذاتي من الذل، إنها الراحة النفسية والاختيار الصعب الذي يرسل رسالة للزعماء العرب والحكومات وكل مسؤول، تقول: هناك شيء ما غير سوي… سؤال يطرح نفسه بقوة، هل تعرفون يا سادتي فقدان الأمل؟ هل تستشعرون حياة الذل والهوان؟ هل تحسون بالمستضعفين؟”.
للإجابة على هذه الأسئلة الحارقة التي طرحها مفكرنا، لا بد من التفكير في نهضة تعيد للشباب العربي كرامته وإنسانيته، وتزرع في نفسه الأمل بآدمية ذاته وقيمة وطنه، وذلك لن يتأتى إلا بشروط ضرورية، ورؤية متكاملة لا تتوفر عند أغلب الدول العربية.
يمكن القول إن هذه الشروط الداخلية، إضافة إلى مقاومة الغرب الغازي خارجيا، من أهم الأوراق التي شكلت هوية المشروع الفكري للمهدي المنجرة، فالنهضة تتوقف في تقديره على بناء نموذج تحديثي تنموي أصيل نابع من الذات، والخصوصية الثقافية،
غير مستورد من بيئات تاريخية وعقلية مختلفة كالفرونكوفونية بالنسبة لدول المغرب العربي، أو الأنجلوساكسونية بالنسبة للمشرق، حتى التجربة اليابانية التي كان شديد الإعجاب بها قال إنه لا يمكن استنساخها في العالم الثالث.
يجب أن ينطلق هذا المسعى التنموي أولا -إن كانت نية الفاعل السياسي حسنة- من محاربة الأمية، وتعميم التعليم باللغة الوطنية لبناء إنسان عربي مثقف من المهد إلى اللحد، قادر على مواكبة المعرفة والمستجدات التكنولوجية.
وذلك بتخصيص نسبة مهمة من الناتج الوطني الإجمالي للبحث العلمي، الذي لا يمكن أن ينتعش إلا بتوفير جو من الحرية لأصحاب المواهب العلمية والتقنية لأجل الإبداع والعطاء.
ويسوق المفكر المغربي (1933-2014) مثالا على ذلك بدولة اليابان، القوة الاقتصادية الثانية في العالم التي استطاعت القضاء على الأمية في ظرف 25 سنة؛ أي بعد ثورة الميجي في عام 1868، لتنطلق النهضة في هذا البلد الآسيوي من الاهتمام باللغة الوطنية والاستثمار في المعرفة البحث العلمي، والحفاظ على القيم الوطنية.
رغم المنع والإقصاء والتنكر أحيانا، في بلده المغرب الذي تعلق به تعلق الابن البار، والمناضل النزيه، الصادق، الجريء، سيظل الدكتور المهدي المنجرة أحد المراجع العربية والدولية في مختلف قضايا العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية التي لا يمكن تجاوزها إطلاقا، باعتباره مثقفا عضويا ذا مكانة وهيبة علمية وفكرية.