الدادائية .. مذهبٌ أدبي فريد
كانت بدايات القرن العشرين فترةَ تغيُّر عنيف؛ إذ غيَّرتِ الحربُ العالمية الأولى والثورة الروسية فهْمَ الناس لعوالمهم على نحوٍ جذري، وحوَّلتِ اكتشافاتُ فرويد وأينشتاين والابتكارات التكنولوجية لعصر الآلة الوعيَ البشري بشكل عميق.
ومن وجهة نظر ثقافية، سجَّلت روايات جيمس جويس وأشعار تي إس إليوت — وأقصد تحديدًا رواية «عوليس» للأول، وقصيدة «الأرض الخراب» للثاني، اللتين نُشِرتا عام ١٩٢٢ — أنماطًا «حداثية» جديدة بشكل مميز للشعور والإدراك، تتَّسِم بإحساس واضح بالانقطاع؛ ولذا يرى المُنَظِّر مارشال بيرمان أن الإحساس المتزامن بالبهجة والكارثة الوشيكة، الذي يعكس الظروفَ المضطربة للحياة آنذاك، هو المحدِّد للوعي الحداثي.
تعكس الحركات الفنية في أوائل القرن العشرين بقوةٍ هذه العقليةَ الجديدة. وإذ كانَتْ حركاتٌ مثل التكعيبية والمستقبلية — اللتين بلغتَا ذروتهما خلال الفترة ما بين عامَيْ ١٩١٠ و١٩١٣ — مبتكرةً بجرأة نادرة من الناحية الفنية، فقد انتقلت إلى ما وراء المَظهَر الساكن للرسم التقليدي، وصولًا إلى استكشاف بنية الوعي نفسها.
ولكنْ، يُشاع أننا يجب أن ننظر إلى الدادائية والسريالية بحثًا عن الاستكشافات الأكثر أثرًا للنفس الحداثية، لا سيما أن الحركتين شدَّدتَا بقوةٍ على الاستقصاء العقلي. لقد رأتِ الدادائيةُ نفسَها تحديدًا معنِيَّةً بإعادة تمثيل الاضطراب النفسي الناجم عن الحرب العالمية الأولى، بينما يمكن النظر إلى اللاعقلانية التي تَحتَفِي بها السرياليةُ كقبولٍ تامٍّ للقُوَى الفاعلة وراء كواليس الحضارة.
يوجز هذا الفصلُ السجِلَّات التاريخية المتضارِبة لكلتا الحركتين، ولكنْ لنطرح السؤال التالي أولًا: ما التوجُّه الذي يربط بينهما وبين الحركات الفنية الأخرى التي ظهرت في أوائل القرن العشرين؟
- الطليعية
كانت الدادائية والسريالية حركتين فنيتين «طليعيتين» بالأساس، وكان لاصطلاح «الطليعية» — الذي وَظَّفَه أولَ مرة الاشتراكيُّ الفرنسي اليوتوبي هنري دي سان سيمون في عشرينيات القرن التاسع عشر — دلالاتٌ عسكرية، لكنه ما لبث أن دلَّل على الوضع الاجتماعي-السياسي وكذلك الجمالي الذي ينبغي أن يصبو إليه الفنان الحداثي.
بصفة عامة، كان الفن في القرن التاسع عشر مرادِفًا للفردية البرجوازية، وإذ كانت الطبقةُ البرجوازية تملكه، أو كان يُعرَض في مؤسسات برجوازية؛ كان الفن وسيلةً يستطيع بها المنتمون إلى تلك الطبقة الفرارَ مؤقتًا من القيود والتناقضات المادية للحياة اليومية.
لكنْ في خمسينيات القرن التاسع عشر تحدَّتْ واقعيةُ الرسَّام الفرنسي جوستاف كوربيه هذا الوضع؛ ويُقال إن جوستاف كوربيه بمزجه بين الأجندة الاشتراكية والعقيدة الجمالية المضاهية لها يمثِّل أولَ اتجاهٍ طليعي واعٍ لذاته في الفن. بحلول بداية القرن العشرين، الْتَزَم العديد من الحركات الفنية الرئيسية — كالمستقبلية في إيطاليا، والبنائية في روسيا، أو الفن التشكيلي الجديد (دي ستايل) في هولندا، علاوة على الدادائية والسريالية — بالطعن في أي فصل بين الفن والتجربة العارضة للعالم الحداثي.
وكانت الأسبابُ التي دَعَتْها إلى ذلك سياسيةً من عدة أوجه؛ على سبيل المثال: كان البنائيون يستجيبون مباشَرةً للثورة البلشفية في روسيا، لكنهم نزعوا إلى التشارك في الاعتقاد بأن الفن الحديث بحاجة إلى إقامة علاقة جديدة بجمهوره؛ بحيث يُنتِج أشكالًا جديدة راسخة لموازاة التحوُّلات في التجربة الاجتماعية.
بالنسبة إلى المُنَظِّر الثقافي بيتر بيرجر، فقد كتب في سبعينيات القرن العشرين أن مهمة الطليعية الأوروبية في أوائل القرن العشرين كانت تتمحور في مجملها حول تقويض فكرة «استقلالية» الفن (الفن لأجل الفن)، لصالح إدراج جديد للفن فيما يُطلق عليه اسم «التطبيق العملي للحياة».
وبهذا تشترك الدادائية والسريالية في المعتَنَق الطليعي المحدَّد القائل بأن الراديكالية الاجتماعية والسياسية ينبغي أن ترتبط بالابتكار الفني. كانت مهمة الفنان أن يتجاوز المتعة الجمالية ويؤثِّر على حياة الناس، وأن يحملهم على رؤية وتجربة الأشياء بشكل مختلف؛ إن غاية السريالية مثلًا لم تكن تقلُّ عن دعوة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو ﻟ «تغيير الحياة».
وكما ذكرنا آنفًا، مَثَّلَ الفن الحديث في أوائل القرن العشرين — التشظِّي التصويري لتكعيبية بيكاسو وبراك على سبيل المثال — خروجًا مذهلًا على التقاليد الفنية التقليدية. والطريقة الفنية-التاريخية القياسية لفهم هذا الخروج تنحصر في رؤيته على اعتبار أنه يمثِّل إرثَ فنَّانِي المدرسة «الفرنسية» في أواخر القرن التاسع عشر، أمثال جوجان وسورا وفان جوخ وسيزان، كما يمثِّل تحولًا عامًّا في الوعي تأثَّرَ بالرمزية الأوروبية في ثمانينيات القرن التاسع عشر وتسعينياته.
في رسوم سيزان وجوجان مثلًا نجد أن الفضاء منبسط والألوان مشوَّهة، في خروج جذري عن المذهب الطبيعي؛ ولقد مهَّدَتْ تلك الظروف الطريقَ أمام التخلِّي عن التقاليد التصويرية المنتمية لعصر النهضة، كالمنظور الخطي المتجلِّي في لوحة بيكاسو «آنسات أفينيون» التكعيبية النموذجية عام ١٩٠٧، التي تمثِّل منعطفًا في تاريخ الفن.
في الوقت نفسه، جرَّبت التعبيرية الألمانية والوحشية الفرنسية الاستخداماتِ المُعبِّرة وغير الطبيعية للألوان بدرجة أكبر.
لا شك أن الدادائية والسريالية كانتَا مدينتين بلغتهما التصويرية للحركات التكعيبية والتعبيرية، وكذلك المستقبلية؛ فالكولاج التكعيبي، على سبيل المثال، أفضى مباشَرةً إلى ابتكار أتباعِ الدادائية «تجميعَ الصور». لكن أتباع الدادائية والسريالية كانوا سيَضِيقون كثيرًا بالفكرة الضمنية في الكثير من الأعمال التكعيبية، القائلة بأن الابتكار الرسمي وحده يوفِّر أساسًا منطقيًّا للفن.
فبقدر ما كان الفن التكعيبي يهدف إلى أن يصدم المُشاهِد أو يُربِكه فيُعِيد النظرَ في علاقاته بالواقع، كان فنًّا «مستقلًّا» في نهاية المطاف؛ أيْ فنًّا لأجل الفن. بالنسبة إلى الدادائية والسريالية، كان الفن يتعلَّق بما هو أكبر من ذلك بكثير.
وشأنهما شأن غيرهما من الحركات الفنية بالقرن العشرين، كالمستقبلية التي عكست العالَمَ المتسارِع الوتيرة المتعدِّد الحواس الذي كان الناس يعيشونه في العقد الأول من القرن العشرين؛ كانت الدادائية والسريالية ملتزمتين باستكشاف التجربة نفسها.
كان الالتزام بالتجربةِ المعيشةِ يعني أن الدادائية والسريالية تحملان رأيًا متضاربًا بخصوص فكرة الفن باعتباره شيئًا مقدسًا أو منفصلًا عن الحياة؛ وهذه نقطة محورية، وهي السبب في أنه من غير الملائم التعامُل مع الدادائية والسريالية باعتبارهما «منهجَيْن» أسلوبيَّيْن مميَّزَيْن في تاريخ الفن.
في الواقع، كان هناك تشابُه أسلوبي محدود نسبيًّا بين الفنانين المنتسبين لهاتين الحركتين، وكان الأدب مهمًّا بالنسبة إليهم أهميةَ الفن البصري. من الأدق أن نَصِف هاتين الحركتين بأنهما توجُّهان مُشَكِّلَان للحياة مدفوعان بالأفكار، بدلًا من كونهما مدرستين للرسم أو النحت؛ فأي شكلٍ — بدايةً من النصوص، ومرورًا بالأعمال الفنية «الجاهزة» وحتى الصور الفوتوغرافية — يجوز استخدامه لتجسيد الأفكار الدادائية والسريالية.
في الدادائية، يُترجَم الشكُّ الأساسي في ضيق أفق الفن كثيرًا إلى عداء صريح تجاه قِيَمه ومؤسساته؛ ولذا ينبغي علينا عند هذه النقطة أن نطرح التعميمات جانبًا، ونفحص الخطوطَ العريضة التاريخية الكلية للدادائية، ومن ذلك الفحص سينشأ بعد ذلك النقاش الخاص بالسريالية.