أدب وفنون

“فيروز قصة عمر”.. صوت لبنان الصادح في الآفاق منذ 70 عاما

 

لطالما اعتاد الناس في العالم العربي على سماع فيروز أو ما يعرف بالفيروزيات، حين يصدح صباحهم بصوتها ويشرق مع ترانيمها، إنه صوت ملائكي تتدرج طبقاته كعزف على قيثارة، فيتدفق بعذوبة ورقة كجدول رقراق يتوغل ويلامس قلوبنا.

صوتها هو هويتها، عندما تغني فيروز للحب تؤجج فينا مشاعره، وعندما تغني للوطن يتملكنا الحنين إليه، فهي لا تشدو فحسب بل ترتل، ليصبح اللحن طيّعا أمام قدرات صوتها المذهل.

يعرض هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية مقابلة نادرة للفنانة فيروز مع مشاهد نادرة لها منذ طفولتها، مرورا بنجاحاتها في عالم الفن وعلاقتها بزوجها عاصي الرحباني والعائلة.

 

مقالات ذات صلة
  • “كنت أسمع المقطوعة وأحفظها”.. طفولة على نغم الموسيقى

قضت فيروز طفولتها في حي البسطة زقاق البلاط في بيروت، واسمها الحقيقي نهاد وديع حداد، وتنتمي لأسرة مسيحية بسيطة ومتواضعة. تقول فيروز: كانت عائلتي فقيرة ومتواضعة، ولكنها مترابطة.

رحل والداها وديع وليزا إلى بيروت بحثا عن حياة أفضل، وهناك عمل والدها في مطبعة، فقد كانت المدينة في ثلاثينيات القرن الماضي مزدهرة وعالمية تربطها علاقات بالانتداب، وقد شكلت وقتها نموذجا للدولة المتوسطية الحديثة.

أحبت فيروز الموسيقى منذ طفولتها، وكانت تحرص على سماعها، إذ تقول: كنت أتتبع الموسيقى ولم يكن عندي راديو، فأستمع إلى راديو الجيران، وكنت أسمع المقطوعة وأحفظها.

حينذاك كانت الإذاعة اللبنانية أكثر الإذاعات العربية تطورا، وكانت تبث أغاني فريد الأطرش وأسمهان، وتذكر أنها عندما كانت تسمع الأغاني في الصباح كانت تردد مع المذياع فينزعج جارهم الذي يعمل بالليل وينام في النهار، ويبدأ بالصراخ والشتم، وتضيف: كنا نتعلم بالمدرسة الأناشيد، وإذا ارتفعت حرارتي آخذ العلامة دون أن أرتل مع الأولاد.

في حي بسيط من ضيعات لبنان ولدت فيروز وترعرعت في كنف أبيها وأمها وجدتها في حياة هادئة هانئة

  • “كنا نتشارك الأفراح والأحزان”.. حقبة ما قبل الطائفية

تربت فيروز على المبادئ والقيم السامية، وهي شخصية هادئة ومرحة، وقد ارتبطت حياتها بالجبل حيث ولدت. تقول: كانت حياتي بسيطة هادئة، وبقيت ضيعتنا ساكنة تشبه طفولتي، لم أكن ألعب مع الصغار وكنت أعيش مع جدتي، نحضر الماء من النبع ونحضر الطعام وننظف البيت فينقضي النهار، ومع عدم وجود الكهرباء كنا ننام مبكرا، حياة محدودة لكني أحبها، وكنت أغني مع نفسي لأن جدتي لم تكن تملك راديو، أغنية “ستي” تذكرني دائما بالضيعة وجدتي كانت تحكي لي حكايات، ولم يكن في حياتي هم.

كانت قرية فيروز مسيحية تجاورها قرية درزية، وكانوا يسمعون صوت الأذان عن قرب، أما مناسباتهم فكانوا يتشاركونها جميعا. تقول فيروز: كان الجيران خليطا، وكنا نتشارك الأفراح  والأحزان، وكان الصيف ينقضي سريعا لأن الوقت الذي نحبه يمر بسرعة، أما في العودة إلى المدرسة فكنت أبكي طول الطريق، فكل شيء يذكرني بشيء، جدتي وأمي وأبي وكلهم رحلوا.

فيروز هو اسم فوهة قمرية على الوجه البعيد من القمر، أطلقه الاتحاد الفلكي الدولي تكريما لها على نجوميتها


  • أداء السلام الوطني.. اكتشاف موهبة عملاقة

شهد لبنان نموا سريعا في الأربعينيات، وكانت بيروت منارة للثقافة، وفي يوم من أيام المدرسة كانت فيروز تؤدي السلام الوطني، فسمعها أستاذ الموسيقى وأدرك بأنها موهوبة وشجعها على أخذ دروس في الموسيقى.

بعد ذلك فتحت أمامها فرصة للغناء في كورال الإذاعة، وقبل والدها الأمر على مضض شريطة أن يرافقها شقيقها، ولكي يبقى ذلك سرا اختارت لها اسم فيروز، لكن الاستعراض الخاص بالفتيات المجتهدات أصبح أمام الجمهور.

تقول فيروز: عندما سمعوني في المدرسة اقترحوا أن أذهب إلى “الكونسيرفاتوار” (معهد باريس للموسيقى) وأصبحنا نقدم من خلاله أناشيد للإذاعة، بعدها توظفت وطلبوا مني أن أغني فغنيت موالا لأسمهان وأغنية فريد الأطرش “يا زهرة في حياتي”.

فيروز تلتقي بتوأم روحها عاصي رحباني الذي شكل وأخوه منصور وفيروز ثلاثيا لم يتكرر في تاريخ اللحن العربي


  • فيروز والأخوان رحباني.. لقاء الكلمة واللحن والحنجرة

تقول فيروز: كانت رغبتي وأسلوب حياتي في البداية مختلفا عن الجو الفني الذي يعرفه الناس، فكنت محافظة ونشاطي ينحصر ما بين البيت والإذاعة فقط، وهكذا بدأت مشواري وتعرفت على (الأخوين رحباني) عاصي ومنصور فقد كانا موظفين في الإذاعة وقتها.

كان عاصي في بداياته شرطيا لكنه كان مولعا بالموسيقى، ويحب عروض “إدوارد دوبياك” وفرقته الأرجنتينية، ولهذا السبب التحق بالإذاعة.

عُرف العملاقان عاصي ومنصور الرحباني بموهبتهما الفذة، وقد عملا بجد معا على مدار سنوات عديدة، وكان عاصي بارعا في مجال التلحين بينما برع منصور في التأليف، وأسسا معا مدرسة موسيقية متفردة.

تقول فيروز عن أسلوبهما: شكل عاصي ومنصور الفن اللبناني، وهو ليس فنا تقليديا، بل عبارة عن مزيج بين الجملة الفنية اللبنانية والنفحة الغربية وهي مختلفة عن الجملة العربية المألوفة.

كلمات منصور رحباني كان يترجمها عاصي لحنا تغنيه فيروز بصوتها النادر بطريقة فريدة عرفت بعد ذلك بلحن الرحابنة


  • سطوع نجم آل رحباني.. زواج على غير ميعاد

شهد عام ١٩٥٢ سطوع نجم الثلاثي فيروز وعاصي ومنصور الرحباني، وحققت فيروز نجاحا مبهرا، ورأى عاصي فيها فتاة أحلامه وحب حياته، لكن فيروز كانت لا تريد الزواج في ذلك الوقت، ولم تكن ترى نفسها مطربة، غير أن عاصي تمكن بمساعدة منصور من إقناعها بالزواج، وفي يوليو/تموز من عام ١٩٥٤ تزوجا، وقد منحاها اسم عائلة جديد.

تقول فيروز إن عاصي كان سريع العطاء وهي سريعة التلقي، ولم تربطهما علاقة كثيرة مع الناس كانوا يعملون ليلا ونهارا، فقد كانت تعيش لفنها، وعندما تظهر في الحياة تشعر بالخطيئة، وكان قربهما يجعل فنهما يكبر.

كانت فيروز تدخل الأستوديو مع زوجها عاصي وأخيه منصور الرحباني للتسجيل والتدريب فيطلع عليهم النهار وهم يتدربون


  • “ندخل الأستوديو ولا نعلم متى سنخرج”

وتصف فيروز عاصي بأنه كان صعبا وقاسيا في الفن، وأنها ابنة تلك المرحلة القاسية، فقد كانت تخاف من أن تتقدم أو أن تعمل، ولكن إصرار عاصي ورؤيته بأنها تجيد كل تلك الأدوار التي كلفها بها دعمها وساعد في تقدمها، فقد اختار لها أغانيها، وعندما كان يقرر فإنه ينفذ.

وتضيف فيروز: كنا نخلق موجة جديدة، ففي البداية لم نكن محبوبين لكنها فترة لم تطل، تابعنا الطريق وكل شيء كان قاسيا وأكملنا الطريق، وكنا نواصل الليل بالنهار ولا نميز بينهما إلا عندما تشرق الشمس، ندخل الأستوديو ولا نعلم متى سنخرج، ولم يكن للوقت معنى، ومرت السنوات على هذا النحو، وكان الأخوان رحباني داعمين لي بعد ذلك، وجدت نفسي في هذا المكان وأحببته، وأصبح عملنا يكبر من الأغنية للمسرحية للقصة الكبيرة، وغدا عملنا أوسع وأجمل، كان هذا هو المكان الذي كنت أبحث عنه دون أن أعلم.

زيارة فيروز لـ”الكونسيرفاتوار” (معهد باريس للموسيقى) وغنائها موالا لأسمهان كانت أول خطوات النجومية


  • سويسرا الشرق.. لبنان ما قبل الحرب

عرف لبنان في الستينيات بسويسرا الشرق، فكان الوضع فيه مستقرا وتعيش جميع الطوائف فيه بسلام، بينما كان محيطه العربي في صراعات محتدمة، وكذلك بدأت الدول النفطية بالصعود.

تمتع لبنان في تلك الفترة بحرية التعبير سواء بما يكتب في الصحافة أو ما يبث في البرامج التلفزيونية، وأصبحت المدرسة الرحبانية منافسة قوية للموسيقى المصرية، وقام الموسيقار محمد عبد الوهاب بتلحين مجموعة من الأغاني لفيروز.

 

  • مهرجان بعلبك.. “هل سيحب الناس أعمالي؟”

جسدت فيروز نمطا جديدا للنجومية العربية وكانت رمزا للطموح والبراءة، تقول: “كنت أهرب عندما يراني الناس خجلا، كان ما يهمني هو هل سيحب الناس أعمالي؟”، كانت تأتي مع عائلتها في المناسبات، وأول من اعترف لفيروز بموهبتها وقدرها هي الفنانة صباح.

بدأت فيروز بجولات غنائية طويلة تجوب الوطن، ولاقى صوتها استحسانا جماهيرا وكان من بين معجبيها كثير من الملوك ورؤساء الدول، ورغم شهرتها فقد كانت فيروز زوجة وأما حريصة كل الحرص على عائلتها، وقد هيأت لأولادها حياة خاصة بعيدا عن صخب النجومية.

كان مهرجان بعلبك محطة مهمة في مسيرة فيروز الفنية، وكان كثير من معجبيها ومحبيها يأتون للمهرجان لسماع صوتها، وتقول عن ذلك: عشنا سنين من الازدهار في بعلبك، حيث كان لبنان في أهم مرحلة جمالية وحياتية، وبعلبك مكان تاريخي مهم، والأغنية إحساسها يتغير ببعلبك وجمهور بعلبك أيضا مهم يضيف للفنان ويلهمه، بعلبك مكان فيه جمال وثراء للوجود والفن.

حظيت القدس بالعديد من أغاني فيروز، كما هو الحال مع كثير من العواصم العربية، لكن لبنان كان له حصة الأسد


  • سينما الجبل الرومانسية الحالمة.. ذكريات الأشياء الجميلة

لم تقبل فيروز أن تترك أطفالها من أجل السينما، بل السينما هي من أتت إليها، وذلك حين قدم هنري بركات ويوسف شاهين إلى بيروت. تقول عن تجربتها السينمائية: لم أقبل وخفت كثيرا، لكن عاصي كان يريد أن يرى النتيجة ولم يرد على إجابتي، كنت أحيانا أبكي وأخبره أني لا أستطيع، فيقول لي لا عليك.

تعتبر فيروز أفلامها تذكارا يبقي لها الأشياء الجميلة في الذاكرة، كالبيوت والأماكن والقصص والناس، وهي تحافظ على ما أرادوا له أن يبقى.

لم تحوِ أفلام فيروز أي مشاهد خادشة أو مشاهد عنف، فهي تتحدث عن ذكرياتها الخاصة حيث نشأت في جبال الأرز، وشكلت أفلامها الوعي الحديث، ونقلت جغرافية المكان وإنسانيته برومانسية حالمة، وفي أغانيها أعادت للبنانيي المهجر ملامح بلدهم وأشبعت حنينهم إليه.

بنجاح زيارتها إلى أمريكا سنة 1971 وإحيائها للحفلات هناك، فتحت أمام فيروز أبواب الدول ومسارحها


  • رحلة إلى الولايات المتحدة.. مفتاح العالمية

سافر الثلاثي فيروز والأخوان رحباني إلى الولايات المتحدة عام ١٩٧١ فبدأوا بالمدن الصغيرة ثم انتقلوا إلى نيويورك، وكانت فيروز قلقة بسبب البدايات السيئة كطريقة تعاطي مدير المسرح معهم ومتعهد الحفلات المفقود وغرف الملابس السيئة والقاعات المعتمة، لكن عاصي تصرف بطريقة إيجابية مع هذه التجربة.

تقول فيروز: قال لي عاصي لو لم يأت أحد غنّي، قلت له كيف سأغني إن لم يكن هناك أحد؟ وأخذ يسرد لي القصص حتى لا أفكر بالموضوع، وأردت أن أبكي، وعندما حل الليل دخلت المسرح فكانت القاعة مليئة بالناس، وغنيت، وكتب في حق الحفلة آراء وكتابات مهمة، وأصبحت الرحلة جميلة بعد هذه الليلة، وانتهت نهاية سعيدة.

فتحت تلك الرحلة الغنائية الناجحة لفيروز الباب نحو العالم على مصراعيه، كان الجمهور متشوقا لسماع صوتها في مدن عدة كلندن وباريس ومونتريال، وكانت تلاقي تجاوبا كبيرا وحققت نجاحات متتالية، وعندما غنت على مسرح الأولمبيا للمرة الأولى في باريس عام ١٩٧٩ باعت عشرة ملايين إسطوانة.

حدادا على ضحايا الحرب الأهلية في لبنان، اعتزلت فيروز الغناء مدة أربع سنوات 


  • أيام الحرب الأهلية.. أوركسترا سلام

دخلت فيروز في حالة من الحداد والحزن لأربع سنوات لم تغنّ فيها بسبب الحرب الأهلية، وقد رفضت أن تنحاز لأي من الفرقاء، كما أنها لم ترغب بالرحيل عن الوطن، وكان حفلها الغنائي الذي أقامته في لبنان بعد ذلك وقاد فيه عاصي الأوركسترا بمثابة رسالة سلام.

لكن على ما يبدو فإن السلام في لبنان حلم صعب المنال، فعلى الرغم من انتهاء الحرب فإن نار الفرقة والطائفية شبّت واشتعلت ورسخت منظومة سياسية واجتماعية جديدة غيرت وجه لبنان، إذ تقول: لا يمكن الهروب من الماضي، وسيبقى الإنسان يتذكره، فالذكريات في أيام تكون حزينة وفي أخرى سعيدة.

كانت فيروز قلقة بشأن عاصي الذي أنهكه العمل المضني المتواصل، وتقول: “عندما مرض عاصي بدأت أشعر بأشياء كثيرة لا أستطيع البوح بها، شعرت بأكثر من خوف، أولها عندما أعمل عملا هل سيحبه الناس، كنت أخاف على نفسي وعلى عاصي وعلى عملنا”، وفعلا بعد وفاته أغلق مسرح البيكاديلي، فلن تكون هناك مسرحيات أخرى للأخوين رحباني.

في وداع زوجها عاصي، غنت فيروز “نطرتك عبابي في ليلة العيد.. ومروا كل صحابي ووحدك اللي بعيد”


  • ساحة بيروت.. كسر العزلة بعد صمت طويل

مات عاصي وبقي صوت فيروز، أتعبها موته وأشعرها كم كان يحمل عنها من أعباء الحياة، عندما تغني يكون موجودا ليس فقط بالأغنية لكن بشخصه، فهي تعتقد أنها كانت تعمل الأشياء كما يحبها هو.

عام ١٩٩٤ خرجت فيروز من عزلتها لتغني في ساحة بيروت، وكان اللبنانيون يشقون طريقهم بين الدمار الذي خلفته الحرب.

وتختم المقابلة بقولها: مافي صفحة بتنطوي ولا شي بفل، كل شي يبقى بالنفس بحسب اللحظة إللي بتخليك ترجع، وكم رح ترجع ولوين ولمين.

 

خاص للجزيرة الوثائقية 

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى