نونية ابن زيدون
وهي قصيدته الفراقية، ومن أشهر روائع الشعر الأندلسي
أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا … وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا
*
ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا … حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا
*
مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم … حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
*
أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا … أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا
*
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى … فدعوا بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا
*
فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا … وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
*
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم … رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا
*
ما حقنا أن تُقروا عينَ ذي حسد … بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينا
*
كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضُه … وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا
*
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحُنا … شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا
*
نكاد حين تُناجيكم ضمائرُنا … يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
*
حالت لفقدكم أيامنا فَغَدَتْ … سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
*
إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألُّفنا … وموردُ اللهو صافٍ من تصافينا
*
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصل دانية … قطوفُها فجنينا منه ما شِينا
*
ليسقِ عهدكم عهد السرور … فما كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
*
لا تحسبوا نَأْيكم عنا يُغيِّرنا … أن طالما غيَّر النأي المحبينا
*
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً … منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
*
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به .. من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينا
*
واسأل هناك هل عنَّي تذكرنا … إلفًا، تذكره أمسى يُعنِّينا
*
ويا نسيمَ الصِّبا بلغ تحيتنا من … لو على البعد حيًّا كان يُحيينا
*
فهل أرى الدهر يَقصينا مُساعَفةً … منه ولم يكن غِبًّا تقاضينا
*
ربيب ملك كأن الله أنشأه … مسكًا وقدَّر إنشاء الورى طينا
*
أو صاغه ورِقًا محضًا وتَوَّجَه … مِن ناصع التبر إبداعًا وتحسينا
*
إذا تَأَوَّد آدته رفاهيَة … تُومُ العُقُود وأَدْمَته البُرى لِينا
*
كانت له الشمسُ ظِئْرًا في أَكِلَّتِه … بل ما تَجَلَّى لها إلا أحايينا
*
كأنما أثبتت في صحن وجنته … زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينا
*
ما ضَرَّ أن لم نكن أكفاءَه شرفًا … وفي المودة كافٍ من تَكَافينا
*
يا روضةً طالما أجْنَتْ لَوَاحِظَنا … وردًا أجلاه الصبا غَضًّا ونَسْرينا
*
ويا حياةً تَمَلَّيْنا بزهرتها … مُنًى ضُرُوبًا ولذَّاتٍ أفانِينا
*
ويا نعيمًا خَطَرْنا من غَضَارته … في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَه حِينا
*
لسنا نُسَمِّيك إجلالاً وتَكْرِمَة … وقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا
*
إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ في صفةٍ … فحسبنا الوصف إيضاحًا وتَبيينا
*
يا جنةَ الخلد أُبدلنا بسَلْسِلها … والكوثر العذب زَقُّومًا وغِسلينا
*
كأننا لم نَبِت والوصل ثالثنا … والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا
*
سِرَّانِ في خاطرِ الظَّلْماء يَكتُمُنا … حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا
*
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ … نَهَتْ عنه النُّهَى وتَركْنا الصبر ناسِينا
*
إذا قرأنا الأسى يومَ النَّوى سُوَرًا … مكتوبة وأخذنا الصبر تَلْقِينا
*
أمَّا هواكِ فلم نعدل بمنهله … شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا
*
لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبه … سالين عنه ولم نهجره قالينا
*
ولا اختيارًا تجنبناه عن كَثَبٍ … لكن عدتنا على كره عوادينا
*
نأسى عليك إذا حُثَّت مُشَعْشَعةً … فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغَنِّينا
*
لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى من شمائلنا … سِيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلهينا
*
دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظةً … فالحُرُّ مَنْ دان إنصافًا كما دِينَا
*
فما اسْتَعَضْنا خليلاً مِنك يَحْبسنا … ولا استفدنا حبيبًا عنك يُثْنينا
*
ولو صَبَا نَحْوَنا من عُلْوِ مَطْلَعِه … بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشاكِ يُصْبِينا
*
أَوْلِي وفاءً وإن لم تَبْذُلِي صِلَةً … فالطيفُ يُقْنِعُنا والذِّكْرُ يَكْفِينا
*
وفي الجوابِ متاعٌ لو شفعتِ به … بِيْضَ الأيادي التي ما زلْتِ تُولِينا
*
عليكِ مِني سلامُ اللهِ ما بَقِيَتْ … صَبَابةٌ منكِ نُخْفِيها فَتُخفينا