لسانيات

“مدرسة كوبنهاغن” في اللسانيات العربية: بين التلقي النظري والتطبيق المنهجي

منذ منتصف القرن العشرين، بدأ الفكر اللساني العربي يدخل مرحلة جديدة من الوعي البنيوي، متأثرا بالتحولات التي أحدثتها المدارس الأوروبية الكبرى مثل مدرسة جنيف ومدرسة براغ ومدرسة كوبنهاغن. غير أن تأثير الأخيرة، رغم عمقه النظري، ظل محدود الانتشار نسبيا في الدراسات العربية، بسبب طبيعة مشروعها التجريدي الذي أسسه لويس هيلمسليف (Louis Hjelmslev).

ومع ذلك، فقد سعى عدد من اللسانيين العرب إلى استيعاب مبادئ “علم المصطلحات” (La Glossematique)، وتوظيفها في تحليل البنية اللغوية العربية، سواء في بعدها الصرفي أو الدلالي أو التركيبي.

  • 1- جذور التلقي العربي لمدرسة كوبنهاغن

دخلت أفكار مدرسة كوبنهاغن إلى الساحة العربية عبر الترجمات الجامعية والدراسات المقارنة التي انتشرت منذ السبعينيات، متأثرة بأعمال هيلمسليف وبروندال. كان الدافع الرئيس لهذا التلقي هو البحث عن نموذج تحليلي صارم يتيح دراسة اللغة العربية بعيدا عن المقاربات الوصفية أو المقارنة التقليدية.

وقد وجدت النظرية الهيلمسليفية صدى خاصا لدى الباحثين العرب المهتمين بالبنية المجرّدة للغة، خصوصا بعد ترجمة كتاب Prolégomènes à une théorie du langage إلى العربية في الثمانينيات.

  • 2- المبادئ النظرية التي أثّرت في الدرس اللساني العربي

أبرز المفاهيم التي تبناها اللسانيون العرب من مدرسة كوبنهاغن تمثلت في:

  1. ثنائية المحتوى والتعبير: التي ألهمت بعض الدراسات العربية في إعادة النظر في العلاقة بين الدال والمدلول.
  2. الفصل بين الشكل والمادة: حيث تمت محاولة تطبيقها على البنية الصرفية والنحوية للغة العربية لإبراز استقلال البنية المجردة عن الأصوات والمعاني.
  3. اللغة كنظام علائقي مغلق: وهو مبدأ تأثر به باحثون عرب عند تحليلهم للنسق النحوي العربي، باعتباره نظاما قائما على العلاقات لا على الكلمات المفردة.
  4. منطق العلامة والتجريد البنيوي: الذي مثّل ركيزة لكثير من المقاربات السيميائية العربية الحديثة.

3- أبرز اللسانيين العرب الذين تأثروا بمدرسة كوبنهاغن

ظهر التأثر بمدرسة كوبنهاغن عند عدد من الأعلام العرب الذين سعوا إلى تجديد المقاربة البنيوية العربية، ومنهم:

4- حدود التلقي وصعوباته

رغم عمق مشروع كوبنهاغن، إلا أن تجريديته العالية شكّلت عائقا أمام تطبيقه على اللغة العربية التي تتسم بتنوع صرفي وتركيبي ودلالي واسع. كما أن هيمنة المقاربات التوليدية والتحويلية في الجامعات العربية خلال الثمانينيات والتسعينيات همّشت نسبيا الاتجاه الكوبنهاغني.

ومع ذلك، فإن عودة الاهتمام المعاصر بالسيميائيات واللسانيات الوظيفية أعادت إلى السطح كثيرا من أفكار هيلمسليف حول العلاقة بين الشكل والمضمون.

  • 5- نحو قراءة عربية جديدة لتراث كوبنهاغن

اليوم، يشهد الدرس اللساني العربي موجة جديدة من الاهتمام بإعادة قراءة المدارس البنيوية في ضوء التطورات المعرفية والسيميائية. ويمكن القول إن مدرسة كوبنهاغن تقدّم نموذجا مثاليا لتجديد التفكير في اللغة كنظام تجريدي منظم يمكن توظيفه في تحليل النصوص والخطابات العربية المعاصرة.

إن إعادة استثمار مفاهيم مثل المحتوى والتعبير والعلاقات الشكلية والمستويات التجريدية للعلامة تتيح إمكانات جديدة لفهم البنية الداخلية للغة العربية بما يتجاوز المقاربات النحوية التقليدية.

  • خلاصة:

رغم أن مدرسة كوبنهاغن لم تحظَ بالشهرة نفسها التي حازتها مدرستا جنيف وبراغ في العالم العربي، فإن تأثيرها ظل عميقا في صمت، حاضرا في خلفية التحليل اللساني والسيميائي العربي. ويبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد إحياء أكاديميا لهذا الإرث الفكري في ضوء المقاربات الوظيفية والتداولية الجديدة.

  • قائمة المراجع:
  1. تمام حسان. اللغة العربية معناها ومبناها. القاهرة: دار الثقافة، 1979.
  2. عبد القادر الفاسي الفهري. اللسانيات واللغة العربية: نحو نظرية توليدية وظيفية. الدار البيضاء: دار توبقال، 1982.
  3. عبد السلام المسدي. اللسانيات وأسسها المعرفية. بيروت: دار توبقال، 1986.
  4. محمد الحناش. الخطاب والسياق: دراسات في التداوليات. الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2003.
  5. أحمد المتوكل. من اللسانيات البنيوية إلى اللسانيات الوظيفية. الرباط: منشورات كلية الآداب، 1995.
  6. محمد أوراغ. التحليل اللساني للنص العربي: مقاربة بنيوية وظيفية. الرباط: منشورات دار الأمان، 2010.
  7. عبد الرحمن الحاج صالح. من قضايا اللغة العربية في اللسانيات الحديثة. الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1985.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى