زلّة وَتَر
استيقظت مسرعة كعادتها، لكن هذا الصباح ليس كباقي الصباحات. اتجهت نحو الشرفة المطلة على شجرة الصفصاف الوارفة، ابتسمت وتنهدت بعمق، حدثت نفسها “اليوم سوف أرى حلمي يتحقق، أخيرا سيرى النور، ويسمع العالم لحني الجميل الذي سهرت الليالي من أجل إخراجه للوجود.
كانت متوترة قليلا، فهي لم تنعم بنوم هادىء منذ أيام. رأت ملامحها في المرآة كان التعب باديا على وجهها الملائكي والسهر رسم بريشته لونا قرمزيا تحت مقلتيها الجميلتين.
لم تكترث لكل ذلك ابتسمت واستدارت نحو خزانة الملابس ارتدت فستانا أسود كجنح الليل، وربطت حول جيدها وشاحا أحمر قديما مزينا بقلوب بيضاء صغيرة، استنشقت ريحه وطبعت قبلة هادئة عليه، فترقرقت دمعة خفية من عينيها النجلاوين، إنه هدية غالية من أمها الراحلة.
وضعت الحذاء الأحمر المركون على الرف في قدميها، وحملت الكمان فوق كتفيها وركضت بخطى رشيقة نحو الدرج، لكن ما إن وصلت عتبة الباب الخارجي حتى عادت مسرعة نحو غرفتها، فقد نسيت حقيبتها وهاتفها الخلوي الذي لم تتصفحه كعادتها هذا الصباح، لتتأمل بطاقات الورود التي يرسلها الأصدقاء. فهي عاشقة الورود الأولى كما يقال عنها.
انطلقت مسرعة بسيارتها السوداء الصغيرة نحو المدينة. اليوم أول أيام الربيع الجميلة والحقول في أبهى حللها واليوم أيضا هو يوم ميلاد لحنها الذي أطلقت عليه اسم “زلة وتر” والذي سيرى النور على خشبة المسرح الكبير بالمدينة، كتبت سلمه الموسيقي بعطر أنفاس ذلك الطارق الذي أحيا روحها الذابلة، ومع وكل جرة قوس من الكمان، كانت تستعرض عمرا من الذكريات. أرادت أن يصل إحساسها إلى كل القلوب الحالمة، وتحيي موسيقاها نفوسا اعتراها العدم.
وصلت المسرح وكلها حماس، كانت الصالة ممتلئة عن آخرها، وقفت خلف الستارة ودقات قلبها المتسارعة المتعالية تكاد تسمع للجميع. فجأة التف حولها أصدقاؤها الذين آمنوا بموهبتها، فرحت بوجودهم لكنه لم يكن حاضرا بينهم، زاد ارتباكها، وسألت:
– لماذا تأخر؟ هل حصل له مكروه؟!
طمأنها الجميع أن ازدحام الطريق قد يكون منعه من الحضور باكرا. لكن نظراتهم بها غموض وهروب.
– لا ، لا يمكن أن يتأخر فقد وعدني أنه سيكون أول الحاضرين، هو من رافقني في كل خطوة كنت أخطوها وجعل حلمي يكبر ، لا..لا يمكن ألا يأتي فهو يعلم أني أنتظره ولم يخذلني مرة.
وسط هواجسها المتضاربة، رفع الستار وتقدمت بخطوات ثابتة نحو الأمام، وسط تصفيقات الجمهور، كانت عيناها الناهمتين تبحثان عنه بين الصفوف، وفي هتافهم كانت تستجدي صوته الرخيم.
نسيت الارتباك والتوتر، عانقت الكمان واسترسلت في العزف راسمة صورته في خيالها الصغير، بدت هي والكمان كأميرة حسناء تراقص فارس أحلامها الوسيم تحت زخات المطر، لحنها الشجي أخرس الجميع وأدمع أعين الكثير.
انتهى العرض وسط تصفيقات الجمهور المتعالية، وعبارات الإطراء الحانية. كانت تلقي التحية وتسترق النظرات هنا وهناك علها تراه بين الجموع، بعد برهة تسللت بسرعة نحوغرفة الملابس بالمسرح، حملت هاتفها لكي تتصل به ويداها ترتعشان، نسيت اللحن الجميل والتعب والجمهور والنجاح.. وتذكرت كلامه لها قبل سنة من مجيئه إلى تلك البلدة الجميلة عن عدم ارتياحه في عمله الجديد، رئيسه في العمل إنسان متسلط، جشع لاقانون يعلو فوق صوته، بينما هو كان رجل مبادئ، لا يقبل أن يتنازل عن نزاهته مهما كلفه الأمر.
– أتراه لم يعدل عن فكرة الرحيل.
لم يعد يحدثني في هذا الأمر منذ مدة، فظننت أنه وجد سببا قويا يبقيه هنا.
وفي عمق هذيانها شعرت بخطى متثاقلة تتجه نحوها إنه هو، وماكادت ترفع رأسها حتى رأته وثلة من الأصدقاء، تقدم نحوها فشد على يديها المرتعشتين بحرارة وهمس بصوته العميق:
– لقد كنت رائعة كعادتك.
خفق فؤادها فرحا لكن شيئا ما بداخلها يخبرها أن هناك خطبا، فلأول مرة يشيح بعينيه عن وجهها وهو يحادثها، حتى ابتسامته لها كانت مختلفة.
تقاذفتها الهواجس فتعالى صوت أحدهم من بعيد:
– هنيئا لك سيدي، سوف نشتاق إليك.
استرجعت حديث الرحيل في نفسها، فتحجرت الدموع بعينيها وبدا إحساسها فارغا.
نظرت إليه في ذهول، فبادرها قائلا:
– لم أكن لأخبرك قبل هذه اللحظة، أردت أن تكملي لحننا الجميل، وتشقي طريق النجاح لوحدك لأنك تمتلكين الموهبة.
كلامه ألجمها، لكن دمع العين انفجر في صمت وقال كل الكلام.
حملت بعضها مسرعة تاركة اللحن والكمان والجمهور والنجاح… وعادت بخيباتها المعهودة فأوت إلى ذلك الركن البعيد الذي يعج بصور الغائبين الذين رحلوا عن حياتها تباعا… تتأمل ملامحهم التي حفرت في قلبها أخاديد من الذكريات الحالمة. لاحقتها الأصوات من الداخل :
-أحقا رحل للأبد.. أحقا لن أرى إشراقة وجهه كل صباح… أحقا سيمضي كمن مروا من هنا، ليتحول وجهه طيفا ووجوده مجرد ذكرى، أحقا.. أحقا.. أحقا.. ثم أمسكت برأسها الصغير بين كفيها كأنها تريد أن تخنق الأصوات المتعالية بداخلها.
فاندفعت خارج المكان لا تلوي على شيء، حتى وقفت تحت شجرة الصفصاف الوارفة وقد تدلت أغصانها في حنو لتضمها كما تضم الأم وليدها، جلست بين يديها،واسندت ظهرها في استرخاء إلى جدعها، تفترش الأرض وقلبها يعزف لحنا داميا، التفتت وكتبت على جذعها ‘اليوم رحلت روحي مع زلة وتر.
فريدة عدنان: قاصة وشاعرة من المغرب.