فكر وفلسفة

“محمد عابد الجابري” عقل استثنائي وفيلسوف مثيرٌ للجدل

بعد عشر سنوات من رحيل الجابري من يواصل مشروع نقد العقل العربي.

يمثل المفكر المغربي محمد عابد الجابري واحدا من أقطاب الفكر العربي الحديث، حيث أسس لمشروعه المبني على تفكيك ونقد “العقل العربي”، وهو المسار الفكري الذي ما زال متواصلا إلى اليوم حتى بعد عقد من رحيل الجابري، تاركا واحدا من أهم المشاريع الفكرية في العالم العربي، والتي لا بد من مواصلتها.

تمر الآن عشر سنوات على وفاة المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي بلغ صيته الشرق والغرب، وما زال مشروعه الفكري ينهل منه القاصي والداني، بعد أن خلق حالة نقاش ممتدة في الزمن منذ تدشين مشروعه الفكري الموسوم بـ“تكوين العقل العربي” في العام 1982، وليتبعه بـ“بنية العقل العربي” سنة 1986، وبعده بأربع سنوات “العقل السياسي العربي”، ويختمه بـ“العقل الأخلاقي العربي” عام 2001.

رحل الدكتور محمد عابد الجابري في الثالث من مايو 2010، تاركا وراءه ترسانة من المنجزات الفكرية والنقدية تقدر بنحو ستة وعشرين مؤلفا أغنت الخزانة الفلسفية العربية والإسلامية في حاضرها ومستقبلها، كما عُرف الجابري في فترة حياته بآراء وأطروحات أثارت الكثير من السجال الفكري والسياسي، كونه مارس التدريس والتنظير والعمل السياسي ما جعل آراءه ذات حمولات متعددة.

الهم الذي شغل المفكر عباد الجابري تمثل بالأساس في دعوته إلى التفكير جديا ومنهجيا في إعادة النظر في عدد من القضايا التي تهم العصر من نهضة وتجديد وأصالة ومعاصرة، والعلاقة بين الدين والدولة وتأصيل فلسفة الماضي وتشييد فلسفة عربية معاصرة وغير ذلك، متوسلا بالنقد الابستمولوجي كمنهج يفكك من خلاله كل المشابك الأيديولوجية سواء كانت محلية آتية من التراث أو مستوردة من الغرب، وهي الثنائية التي حاصرت العقل العربي.

إن المشروع الفكري الذي دشنه الجابري فتح من خلاله الباب أمام الباحثين للنهل من نبعه لأجل تعميم الوعي بأهمية الاطلاع على الميكانيزمات المحركة للتاريخ العربي الإسلامي والنظر إلى الواقع الراهن من منظور مختلف.

بنية العقل العربي

يقصد الجابري بـ”العقل العربي” جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية الإسلامية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، وتفرضها عليهم كنظام معرفي، أي كجملة من المفاهيم والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللا شعورية. وفي كشفه لتكوين العقل العربي راهن الجابري على تحليل الأسس التي تستند عليها عملية تحصيل المعرفة في الثقافة الإسلامية بشكل شمولي، خصوصا وأنه يطابقها مع بنية العقل العربي.

ولا يستخدم الجابري العقل بمقصود العقلية كما استعملها المستشرقون، وإنما كغريزة أنتج مقولاته وأدوات فهمه وتأويله للأحداث والظواهر والمتغيرات داخل بيئة وحضارة خاصة، وعليه فالعقل العربي ليس شيئا منفردا ومتميزا أو العكس، وقد حدده في إطار الثقافة العربية التي ساهمت في تكوينه، وعلى هذا الأساس مارس محمد عابد الجابري عملية النقد متسلحا بترسانة من الأدوات والمناهج الحديثة وكذا باعتماده على بيداغوجية اختمرت عنده من الممارسة الطويلة في تدريس الفلسفة.

وتأسست بنية العقل العربي على منظومة البرهان والبيان والعرفان التي تداخلت في ما بينها في الفترة الأولى من القرن الخامس الهجري في الزمن والتاريخ العربي الإسلامي، من داخل الإنتاج الفقهي الكلامي والفكري واللغوي لدى الفِرق التي تبنت هذه الأقانيم الثلاثة، وحصل أن تحزب فريق ضد الآخر حسب الحاجة السياسية والاجتماعية التي طرأت في تواريخ ما بعد التدوين.

الكتابة عند الجابري مسؤولية تاريخية وأخلاقية ولا بد من إيصال الفكرة إلى كل المتلقين لا المثقفين والباحثين فحسب

وعليه فبنية العقل العربي تختص بالعقل المجرد، دون تحديد أي جانب مادي كما قعد له الجابري، فالمعرفة من أجل المعرفة هي الهدف من العقل، من خلال توظيف العقول البيانية والبرهانية والعرفانية كمفاهيم لإنتاج تلك المعرفة، عكس العقل السياسي الذي يتحرك في بيئة وعوامل تحددها الحاجة السياسية واستغلال المعرفة لأجل امتلاك السلطة وممارستها.

أما العقل الأخلاقي العربي فقد ساهمت في تكوينه موروثات أخلاقية متنوعة ثقافيا وحضاريا وجغرافيا، استقاها من الثقافة اليونانية، والفارسية، والصوفية، والعربية، والإسلامية، واعتبر أن المودودي تحدث وفصل بشكل دقيق عنصر المروءة باعتبارها الموروث الأخلاقي الأساسي الذي أثر بشكل جلي في المنظومة الأخلاقية لعرب ما قبل الإسلام، واستمر كعنصر ومحدد مركزي للعقل العربي.

لقد ذهب الجابري بعيدا من خلال مشروعه الفكري، في تقديم خطاب نقدي واقعي وعينه على توسيع مروحة البحث في الذات والعقل السياسي العربي كرهان للنهضة والابتعاد عن التفكير في المستقبل من خلال الممكنات والتشبث بها بعيدا عن الوقائع، وهذا ما عبر عنه في كتابه الخطاب العربي المعاصر.

اشتغل المفكر العربي بعمق على تفكيك النص وخلخلة الثابت في العقلية العربية الموجودة، وهي التي لم تستطع التخلي عن عنصر الحلم في نمط تفكيرها، ولهذا فهو يحسم القضية بالتأكيد على أن قياس الحاضر على الماضي بخصوص العديد من المسائل الأساسية، لا بد أن يراعي الفوارق، والعقل السياسي لن يتغير بشكل سريع وحاسم أو بعمل هذا الكاتب أو ذاك، فالأمر يحتاج إلى عملية تاريخية مستمرة ومتراكمة.

الفهم التراثي للتراث

ركز محمد عابد الجابري بحثه في التراث حول الثقافة المكتوبة التي تدرس ويعاد إنتاجها بأشكال مختلفة بواسطة القوة الفكرية، ولهذا لم يتعامل مع هذا التراث من منطلق أيديولوجي انتقائي لأغراض شخصية أو فئوية، لأن هذا التعامل قد يكون ضد أو مع التراث، حيث ينتقل الإنسان إلى خلافات الماضي أو تنقل إليه ويتبناها ويصبح طرفا في نزاع قديم جديد، فقد تعاطى معه في كليته بفرقه وآرائه ومذاهبه واستخدم منهجه النقدي ليفهم ما تم إنتاجه بشكل حيادي وموضوعي.

 

ويرد الجابري على المتهمين له بتبني أطروحات بعض المستشرقين في اشتباكه مع القضية التراثية، بعدم قبوله الفهم الاستشراقي للتراث، وهو فهم ينتجه الليبرالي العربي الذي ينظر إلى التراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحياه، حاضر الغرب الأوروبي، فيقرأه قراءة أوروباوية النزعة، أي ينظر إليه من منظومة مرجعية أوروبية، ولذلك فهو لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي.

وحتى ندحض الفكرة التي تقول إن الجابري استبطن أيديولوجيته اليسارية في العديد من كتاباته وخصوصا تلك التي تناولت التراث العربي الإسلامي بالنقد والتحليل، فإنه عاب على اليساريين العرب تبني ما أسماه بالسلفية الماركسية في قراءتهم لهذا التراث كمكون أساسي للعقل السياسي العربي، والذي يجب بالنسبة إليهم أن يكون انعكاسا للصراع الطبقي حسب المنهج الجدلي، والهدف إثبات صحة المنهج أكثر منه تطبيقه.

من الجانب الآخر تقديس التراث قد لا يكون له نفس الحاجة كما في السابق وعقلنة هذا التراث مطلب انغمس في تحقيقه الجابري، وذلك بالعودة إلى الشروط التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي أنتجته والمقاصد الأيديولوجية التي خاض بها مرحلته التاريخية.

وهنا يميز الجابري بين النص القرآني مع الحديث النبوي الصحيح وبين أنواع التأويل والفهم للنص الديني، فهو يتحرك في تفكيكه لعناصر التراث الإسلامي من منطلق أن لا أحد يستطيع الادعاء بامتلاكه كما أن احتكار الحقيقة الدينية يتنافى مع الدين نفسه.

الإسلام كما يفهمه الجابري ليس عقيدة فقط بل مشروع حياة والمسلم مطالب بتجديد ذاته وعقليته، ومن هنا التعامل النقدي للتراث الإسلامي العربي كمشروع حياة يتوجب أن ينطلق من الداخل ومن معطيات وأدوات محلية والاستناد إلى منهج نقدي صارم لإعطاء رؤية متجددة للواقع العربي الإسلامي ثقافيا وفكريا وسياسيا، وذلك لتجاوز الكثير من الاعتراضات التي تأتي باسم الدين في الغالب ولا تعبر إلا عن فهم متجاوز.

التراث يحتضن غنى ثقافيا كبيرا ومتنوعا ساهم في تكوينه التراكم التاريخي وتعاقب أجيال من المفكرين والفقهاء والمتصوفة والعلماء والكتاب والفلاسفة والشعراء بصموا العقل العربي الإسلامي بعطاء متنوع في ميادين التحليل العقلي والنظري، لكن الجابري في هذا الباب بالضبط لا ينتهج القياس كآلية لتحليل التراث والتفكير من خلاله ومن ثم البناء عليه لتجاوزه، بل ينطلق من نقد هذا التراث من داخله واستنباط مكامن حيويته ونموه وتقدمه.

إن الهدف الذي يسعى إليه الجابري من خلال عملية نقد التراث جد مهم وخطير أيضا من الجانب الإيجابي، فهو يرى أن تحديث رؤيتنا للتراث يجب أن يواكبه بشكل عقلاني إحياء تلك النقاشات التي كانت دائرة في هذا التراث لمواجهة بعض الرسوبيات التي وصلتنا من عصر الانحطاط وبشكل خاص التقليد.

مركزية الحوار

يرى محمد عابد الجابري أن العقل السياسي عقل حوار بالدرجة الأولى، وهذا ما ينفي عنه رفضه للحوار أو الآخر باعتباره مختلفا، فهو لطالما تقبل الرأي المغاير المبني على الحجة والبينة، وفي ذات السياق ومن خلال مواكبته للإنتاج العقلي العربي الحاضر كشف أن هذا العقل ما زال محكوما بالقيود نفسها التي كان مكبلا بها من قبل.

الكتابة عند الجابري مسؤولية تاريخية وأخلاقية ولا بد من إيصال الفكرة إلى عدد كبير من المتلقين وألا تنحصر في عدد من المثقفين والباحثين وإنما تبسيط عملية التوصيل على مستوى اللغة والتواصل بكل الوسائل ليصل النص إلى الجمهور والتفاعل معه، والغاية هي تحويل الفكر إلى قوة محركة تصنع سيرورة التاريخ وتضع قيودا أمام كل أنواع الاستلاب الفكري والتاريخي والسياسي.

لكن هناك من اتهم  محمد عابد الجابري بأنه كان مثقف البرج العاجي لا يريد ولا يحب الحوار مع مخالفيه ولا مؤيديه، فهذا رأي مبستر وعار عن الصحة وبعيد عن الواقع، فها هو يعترف بأنه مارس عملية الحوار مع المفكر المصري حسن حنفي على صفحات بعض الجرائد، والتقى بمحمد أركون وشاركه في ندوات عديدة، لكن لديه وجهة نظر في مسألة الحوار المباشر مع مجايليه من المفكرين، فلم يحدث في تاريخنا الثقافي أن قام حوار مباشرة بين مفكرين منتجين، ولكن يكون النقاش بين الذين يتلقون فكر هذا الرجل وفكر الآخر ويعيدون إنتاجه.

الجابري ركز بحثه في التراث حول الثقافة المكتوبة التي تدرس ويعاد إنتاجها بأشكال مختلفة بواسطة القوة الفكرية

وألقى المفكر المغربي اللوم على تقييد الحرية بالعالم العربي معتبرا أنها تسببت في قطع الطريق على الكتب والمجلات التي كان بالإمكان أن تحمل المزيد من النقاش والحوارات وتعميق الوعي.

ومن جانب آخر فما يهمه هو فتح النقاش وحمل المشعل بغض النظر عن الأيديولوجية، إذ لا يمانع أن يتصدى لنقاش إسلامي أصولي وينتقده بخطابه نفسه وبمفاهيمه نفسها عندما يوظفها في حقله.

ويمكن تفهم تخوف الجابري من الرد على من حاول استدراجه إلى دوائر السجال الذي لا طائل من ورائه سوى التأويلات المجانية لعدد من مفاهيمه واستنتاجاته بشأن عدد من القضايا المتعلقة بالتراث والثقافة العربية الإسلامية والفكر، وكان تخوفه مؤسسا على أمثلة حية ساقها في كتابه العقل الأخلاقي العربي، عندما تحدث عن نماذج فكرية عملاقة طالتها يد التهميش وقبرت اجتهاداتها التي كان من المفروض أن تؤسس لثورة تجديدية في مجال القيم.

الأنا والآخر

الشخص الذي تصدى لنقد أطروحات الجابري وبنى مشروعه النقدي على ذلك هو المفكر والناقد السوري جورج طرابيشي، بعدما كانا صديقين مقربين منذ أن التقيا على كراسي الدراسة في دمشق واستضافه بعد ذلك ببيته في باريس.

 

لكن التحول الذي حصل هو انقطاع التواصل بين طرابيشي والجابري، عندما بدأ المفكر السوري، بنشر مشروعه “نقد نقد العقل السياسي”، ومع ذلك فعابد الجابري فسر هذا الانقطاع بكون اطلاع مفكر على إنتاج آخر فهو يقوم بعملية الحوار ووجهة نظر الأول، وقد يؤدي هذا إلى وجهة نظر مضادة، ومع ذلك فالحوار قائم، لكن أن يجلس مفكران مقابل بعضهما للتحاور فهذا دعوة إلى التخاصم والاختلاف، هو السائد لأن لكل منهما مسارا ومنهاجا.

وعمل المفكر والناقد، جورج طرابيشي على مشروعه “نقد نقد العقل العربي”، الذي أخذ منه الوقت والجهد الكثير في التمحيص والتدقيق، فضمن إشكاليته الرئيسية في مؤلفاته، “نظرية العقل العربي” و”إشكاليات العقل العربي” و”وحدة العقل العربي” و”العقل المستقيل في الإسلام” لتؤسس مرحلة جديدة من حياته الفكرية، وختم مشروعه النقدي بعنوان “الانقلاب السني من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” وهو خاتمة مشواره مع الجابري، ومع ذلك يقول طرابيشي إننا لسنا أمام مفكر عربي، هذا مفكر من مستوى أوروبي.

ولقد أرجع الجابري ما أسماه باستقالة العقل العربي الإسلامي، إلى عوامل خارجية من غنوصية وهرمسية وأفلاطونية مشرقية، وعرفان مشرقي وغيرها من تيارات الموروث القديم “للآخر” تسلل إلى التراث العربي الإسلامي بشكل متسلسل، عكس المفكر السوري جورج طرابيشي، الذي أكد أن الآليات الداخلية هي السبب، حيث انكفأ العقل العربي الإسلامي على نفسه بفعل تأثير “الأيديولوجية الحديثية” وتغييب القرآن بشكل ضمني أو صريح، وطمس العقل لصالح المعجزة، ما تسبب في اغتيال التعددية والحداثة.

وبعد أن قضى جورج طرابيشي ربع قرن وهو يقرأ مراجع محمد عابد الجابري، والمئات من المراجع في التراث الإسلامي، ومن قبله المسيحي ومن قبلهما التراث اليوناني وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه النقدي، أقرّ له، أنّه أفاده إفادة كبيرة، وأنه أرغمه على إعادة بناء ثقافته التراثية، مؤكدا أنه يدين له بالكثير رغم كلّ النقد الذي وجّهه إليه، وأن الجابري استطاع نقل الفكر العربي في أواخر القرن العشرين من أسر الأيدولوجيا إلى رحاب الابيستمولوجيا.

وفي الأخير استطاع محمد عابد الجابري، في كتابه “تكوين العقل العربي”، أن يحمل بين طياته مفاهيم مؤسسة لنمط آخر من التفكير في السلوك الثقافي والسياسي والمعرفي العربي، جعلت جورج طرابيشي يؤكد أن هذا الكتاب لا يثقف فقط بل يغير أيضا، ومن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه.

 

إعداد: محمد ماموني العلوي

المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى