فكر وفلسفة

“العروي” ناقدا لـ”طه عبد الرحمن”

يقول عبد الله العروي ناقدا الفيلسوف طه عبد الرحمن:

“يتحسر المرء وهو يقرأ كتاب طه عبد الرحمان حول تجديد تقييم التراث إذ يتحقق أن مر السنين لا يزيد المثقفين العرب إلا تقهقرا رغم ما يطالعونه من مؤلفات أجنبية وما يتلقفون من أفكار ينعتونها بالمستوردة. لا يزيدهم الاطلاع إلا انكفاء وانغلاقا.

سقط المؤلف ضحية عوامل عدة: ضحية التأليف الفرنسي المعاصر وانحساره في الإبستمولوجيا.. ضحية التخصص في المنطق.. ضحية وضعية الفلسفة في النظام الجامعي المغربي.

استولت على تدريس الفلسفة العامة جماعة من أساتذة الثانوي زاوجت بين الأدلوجة والسياسة على النمط الشرقي المنحط.

فاضطر طه عبد الرحمان أن يتخصص ويسمع صوت المتخصص في اتجاه معاكس للمتداول، وبما أن المتداول في إبانه ذو طابع عروبي وحدوي تحديثي وربما لائكي، سلك هو مسلكا إسلاميا جمعويا (من جماعة) صلاحيا (يسميه هو تسديديا).

قد يكون توجهه هذا يستجيب لنوازع ذاتية. إلا أنه تقوى بما عايشه، أثناء دراسته، من تحول في الأوساط الفكرية الفرنسية من ابتعاد عن المضمون (الماركسية وما يستتبعها من مفاهيم) وعن السلوك والالتزام (الوجودية وما تحمله من معاني الأصالة والسداد) واستبدال ذلك بالأشكال الصورية (توليد الأفكار على طريقة باشلار وغيره).

(…) ما لم يأخذه في الاعتبار طه عبد الرحمان، لم يبحث عن أصول تفكيره هو في الوقت الذي بحث فيه عن أصول أفكار الآخرين.. لولا أن جل مفاهيمه الإجرائية مأخوذة من هناك وليست مأهولة كما يدعي، أو لنقل مأهولة عبر واسطة، والواسطة- يا للغرابة! هي جماعة المستشرقين الثائرين على الليبرالية في عهد الموجة الشمولانية (التوتاليتارية).

“ميدان التداول” مثلا إنما هو عبارة لسانية عن مفهوم الجماعة، يصفه فقط ثم يدعي أنه يعرفه.
عندما كتبت “الإيدولوجيا العربية المعاصرة” تصورت أننا بعد نقد الفكر الأدلوجي سندخل ميدان الموضوعية.

فيُعنى كل مفكر أو كاتب بجذور أدواته المعرفية ويستعملها بأمانة وصدق وتواضع ليصف ما يواجه من الطبيعة والمجتمع والإنسان في حدود ما يجيزه له المكان والزمان والوضع الاجتماعي والنفسي.
فيمكن الانعتاق من بداهة التراث، هذا ما أسميته بالقطيعة.

فقيل: القطيعة غير ممكنة (مع أنها حاصلة بسبب الاستعمار) وأن معاكسة الوعي بها هو شرط الانغماس مجددا في لب التراث…الواقع أن القطيعة الحاصلة، والتي كنت أدعو فقط إلى الاعتراف بها والانطلاق منها، ظلت للأسف على مستوى الفكر والوجدان ولم تكرس كخطة لتجديد المجتمع واستئناف التاريخ، فعمت الازدواجية وتعمقت وعلى إثرها تقرر التردد والعجز تمهيدا لقطيعة مضادة.

أما الجديد الذي وعدنا به مرارا فإننا لا نزال ننتظره.
كل ما حصل هو البحث عن أصل أعمق أي أبعد عنا وأعرق في الماضي. وهذا هو مشروع طه عبد الرحمان، إذ نصل معه إلى إحياء آليات تكريس ذلك التراث.

كيف يتصور أحد أن تنتج الآليات المذكورة اليوم ما لم تنتجه أمس؟ قد يقال الانفتاح أو الإبداع أو الابتكار غير ممتنع اذ نهتم بالشكل فقط لا بالمضمون (انظر مقابلة الجمود بالجحود في الكتاب).

لكن طه عبد الرحمان نفسه يشير إلى علاقة المضمون بالآلية المنتجة له عندما ينتقد عملية النقل.
فهل تكون العلاقة موجودة إذا تعلق الأمر بأفكار غريبة ومنتفية عندما نباشر أفكارا عربية إسلامية؟ وحتى لو قبلنا الافتراض يجب على الأقل أن نشغل الآليات على مادة جديدة (اقتصاد، سياسة، طبيعة، فن…).

غير أن المؤلف يتجنب كل هذه الموضوعات ليحدثنا فقط عن التراث، أي المنجز الموروث، مقتصرا على تقييمه وتوظيفه… فكيف يقنعنا بأنه يصل يوما إلى غير ما وصل إليه الأقدمون؟

نراه يتحاشى الكلام عن أي مشكل معاصر. الكتاب مليء بالأحكام القاسية على أقوال المعاصرين عن التراث وعلى أغلب مؤلفي الماضي.

لا ينفلت من نقده اللاذع إلا الغزالي وأساتذته في التصوف، ابن حزم وأساتذته في فقه الظاهر، ابن تيمية وأساتذته في الفقه المالكي.

بمعنى أخر لا يرضى صاحبنا إلا على رؤساء السنة في أصول الفقه وما يرتبط به من قواعد اللغة والمنطق، بناء على هذه المادة يتحدد المتداول أي المقبول، فكرا وسلوكا، حسب ما حدده الشرع وأولته السنة عبر مفهومها للإجماع والاجتهاد. […]”.

عبد الله العروي: خواطر الصباح: حجرة في العنق. يوميات (1982- 1999)، الجزء الثالث، المركز الثقافي العربي، 2005، ص: 222-225.

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى